تلقيت ببالغ من السعادة والسرور تلكم الدعوة الكريمة التي سمحت لي بالمشاركة في هذه الفعالية المهمة الخاصة بتدشين كتاب (العرب على مفترق طرق) للكاتبة القديرة والسياسية البارعة سعادة الأستاذة سميرة رجب. وبهذه المناسبة أود في البداية أن أسجل خالص شكري وعظيم تقديري إلى سعادة / السيد نجيب فريجي مدير المعهد الدولي للسلام (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) على هذه الدعوة الكريمة وعلى ثقته الغالية في تقديم هذه المشاركة، كما يسعدني ويشرفني أن أهنئ الكاتبة القديرة والسياسية البارعة ذات الرؤية الدقيقة والثاقبة الأستاذة سميرة رجب على كتابها الجديد في ثوبه القشيب " العرب على مفترق طرق " مؤملاً أن تتلو هذا الكتاب كتب أخرى، وأن يعقب هذا النجاح نجاحات أرقى وأنقى إن شاء الله تعالى. 

والحق أن الكتاب قد يبدو للقارئ عند نظرته الأولية المتعجلة أنه مقالات متناثرة أو محاضرات مختلفة لا يربطها رابط وثيق ولا يجمعها طريق دقيق، وليست قائمة على أساس من خطة محكمة، شأنها عموما شأن الأحداث السياسية المتناثرة على الساحة الدولية، أو الخريطة الإقليمية، حيث تظهر على جانب من هذه الساحة أو تلكم الخريطة هنا أحداث سياسية وهناك احداث اقتصادية وهنالك أحداث قانونية أو عقابية أو غير ذلك. هذه هي النظرة المتعجلة، أما عند النظرة المتأنية للقارئ، سيجد أن هذه الموضوعات التي تضمنها الكتاب، قد انتظمت بدقة بالغة، حتى إنها تكاد تشكل عقدا منظوما، عقدا من اللآلئ الثمينة والدرر المكنونة التي استطاعت بدقة بالغة أن ترسم صورة واضحة للعرب، في ظل النظام الدولي الراهن، وهم على مفترق الطرق، وسط هذه الأحداث الأليمة التي أحدقت بالمنطقة العربية ومنها منطقة الخليج العربي، لقد كان الكتاب، بارعا في رسم هذه الصورة للمنطقة العربية بأحداثها المتناثرة وتوتراتها الطاحنة، ونزاعاتها العديدة ، ودمائها المراهقة، وتحليل كل ذلك في ضوء ما أسماه الكتاب بنظرية المؤامرة أو التدخل الخارجي لمحاربة الإرهاب، والذي بات واضحا على حد تعبير الكتاب. وأن دور هذا التدخل الرئيس هو رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد بالدم وعذابات الشعوب إلى أمد غير منظور.

والخيط الرفيع الذي جعل من هذه المقالات عقدا منتظما، من وجهة نظري المتواضعة على الأقل، هو تركيزها جميعا على بيان الأسباب والأوضاع التي وصلت بالمنطقة العربية إلى هذا المفترق. وقد ركّز الكتاب على أسباب متعددة تختلف أوزانها في الأهمية والقيمة، لكنها على كل حال هي التي أدّت مجتمعة إلى هذا الوضع الحرج، ولعل في مقدمة هذه الأسباب، عدم الإفادة من دروس التاريخ، مع أن التاريخ يعيد نفسه، ولابد من الإفادة من دروس الماضي حتّى نتجنب الوقوع فيها في المستقبل ( وقد مس ذلك في المقال الأول والثاني )، ومنها الفراغ العلمي الذي تعيشه المنطقة العربية، حيث خلق أجيالا عربية على درجة من القصور الثقافي حتى في القيم والثوابت والمبادئ الفكرية السياسية والوطنية، وتغيبت ضرورات الإعداد السياسي البنيوي لما هو قادم لا محالة (المثقل الثالث والرابع) ومنها المتغيرات السياسية وظهور النظام الدولي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولة هذا النظام السيطرة على العالم وخاصة المناطق العربية التي تمثل قلب العالم، ومنطقة موارده ونشاطه الاقتصادي، بل ومحاولته تفتيت العالم الإسلامي، حتي يسهل التهام هذه البلاد بلدا بلدا، تماما كما يلتهم الرغيف لقمة لقمة (وقد مس ذلك في المقال الخامس والسادس وعاد إليه بعمق في المقال الثاني عشر عندما عالج كيفية صناعة الدولة الفاشلة من قبل هذا النظام الدولي الجديد . . واعتبر العراق نموذجا). ومنها ما عرف بنظرية المؤامرة والدور الإيراني فيها، ودور هذه النظرية أيضا في انهيار بعض الانظمة العربية بطريقة مفاجأة، (وقد مس ذلك في المقالات السابع والثامن والحادي عشر والثالث عشر). وأخيرا منها الأسباب الاقتصادية واستغلال القوى الناعمة ووسائل الإعلام الذكية (وقد مس ذلك في المقال العاشر والرابع عشر والخامس عشر).

