العرب في رحلة عودة العلاقات مع إيران

رغم صعوبة توحيد قراءة السياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي ككتلة موحدة، إلا أن المتغيرات في السياسات الخارجية الخليجية مجتمعة أو فرادا، وبالتحديد منذ فترة عزلة الكوفيد حتى عودة العلاقات العربية السورية مع القمة العربية في جدة/ المملكة العربية السعودية (مايو 2023)، تشير إلى بدء خروج المنطقة من النفق الأمريكي المظلم الذي زُجت به دول الخليج العربي بعد الحرب الباردة، وبعد أحداث 11 سبتمبر؛ وخصوصاً منذ ما بعد الغزو والاحتلال العسكري الأمريكي للعراق.


وفي الجانب الآخر من الصورة تتجه مؤشرات المتغيرات في السياسات الخليجية إلى الانحياز التدريجي نحو التعاون مع نظام دولي متعدد الاقطاب والانضمام إلى تكتلات اقتصادية تنموية أكثر موضوعية في سياساتها، وأكثر نديّة في علاقاتها، وأكثر احتراماً لمفهوم تبادل المصالح؛ إضافة إلى الابتعاد عن سياسات المحاور والتحالفات الحربية والعسكرية التي تستهدف اسقاط الانظمة بتدمير الدول لخدمة حلم الأحادية القطبية المتوحشة التي أودت بمنطقتنا للتحول إلى منطقة حروب وعسكرة وصراعات مدمرة؛ في الوقت الذي تركز دول الخليج داخلياً على المزيد من البناء والتنمية وامتلاك المعرفة ومواكبة العصر.
ليس لدول الخليج العربي أية مصلحة في جميع الحروب التي زُجت بها، أو زَجّت بنفسها فيها خلال العقود الماضية، ولا في الحروب التي لا تزال بعضها مستمرة وتستنزف قوة المنطقة بشرياً واقتصادياً... ولا في حرب الاحتلال الرباعي- الأمريكي البريطاني الإيراني الإسرائيلي- للعراق، والتي فتحت الحدود الشرقية للوطن الكبير على مصراعيه لجميع الأخطار التي تتعرض لها منطقتنا الخليجية، والعربية.
لم، ولن، تحقق أية دولة خليجية مصلحة من المشاركة في حروب الصراعات الدولية والإقليمية لصالح الولايات المتحدة أو أية قوة عظمى تحاول الصعود إلى قمة النظام الدولي الجديد على أنقاض دول المنطقة، ونزيف ثرواتها، بينما بامكان دولنا الخليجية تحقيق الكثير من المصالح بسياسات السلم والأمن والبناء والتنمية، والتسلح بالعلم والمعرفة لاستثمار مواردها، وبالقراءة السليمة للتاريخ لحماية المجتمع والدولة من الاختراقات التي تشكل خطراً يوازي خطر الحروب العسكرية.
لذلك تكشف مسارات السياسات الخارجية الجديدة لدول الخليج العربي عن وعي جديد، نرجو أن يكون أكثر ادراكاً باخطاء السنوات السابقة، وأكثر اهتماماً بتصحيح استراتيجياتها والاتجاه نحو البناء والتنمية والاعمار وتصحيح ميزان القوة والامن القومي العربي.
الاتفاق السعودي الإيراني
وسواء كانت هذه القراءة الخليجية شديدة الواقعية، أو شديدة التفاؤل، إلا أن بين هذا وذاك تؤكد المؤشرات على بدء تغيير حقيقي في سياسات المنطقة باتجاه معاكس لسياسات الهيمنة الغربية التي طغت على الشأن العربي منذ الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا... وخصوصاً أن العالم برمته يستعد للدخول في مرحلة أفول النظام الدولي "الأمريكي" الأحادي القطبية، المهيمن؛ وصعود نظام التعددية القطبية الذي بدأت مؤشراته لدينا في دور الوساطة الصينية الجريئة للاتفاق على إعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهي مؤشرات سليمة وواضحة سواء تكلل الاتفاق بالنجاح في تنفيذ بنوده الصعبة والمعقدة، أو العكس.
