الخليج العربي بين الشرق والغرب: المسألة الشرقية الجديدة

قدمت الكاتبة هذه الورقة الموجزة في منتدى أصيلة، 21-23 أكتوبر 2022، الذي عقد تحت شعار المسألة الشرقية الجديدة، لتأخذ هذه الورقة عنواناً خاصاً حول "جهود دول الخليج العربي في ترميم وإعادة بناء النظام الإقليمي العربي الذي يصب بالتالي في إعادة بناء المنظومة الأكبر وهو النظام الدولي الذي بدأت تتشكل ملامحه بوضوح أكثر منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية؛ ولازال الصراع قائماً بين الشرق والغرب، عسكرياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً، حتى ينتصر الأقوى، ويبزغ النظام الدولي الجديد، لتسود قيمه وقوته على العالم.


........................................................

"جهود دول الخليج العربي في ترميم وإعادة بناء النظام الإقليمي العربي"


يعيش العالم منذ بداية القرن الجديد فترة تحوّل دولي ساخنة، تتميز بمتغيرات عالمية رئيسية في قواعد ومرتكزات العلاقات والسياسات الدولية، أهمها هو تراجع دور الغرب المركزي في السياسات الدولية، وحتمية تقدّم الصين إلى موقع القوة العظمى القادمة، أو حتمية تحول مركز القوة العالمي إلى منطقة آسيا التي تضم القوتين الكبيرتين الصين والهند، بكتلتيهما البشرية الأكبر في العالم، وبقوتيهما الاقتصادية والتكنولوجية المتقدمة والمتنافسة، أي سيكون القرن الحادي والعشرين قرناً صينياً أو قرناً أسيوياً بامتياز، بعد الإخفاق المريع الذي أصاب سياسات الهيمنة الأمريكية، وفشل تحقيق حلم القرن الأمريكي الذي أعلنته الولايات المتحدة بوضوح بعد الحرب الباردة، وخصوصاً بعد احتلال أفغانستان والعراق، باعتبار إن القرن الحادي والعشرين سيكون هو قرن السيادة الأمريكية على النظام العالمي، والعالم أجمع.
وفي الجانب الآخر، تعد منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً اقليم العالم العربي، من أهم مفاتيح التنافس بين القوى العظمى، لما فيها من مزايا ذات علاقة مباشرة بنهوض القوى والارتقاء في المنافسة فيما بينها للصعود إلى منزلة القوة الكبرى.
فالمنطقة هي المستودع والمنتِج لأكبر معدل من الطاقة، من نفط وغاز طبيعي، في العالم؛ وتتميز بموقعها الجيوسياسي ذو القيمة الجيواستراتيجية الأهم عالمياً، من حيث إنها صلة الوصل بين القارات الثلاث، أوروبا وأفريقيا وآسيا، إضافة إلى محتوى هذه المنطقة المتميز بأدوار دولها وتياراتها الأيديولوجية الدينية في تحديد مسار القوى العظمى المتنافسة.
مع بزوغ معالم النظام الدولي الجديد، وفي حال شبيه لما كان عليه في الحرب الباردة، يُعد إقليم الخليج العربي هو الميدان الاستراتيجي للتنافس الشرقي- الغربي من جهة، والتنافس الصيني- الهندي من جهة أخرى، لما تمتلكه المنطقة من خصائص جيوسياسية وأسباب التنمية الاقتصادية الضرورية لسياسة القوى الكبرى. وقد أدى الصراع، خلال العقود الأخيرة، على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي عموماً إلى صعود مثلث قوة يتشكل من إسرائيل، وإيران، والمملكة العربية السعودية، ليكون محط اهتمام القوى المرشّحة والطامحة إلى بلوغ الهدف الاستراتيجي والوصول إلى خط النهاية في هذه المباراة ("تسابق التنين والفيل إلى مثلث القوى في الشرق الأوسط"، لإستاذ العلاقات الدولية الدكتور كاظم هاشم نعمة، 2022).
إضافة لما سبق، تتميز دول الخليج العربي عموماً بعدد من المقومات الداخلية التي يمكن أن تجعلها لاعبا أساسيا، أكثر من أي وقت مضى، في إعادة بناء النظام الإقليمي العربي والنظام العالمي؛ من أهمها:


1. شهدت بلدان الخليج منذ نهايات القرن الماضي صعود قيادات جديدة شابة، تحمل مبادئ الإصلاح السياسي والاقتصادي والتطور التنموي، والمزيد من الانفتاح على ثقافات التعايش السلمي والإنساني، وعلى السياسات الإقليمية والعالمية، وتتجه بخطى ثابتة وبعقول ذكية نحو مستقبل آمن، والخروج من دائرة الصراعات والتحديات الدولية بسلام، بالرغم من التعقيدات الجيوسياسية في المنطقة.
2. حقّقت بلدان الخليج العربي منذ بداية فترة الطفرة النفطية في سبعينيات القرن العشرين حتى اليوم، نوعا من الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي، وذلك بفضل الاستثمار في البنى التحتية المادية والبشرية، ممّا أدى إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي للمواطن الخليجي، وبالتالي المزيد من الأمن والاستقرار.
3. تتميز علاقات دول الخليج العربي مع بقية الدول العربية، بشكل عام، بالتعاون والتنسيق والتوافق حول القضايا المصيرية من جهة، والدعم الاقتصادي والاستثماري من جهة أخرى.
4. لدول الخليج العربي دور رئيسي في دعم القضية الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين الذي اتفق عليه الفلسطينيون.
5. كانت ولا تزال دول الخليج الدرع الأول في مواجهة التدخلات الإقليمية في المنطقة، وخاصة التدخلات الإيرانية المباشرة وغير المباشرة.
6. عملت دول الخليج منذ بداية القرن على توحيد الصف العربي بحماية دور الجامعة العربية كمؤسسة ضامنة لدور عربي موحد على مسوى الإقليم والعالم.


وعلى مستوى الدور الدولي تتميز منطقة الخليج العربي بمقومات تجعلها قوة إقليمية، مساهمة، في إعادة بناء النظام الدولي الجديد، من أهمها:


1. تُعتبر دول الخليج مشارك فاعل في النظام الدولي من خلال دعم وتمويل العمليات الإنسانية حول العالم، والمساهمة عبر منظمة الأمم المتحدة، بالرغم من التلاشي التدريجي لمساهمات معظم الدول الغنية الأخرى في العالم.
2. تُعتبر دول الخليج من أهم المستثمرين على الصعيد الدولي، وهذه الاستثمارات تُغطي معظم دول العالم، العربية منها والآسيوية والإفريقية والغربية.
3. أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، الأهمية الكبرى لدول الخليج كأكبر مصدّر للطاقة في العالم، والدور الذي يمكن أن تلعبه في تحقيق استقرار سوق الطاقة العالمي.
4. الموقع الاستراتيجي والجيوسياسي لدول الخليج، في خضم صراعات مرحلة التحول إلى نظام عالمي جديد، يجعلها طرفا لا غنى عنه، سواء بالمساهمة في حل النزاعات والخلافات الدولية أو في تقريب وجهات النظر والمساهمة في الحلول السلمية في أغلب المسائل الجيوسياسية المعقدة.
5. الضغوطات الكبيرة التي مُورست على دول الخليج ضمن مسألة الحرب الروسية الأوكرانية ورهانات استخدام النفط والغاز كسلاح ضد أو مع أي طرف من الأطراف، أظهرت تماسك الموقف الخليجي المتفرد بالحياد الإيجابي، وباتجاه تعزيز السلم العالمي وحاجة الشعوب للطاقة، بجانب حماية مصالحه القومية.
6. تؤكد سياسات دول الخليج أنها استفادت من دروس وتبعات "الحرب الباردة" القديمة في منطقة الشرق الأوسط، واستدركت تفاعلات "الغابة الجيوسياسية" (Geopolitical Jungle) الجديدة في العالم، وفهمت جيداً دوافع ادعاءات الولايات المتحدة حول مغادرة المنطقة تدريجيا لإعادة نشر قواتها ومصادرها ضمن أولويات جديدة على رأسها منطقة جنوب بحر الصين، مما أسس لعصر جديد من سياسات دول الخليج بتنويع تحالفاتها الاستراتيجية والأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي.
7. بالرغم من الصعوبات، تحاول دول الخليج على توحيد السياسات والمواقف العربية الخارجية في دور محوري على مستوى المحافل الدولية والمنظمات الأممية لحماية المصالح القومية.