ولم يغب عن بال الكاتبة، أن تقدم للمنطقة العربية ما يضيء لها طريقها، ويحدد لها مسارها، ويساعدها في الخروج من المأزق الراهن، بعد أن أدركت أن القضية الآن قضية وجود أو عدم، وأن قصد إضعاف الدول العربية أو تفتيتها وتقسيمها لم يتوقف عند الحد الذي وصل إليه، لأن الفيروس كما قالت قد انطلق، ولا توجد مناعة دائمة للتخلص منه، والانتصار لن يكون إلا إذا جرى التخطيط له، وقام على استراتيجية شاملة تحشد وتعبئ وتتجه نحو تحقيق أهدافها بشجاعة. لقد اتفقت بحق مع بعض كتاب السياسية على أن المنطقة العربية بحاجة إلى بعض المهام لإيقاف السيل الجارف من الدماء الذي يجتاح دولنا العربية ضمن مشروعات دولية غريبة، ونزاعات طاحنة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وهذه المهام هي: أولا، ضرورة استعادة شكل الدولة بهيبتها ونظامها ومؤسساتها وتقديم المصالح العامة بها، وثانيا: ضرورة استعادة الدين، بمنهجه الوسطي، وفكره الإنساني، واعتداله المثالي، وأحكامه الواقعية، وثالثا: ضرورة استعادة النظام الإقليمي، الذي يعمل على تحقيق التضامن والتعاون بين دول المنطقة، خاصة وأن العالم الغربي يتجه نحو التحالفات والاتحادات بين دوله، رغم أنها متباينة في العادات والديانات واللغات، لكن يجمعها النظام الإقليمي الممثل في الاتحاد الأوربي. 

وبهذه المناسبة كنت أود أن يؤكد الكتاب في مقال خاص، عن دور التنظيم الإقليمي في توجيه الدول عند هذا المفترق، وضرورة الاهتمام به وتفعيل مبادئه، وأقصد بالتنظيم الإقليمي هنا، مجلس التعاون الخليجي، لأنه من الممكن أن يكون له دور بارز في الخروج من مآزقنا الراهنة وفي حل مشاكلنا ونزاعاتنا الداخلية، لو أحسنا استثماره، والتقت كل دول المنطقة حوله، وأقمنا من خلاله سوق خليجية مشتركة، يتم من خلالها تسهيل عملية التبادل التجاري والمصرفي بين البلاد، وإزالة الحواجز الجمركية وزيادة الإعفاءات الضريبية، وتشجيع المصانع والشركات الخليجية، خاصة وأن نظامه الأساسي يدعو إلى تحقيق التنسيق والتكامل بين الدول الأعضاء في جميع الميادين، بل تعالت بعض الأصوات العاقة وتنادت في بعض الدول، ومنها البحرين بعد أحداث فبراير 2011، بضرورة الوصول بهذه المنظمة إلى اتحاد دولي خليجي يشبه في قوته وتنظيمه وضخامة مؤسساته ولو إلى حد ما، الاتحاد الأوربي، ويالها من دعوة صحيحة سليمة واعية .

وفي نهاية الكتاب تتفق الكاتبة مع كثير من المراقبين الاستراتيجيين المتخصصين في الدراسات المستقبلية، على أن المؤشرات التي بدأت تتراكم في الفترة القصيرة الماضية، تشبه إلى حد كبير ما مر به العالم قبل الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وعلى هذا فالعالم يمكن أن يكون على أعتاب حرب عسكرية مباشرة أو بالوكالة، بين اقطاب كبرى، قد لا تصل هذه الحرب إلى حد المواجهة النووية، ولكن لا يستبعد استخدام السلاح التدميري الشامل فيها، ويؤكد ذلك السيد هارولد جيمس عندما صرح في فبراير 2017 بان "الأيام القادمة ربما تشهد اندلاع حرب عالمية جديدة..." 

وقد أتفق مع هذه الحقيقة فيما يخص النزاعات الأهلية وغير الدولية، حيث باتت العديد من نزاعات اليوم نزاعات داخل الدول وليست بين الدول، وقد تفضي الدول الكبرى مصالحها من خلال هذه النزاعات، أما النزاعات والحروب الدولية وبالأحرى العالمية، فلا مصلحة لدول العالم الكبرى بها، وإن كانت الأجواء حالكة، وخيرات وثروات دول المنطقة هي محل أطماع الدول الكبرى، إلا أن الدول الكبرى اليوم تعرف مصالحها الحقيقية، وما نحصل عليه من الدول الصغرى بغير حرب، كيف تلجا إلى حرب من أجله، وإذا تعارضت مصالح هذه الدول الكبرى فيما بينها، فإنها تفطن إلى أن سيادة القانون فيما بينها أفضل من سيادة القوة، حتى لا تتكرر الحرب العالمية مرة أخرى هذا فضلا عن أن الأسلحة الحديثة اليوم باتت بصورة تدميرية لا يمكن للإنسان أن يتخيلها، وأن الحرب باتت شاملة وفيها تعبية لكل موارد الدولة، وأن كل إنسان بات يتأثر بها بصورة لم تسق للإنسان من قبل.

على كل حال فإن الكتاب يؤكد في مجمله، على أن المنطقة العربية باتت على خطر، وفي مفترق الطرق، وأن الدسائس تحاك لها من كل جانب، وأن مبدا القوة مع الدول الصغرى ما زال هو السائد، وأن القوة فون الحق في كثير من سياسات العالم، وأن الدولة لا تحصل في ميدان السياسة بأكثر مما تحصل عليه في ميدان الحروب، وفي مفترق الطرق هذا، يجب على الدول العربية أن تنظر وتدقق إلى أين تسير، وفي النهاية أهنئ الكاتبة القديرة الأستاذة سميرة رجب على هذا الكتاب الرائق والماتع، وننتظر، بل وتنتظر منها منطقتها العربية المزيد من مثل هذه الدراسات الجادة للخروج من المأزق الراهن.