العلاقات العربية الإيرانية والوسيط الأجنبي
يعد محور العلاقات مع إيران من أكثر الأمور تعقيداً في السياسات الخارجية الخليجية، لما لهذه العلاقات من تناقضات تاريخية معقدة ومتراكمة، تبدأ بالحقد الإيراني التاريخي على العنصر العربي، ولا تنتهي بالتدخلات العدائية والتوسيعة الإيرانية المستمرة والمتصاعدة في العمق العربي. وما بين هذا وذاك تاريخ طويل من الصراعات والحروب والدماء والأرواح التي أُزهقت هدراً. ورغم طول أمد وتاريخ هذه الصراعات إلا أن هناك خفايا مطمورة نادراً ما رصدها المؤرخون لمعرفة ما وراء الأحداث والتفاصيل التي كانت تتفاعل في كواليسها؛ وعلى سبيل المثال لم يكن أمر الوساطات والوسطاء والمحَكّمين الغربيين بين الطرفين (العربي والإيراني) من القضايا الجدلية عند العرب، فبقي هذا الأمر من القضايا المسكوت عنها دائماً رغم إن هؤلاء الوسطاء كانوا على مدار التاريخ أصحاب مصالح استعمارية كبرى في المنطقة، مما يضعهم في خانة الخصم والحكم، وكانوا غير محايدين في أحكامهم.
يعد دور الوسيط والتحكيم الغربي في العلاقات العربية الإيرانية من أخطر الأدوار منذ أن بدأ في القرن السادس عشر الميلادي، وحتى يومنا هذا. ففي البدايات كان ذلك الدور محتكراً على الامبراطورية الروسية كطرف رئيسي مع الانجليز كطرف ثانوي، ثم تطور ليحتكر الانجليز هذا الدور، وصولاً إلى الدور الانجلوأمريكي الذي تعيش منطقتنا العربية كل تبعاته الخطيرة في عصرنا الحالي... فلم يكن الغربي وسيطاً منصفاً أو عادلاً في حق العرب على مدار التاريخ الذي يشهد، على سبيل المثال لا الحصر، على ما فعله الانجليز في المنطقة باتفاقية سايكس بيكو، والذي وصل إلى حد إزالة مملكة الأحواز (عربستان) من الخريطة وإلحاقها أرضاً وشعباً بإيران في بدايات القرن العشرين؛ كما فعل حليفنا الأمريكي الذي احتل العراق وقدّمه على طبق من الذهب إلى إيران في بداية القرن الواحد والعشرين (2003)، وبدعم خليجي سخي.
لقد تناوبت الامبراطوريات الاستعمارية الغربية على دور الوسيط غير العادل بين العرب وإيران على مدار أكثر من خمسة قرون، كانت خلالها الحروب تلد بعضها، وتتغير أسبابها وأهدافها ونتائجها، ولكن تبقى سياسات الوسيط الغربي واحدة لا تتغير، وهي سياسات المساند الدائم لإيران، والتحكيم لصالحها بعد كل حرب... في البدء كان هدف الغرب هو لجم التوسع العثماني الذي توغل في شمال أوروبا، حيث قامت روسيا القيصرية والانجليز بأدوارهما في خلق الدولة الصفوية وساروا معها خطوة بخطوة في كل حروبها وصراعاتها الدموية ضد العثمانيين، والتي دفع العراق أثمانها الباهظة، وخسر بسببها أراضي ثرية وشاسعة تنفيذا للعديد من قرارات التحكيم التي فرضها المُحَكّم الغربي على الطرفين على مدار خمسة قرون، في سلسلة تاريخية طويلة بتفاصيلها، لا يتسع المقام لسردها (أرجو الاطلاع: "الحدود الشرقية للوطن العربي/ دراسة تاريخية مجموعة مؤرخين- 1981)، وصولاً إلى القرن العشرين وسقوط الدولة العثمانية وما رافقه من أحداث جسام كلّف العرب أثماناً باهظة.
إيران في كل العهود
وبصفتها الوريث الشرعي للتركة الاستعمارية الأوروبية عيّنت الولايات المتحدة إيران (الشاه) شرطياً متحكماً في الخليج العربي في سبعينيات القرن العشرين، ليبدأ الدور الأمريكي في اللعب على أوتار العلاقات العربية الإيرانية من منظور مصالحها الاستراتيجية في مرحلة جديدة من الصراعات التي لم تتوقف مع سقوط نظام الشاه (1979) بل انتقلت إلى مرحلة الكارثة الأكثر هولاً على مستقبل المنطقة. إذ ساند الغرب هذا الانقلاب، ودعم الانقلابيون الجدد للوصول إلى سدة الحكم، لتصبح إيران (الخميني) ببُعدها العقائدي المذهبي الأصولي جزءً من الأجندة الأمريكية في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، وفي ما بعد الحرب الباردة. وفي مرحلة متقدمة ظهر الدعم الأمريكي على سطح الأحداث في سلسلة امدادات الأسلحة التي كانت تُشحن من الولايات المتحدة في جسر جوي إلى إيران عبر إسرائيل (إيران جيت) طوال سنوات حربها ضد العراق (1980-1988)، رغم مسرحية عملية اقتحام السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز سكانها كرهائن لفترة 444 يوماً (نوفمبر 1979- يناير1981).
