قدمت الكاتبة هذه الورقة الموجزة في منتدى أصيلة، 21-23 أكتوبر 2022، الذي عقد تحت شعار المسألة الشرقية الجديدة، لتأخذ هذه الورقة عنواناً خاصاً حول "جهود دول الخليج العربي في ترميم وإعادة بناء النظام الإقليمي العربي الذي يصب بالتالي في إعادة بناء المنظومة الأكبر وهو النظام الدولي الذي بدأت تتشكل ملامحه بوضوح أكثر منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية؛ ولازال الصراع قائماً بين الشرق والغرب، عسكرياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً، حتى ينتصر الأقوى، ويبزغ النظام الدولي الجديد، لتسود قيمه وقوته على العالم.

بدعوة كريمة من معالي مفتي جمهورية مصر العربية، شاركت بهذه الورقة في مؤتمر مركز سلام لدراسات التطرف، المنعقد في القاهرة في يونية 2022، تحت عنوان "التطرف الديني: المنطلقات الفكرية.. واستراتيجيات المواجهة"؛ ولظروف خاصة لم أتمكن من حضور المؤتمر لعرض ومناقشة ورقتي، وقررت نشرها للمزيد من التداول والاستفادة.
أود الإشارة في البداية إلى أنني سوف أحاول تسليط الضوء من خلال هذه الورقة على نوع محدّد من التطرف الديني أَسْميتُه بـ"التطرف الديني الباطني" وأقصد به فئة محددة من فئات الإسلام السياسي، مع التأكيد على الفصل بين التيارات الدينية السياسية وبين العقائد المذهبية الاصيلة.

هناك بعض الحقائق التي علينا التذكير بها دائماً، أمام تدفق أمواج من المعلومات، وأمام تقدم تقنيات التضليل وحجب الحقائق، التي توازي في قوتها وخطرها أسلحة الدمار الشامل. وفي هذا المقال عدد من الحقائق التي سنكرر التذكير بها، للتنوير ولربط الحقائق اللاحقة بأسبابها وأحداثها السابقة، حفاظاً على الموضوعية وبعض من العدالة والإنصاف التي يفتقدهما الإعلام عموماً.

لأول مرة منذ ما بعد الحربين العالميتين تقوم حرب بين دولتين أوروبيتين وفي المجال الحيوي الأوروبي، في أوكرانيا، على اعتبار إن حرب البلقان في تسعينيات القرن العشرين كانت حرباً أهلية كما أراد لها الغرب، رغم التدخل العسكري الوحشي لحلف الناتو فيها، وانهائها بتفتيت يوغسلافيا إلى ست دول، منزوعة القوة.
تخوض روسيا في أوكرانيا حربا مصيرية، منذ 24 فبراير/ شباط 2022، ضد معسكر الناتو، وتصفها بأنها عمليات عسكرية خاصة، وليس حرباً، وهذا المسمى الجديد سيضاف إلى موسوعة أسماء وأنواع وأجيال الحروب التي عاصرنا أغلبها. ومهما اختلفت أسماء الحروب، وكنياتها، فإنها لا تختلف في دمويتها ودمارها، واضرارها وضحاياها؛ إذ يحق للدول العظمى ما لا يحق لغيرها في تسمية حروبها.
حرب بالوكالة
وما هو مؤكدٌ عن هذه الحرب هو التالي، أولاً: إنها حرب بالوكالة، تخوضها أوكرانيا على أرضها، نيابة عن الناتو، في مواجهة روسيا؛ بل في الحقيقة هي حرب تخوضها أوروبا على أرضها بالوكالة عن الولايات المتحدة ضد الاتحاد الروسي، الذي يطلق عليه الإعلام الأمريكي (وليس الأوروبي) إسم "العدو"، وهي تسمية لم يستخدمها إعلام المعسكر الرأسمالي ضد الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة بالقرن الماضي، مما يدل على قوة التهديد التنافسي الذي تشعر به الولايات المتحدة اليوم أمام روسيا (والصين)؛

