إن الحديث عن الفراغ الاستراتيجي في المنطقة فقَد جدواه تماماً، أو انتهى أوانه، مع انطلاق تنفيذ المشروع الصهيوني بدءً بالحرب على غزة  في 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، وما كشفته من تراجع خطير في الدور العربي السيادي والأمني والعسكري الذي بدا عاجزاً عن حماية شعب عربي أعزل في غزة أمام أشرس حرب شهدتها البشرية، وأكثرها انتهاكاً للقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية؛ وما كشفته هذه الحرب عن مؤشرات حول ملئ هذا الفراغ بهيمنة إسرائيلية استراتيجية قادمة، بالتعاضد والتنافس مع الدور الإيراني الذي يأتي بالمرتبة الثانية إقليمياً، بعد اسرائيل، وخصوصاً بعد الموقف الإيراني الحذر في مجاراة العملية الحربية الإسرائيلية في غزة.

رغم صعوبة الأيام التي نعيشها، ورغم قوة الإحساس ببشاعة الظلم الذي وصل الذروة بحرق شعبنا العربي في غزة، ورغم جيشان مشاعرنا أمام بشاعة اللاأخلاقية واللاإنسانية الغربية، وأمام الدولة الصهيونية التي لم تعد تخجل من انكشاف صورتها الحقيقية الخالية من القيم والأخلاق والإنسانية... رغم كل ما يجري اليوم من ابادة جماعية لشعبنا في غزة... ورغم مشاهد القتل الجماعي والدفن الجماعي والتجويع الجماعي للعوائل والأطفال، ومشاهد الجثث المحترقة والممزقة، والأطفال المقطعة أوصالها، والمشردين الباحثين عن ملجأ آمن، ومشاهد الآباء والأمهات المكلومين الحاملين لجثامين أطفالهم تحت وابل الصواريخ الحارقة، وبين ركام الدمار الشامل في غزة... ورغم السكوت العالمي الجبان واللامبالاة الظالمة من قوى الغرب الأمريكي الأطلنطي على جبروت القوة الصهيوينة، وحرب الإباد باستخدام الأسلحة المحرمة، وأسلحة الدمار الشامل ضد شعب أعزل في غزة... ورغم صمود الحقائق لأول مرة أمام آلة الإعلام الغربي المضلل، ووضوح الحقائق أمام الرأي العام العالمي والأممي؛ ورغم قوة المعطيات التي وفرتها الحرب على غزة حول حقيقة الفراغ الاستراتيجي العربي الذي تعيشه منطقتنا عموماً، والذي يُنذر بدخول المنطقة عموماً في مرحلة إقليمية خطيرة وعنيفة، وغير منصفة، مع انتهاء المخاض وبدء عمليات ولادة الشرق الأوسط الجديد بأقصى درجات العنف والدمار الشامل كما ذكر رئيس وزراء الكيان الصهيوني في اليوم الأول من الحرب على غزة وتدميرها على رأس شعبها...

كان القرن العشرون الفترة الأكثر وحشية في تاريخ البشرية، حيث عاش العرب، والعالم الثالث، جميع صنوف الاضطهاد والوحشية الاستعمارية، فكان أكثر الفترات الاستعمارية ظلماً واضطهاداً لشعوب العالم الثالث، وكان ذروة الإبتزاز والنهب الاستعماري لثرواتها؛ وأكثر فترات التاريخ ربحاً وإدراراً للثروات على القارة الأوروبية، بل على الجزء الغربي من العالم، وبتلك الثروات المنهوبة بنى الأوروبيون حضارتهم الصناعية الكبرى، لتبقى للأزل ولا تغيب عنها الشمس.

رغم صعوبة توحيد قراءة السياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي ككتلة موحدة، إلا أن المتغيرات في السياسات الخارجية الخليجية مجتمعة أو فرادا، وبالتحديد منذ فترة عزلة الكوفيد حتى عودة العلاقات العربية السورية مع القمة العربية في جدة/ المملكة العربية السعودية (مايو 2023)، تشير إلى بدء خروج المنطقة من النفق الأمريكي المظلم الذي زُجت به دول الخليج العربي بعد الحرب الباردة، وبعد أحداث 11 سبتمبر؛ وخصوصاً منذ ما بعد الغزو والاحتلال العسكري الأمريكي للعراق.

مضى عشرون عاماً، منذ مارس 2003، على الغزو والاحتلال الأنجلوأمريكي للعراق، وعلى خروج العراق من معادلة الأمن القومي الاستراتيجي العربي عموماً والخليجي خصوصاً، وانتقاله من دولة في مقدمة الدول النامية، غنية وذات قوة مهابة، إلى دولة متخلفة فقيرة، مدمرة، هزيلة، تسودها الميليشيات وينخر الفساد في كل مفاصلها؛ بلا سيادة ولا إرادة، بل تعيش تحت سطوة أعدائها التاريخيون، واشنطن- طهران- تل أبيب، في مشهد سياسي هو الأقذر على مدار التاريخ الحديث... مشهد يثبت يومياً عدم عدالة القانون الدولي (إن وجد)، ومدى بشاعة العلاقات الدولية، ولاإنسانية الهيمنة الغربية، ووحشية القوة الأمريكية، وخطرها الدموي التدميري على البشرية.
على مدار العقدين المذكورين كان الإصرار على استمرار تدمير العراق، والتقهقر السياسي والأمني المتسارع في العالم العربي، من ضمن أهم المؤشرات التي تؤكد على أن كل ما حصل للعراق قد تم بإرادة وتخطيط واعداد ومنهجية مدروسة، ومضمونة النتائج، وبسبق الإصرار والتعمد؛ أي إن خطة تدمير العراق وتحويله إلى دولة محطمة فقيرة تحكمه العصابات، كانت مُعِدّةً قبل الغزو، وبدأ تنفيذها بعد الاحتلال، لتحقيق مصالح أمريكية جيوسياسية ذات أهمية قصوى في الصراع على نشوء نظام دولي جديد.