وعلى مدار أكثر من أربعة عقود، حتى يومنا هذا، دخل الخليج في نوع جديد من العلاقات مع إيران، بين التوافق والنفور، صراعات وحروب، وأحداث هي الأخطر على مدار تاريخ تلك العلاقات، حيث الامتداد الإيراني يتوسع في لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن، ومروراً بكافة دول الخليج، ومن حرب الثمان سنوات ضد العراق إلى الحرب المفتوحة الأمد في اليمن، ولايزال الحبل على الغارب...
الحرب في اليمن- التاريخ يعيد نفسه
حرب عربية إيرانية في اليمن تجاوزت الثمان سنوات، وأطراف متقاتلة، وشعب مدمر، ووسطاء ومبعوثون ومحكّمون غربيون، حيث تتفاعل في اليمن المصالح المشروعة وغير المشروعة مع نزيف بشري ودموي واقتصادي عربي، ولا ضوء في نهاية النفق... تعابير سهلة ووصف بسيط لأمر شديد التعقيد والخطورة والألم، وسؤال مهم يطرح نفسه، يا ترى مَن المستفيد من اطالة أمد هذه الحرب واستمرارها؟
للإجابة على هذا السؤال المهم، نسترجع أحداث التاريخ القريب، ونستشهد بالمذكرات اليومية لوزير بلاط شاه إيران، أسد علم الدين، وهي معنية بأحداث البلاط الإيراني في فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي (أرجو الاطلاع: "الشاه وأنا" تم النشر في ثمانينيات القرن العشرين، بعد وفاة أبطالها، وتُرجم إلى العربية عام 1993)، إذ تعد وثيقة تاريخية هامة جداً يعترف فيها الوزير الإيراني، بالتفصيل، بأن إيران قامت بمحاولات عديدة للإطاحة بالأنظمة الجمهورية في العراق منذ ما بعد الاطاحة بالنظام الملكي، ومن أهم هذه المحاولات هي تلك التي يعرفها العراقيون بالأسماء التالية "محاولة عبدالرزاق النايف الانقلابية 1968، حركة ناظم كزار الانقلابية 1973، وحرب التمرد الكردي في شمال العراق 1961-1975". وحيث تم القضاء على المحاولتين الأولى والثانية في مهدهما، إلا أن حرب الأكراد استمرت لسنوات، فكانت نزيفاً مستمراً في الأرواح والثروات العراقية، والعائق الأساسي أمام مشاريع التنمية العراقية رغم الاتفاق الذي تم بين الطرفين العراقيين وحصول الأكراد على مطالبهم بما فيها الحكم الذاتي في عام 1970. ومن أجل انهاء هذا الصراع إضطر العراق أن يقبل توقيع اتفاقية الجزائر مع إيران (1975 بين صدام حسين وشاه إيران في الجزائر)، والتي تم بموجبها تنازل العراق عن نصف شط العرب إلى إيران مقابل وقف الدعم الإيراني للتمرد الكردي، وقد كان اتفاقاً مجحفاً وخطيراً جداً على مستقبل العراق.
إذن ما تفعله إيران في اليمن ليس بأمر جديد، بل هو حلقة في مسلسل العلاقات العربية الإيرانية؛ لذلك من السهل على المطّلعِين استشراف مسيرة ونتائج المفاوضات القادمة بين الأطراف اليمنية اليمنية، أو الإيرانية العربية حول الحرب في اليمن، كما يمكن التنبؤ بالمقايضة الإيرانية (وليس التفاوض الإيراني) مقابل وقف اطلاق النار، أو انهاء حالة الحرب... فإيران عبر التاريخ تجيد لعبة سرقة الأراضي والقرصنة وخطف البشر والمفاوضة على أرواحهم، في انماط من المفاوضات طويلة الأمد، وسلسلة من المقايضات، وأنواع من السلوك القسري العنيف، غير الحضاري، الخالي من المبادئ الانسانية أو مبادئ القانون الدولي.
إن ما جرى على الساحة اليمنية أو الخليجية عموماً، منذ بداية تلك الحرب حتى نهايتها "المتوقعة"، لهو حلقات متسلسلة واضحة الخطوط والمعالم لكل سياسي إيراني، إذ هم متأكدون منذ البداية انهم سيسحبون الطرف الآخر إلى طاولة المفاوضات (المقايضات) في الوقت المناسب، وها قد حان الوقت في اليمن (وستكون مكاسبهم كبيرة جداً).