يحوز الخليج العربي على درجة عالية من الاهتمام والتنافس في كل نظام دولي؛ وقد كان أمن الخليج يحظى باهتمام ورعاية (بشكل وبآخر) من القطب الرأسمالي في فترة الحرب الباردة من القرن العشرين، أمام تنافس الأقطاب الاشتراكية للولوج إلى المنطقة، والذي اتخذ منه الغرب مبرراً لإحكام القبضة الأمنية على دول وشعوب وبحار وفضاء الخليج. ورغم إن الرخاء الأمني والاقتصادي الخليجي الذي بدأ في تلك الفترة كان صناعة غربية يهدف بها خلق نموذج فريد لمجتمع الرفاه والاستهلاك، لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية للمعسكر الرأسمالي، في مواجهة الدول الاشتراكية التي حرمت شعوبها من هذا النوع من الرخاء، إلا أن ما حظيت به المنطقة من ثراء، واستقرار وأمن نسبي حينها، كان من أهم عوامل التنمية والرفاهية التي تقطف دولنا الخليجية اليوم ثمارها في مواجهة العواصف السياسية والأمنية وعجيجها، التي تهب على العالم العربي. وقد ثبت من خلال هذا العجيج أن مع انتهاء الحرب الباردة انتهت صلاحية الاستراتيجيات الأمنية الغربية القديمة في الخليج، ودخلت المنطقة عصراً أمنياً مختلفاً.
منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، أثبتت مؤشرات الأحداث إن استقرار أمن الخليج لا يحقق مصالح بعض أقطاب النظام الدولي الجديد، والذي تتربع على عرشه اليوم الولايات المتحدة الأمريكية والصين. لقد تبنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الباردة (1990) استراتيجية الحروب والصراعات والفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والسيادي في العالم عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً. وإن فوضى الحروب والصراعات والخلافات البينية وسياسات تهديد الأنظمة بشعوبها وصعود التيارات المتطرفة، بمختلف أشكالها، واحتلال منابع وطرق وإمدادات الغاز والنفط، وتفكيك الدول والأقاليم إلى دويلات صغيرة متصارعة، هي الاستراتيجية الأمريكية (الصلبة والناعمة) للبقاء كأقوى قوة عالمية، في حرب المنافسة أمام تقدم الصين وامتدادها الاقتصادي في أرجاء العالم، انطلاقاً من مبدأ أن نجاح سياسات الصين الخارجية يعتمد على توافر الأمن والسلام، وإن مناطق الحروب، والمهددة بصراعات داخلية وخارجية، وغير المستقرة أمنياً، لا توفر لها البيئة الآمنة التي هي من مقومات تفوقها التنموي والاقتصادي.

يحوز الخليج العربي على درجة عالية من الاهتمام والتنافس في كل نظام دولي؛ وقد كان أمن الخليج يحظى باهتمام ورعاية (بشكل وبآخر) من القطب الرأسمالي في فترة الحرب الباردة من القرن العشرين، أمام تنافس الأقطاب الاشتراكية للولوج إلى المنطقة، والذي اتخذ منه الغرب مبرراً لإحكام القبضة الأمنية على دول وشعوب وبحار وفضاء الخليج. ورغم إن الرخاء الأمني والاقتصادي الخليجي الذي بدأ في تلك الفترة كان صناعة غربية يهدف بها خلق نموذج فريد لمجتمع الرفاه والاستهلاك، لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية للمعسكر الرأسمالي، في مواجهة الدول الاشتراكية التي حرمت شعوبها من هذا النوع من الرخاء، إلا أن ما حظيت به المنطقة من ثراء، واستقرار وأمن نسبي حينها، كان من أهم عوامل التنمية والرفاهية التي تقطف دولنا الخليجية اليوم ثمارها في مواجهة العواصف السياسية والأمنية وعجيجها، التي تهب على العالم العربي. وقد ثبت من خلال هذا العجيج أن مع انتهاء الحرب الباردة انتهت صلاحية الاستراتيجيات الأمنية الغربية القديمة في الخليج، ودخلت المنطقة عصراً أمنياً مختلفاً.