إن نموذج الحرب اليمنية لهو تكرار لسياسات إيرانية متأصلة في العقل الفارسي، ومعروفة ببراجماتية عصابات المافيا والمهربين، لتحقيق أهداف غير مشروعة؛ ولذلك عمل الفرس على مدار تاريخهم على استخدام المعتقدات الدينية والأيديولوجية المذهبية كواجهة لتبييض صورتهم الخبيثة، وحجب عقدتهم التاريخية. وهي الواجهة التي استخدمتها إيران في تأسيس عصاباتها وأذرعها ونفوذها الدموي المتوزع في كافة أرجاء بلادنا العربية.
إيران ووسائلها التاريخية الناعمة
والسؤال الملح هنا كيف تنجح إيران في كل هذا، ولم تتعرض يوماً لعقوبات مدمرة، قاسية، كالتي يتم فرضها على العرب (العراق، سوريا، ليبيا)؛ وعلى سبيل المثال: لماذا يتم قصف سوريا بذريعة امتلاكها مخزون من السلاح الكيماوي، بينما لا يتم قصف البرنامج النووي الإيراني الأكثر خطراً على المنطقة والعالم؟ لماذا يتم قصف سوريا بذريعة استهداف مواقع إيرانية ولا يتم قصف إيران على أرضها؟ ولماذا ولماذا ولماذا.....
إن كلمة السر في الإجابة على كل تلك الاسئلة هي: إيران تملك وسائلها الناعمة التاريخية، التي تجيد تسخير جهود الوساطة والتحكيم الغربي لصالحها دائماً، لتكون لها سوراً حامياً ومدافعاً عن مصالحها... وعبر الزمان السحيق نجح الفرس في صناعة واستثمار حكاية "السبي البابلي"، التي كان لها الدور الأكبر في كسب ود "اليهود" و"المسيحيين" لصالحهم ضد العرب عبر التاريخ، ورغم إن الآثاريون أثبتوا كذب تلك الحكاية إلا أن الحكاية صنعت هالتها، وراكمت تفاصيلها في العقول والقلوب، وصار من الصعب تفكيكها وتكذيبها وفصلها عن الواقع؛ ولأن التاريخ له دور في صناعة الحاضر، فهو يعيد نفسه في صور وأشكال مختلفة، ومن المؤسف إن يكون العرب دائماً هم الطرف الخاسر، لأنهم يجهلون صناعة وسائلهم الناعمة، ويتجاهلون المعرفة التاريخية.
ولنفهم حرب اليمن، ولنستشرف ما هو القادم في مسلسل المفاوضات (المقايضات) حولها، ومستقبل العلاقات السعودية الإيرانية التي تمت بموجب اتفاقية بكين، علينا الكشف عن أدوار االوسطاء- المبعوثون في هذا الشأن الخطير، على الأقل استعداداً للمواجهات القادمة على طاولات الحوار، ومن ثم لامتلاك وثيقة تاريخية من أجل المستقبل.
إيران في موسم جني الثمار
وفي الختام، نتمنى أن تكون السياسات الخارجية الخليجية الجديدة هي بداية السعي للدخول في نظام عالمي جديد عبر خلق واقع عربي جديد في المنطقة، وبناء علاقات سليمة مع دول الجوار الإقليمي، بإرادة التغيير وليس التهدئة... والأخذ في الاعتبار بأن دول الجوار الإقليمي وعلى وجه الخصوص إيران لا تعمل بنفس الإرادة، بل إنها لازالت تعمل بكامل أسلحتها ووسائلها الناعمة والصلبة وهي ترى إنها قد اقتربت من مرحلة الحصاد، وقطف ثمار ما زرعته في المنطقة خلال أكثر من أربعة عقود.
إن إيران ترى في عودة علاقاتها مع دول الخليج، والعرب، نجاحاً لمشروعها طويل الأمد، وإنها بذلك تقطف ثمار ما زرعته في اليمن، حيث تستعد للمقايضة بقائمة طويلة من المطالبات الأكثر تعقيداً من الشأن اليمني والخليجي، وتتوقع إنها ستحصل على أكثر مما كانت تتوقع في بداية الحرب... وتعتبر عودة سوريا للجامعة العربية بسلام وأمان لهو دليل نصر، وحصاد ناجح لمشروعها في بلاد الشام، وفي العراق، وما أدراك ما العراق....
وفي كل الأحوال لقد دخلت حرب اليمن في مرحلة "اتفاق الجزائر"، ولنرى كيف يعيد التاريخ نفسه...


كلمات دالة: