ما كل ما يقوله السادة المسؤولين أو حتى زعماء المنطقة ينم عن إرادة أو حتى مشاعر شعوبهم، ويمكن أن نستدل على ذلك بردود أفعال الشعب الخليجي تجاه الاجتماع الأخير لقمة مجلس التعاون الخليجي (الثامن والعشرين) كمثال، ولو كان من خلال ما ظهر منها في الصحافة وفي اللقاءات والحوارات التلفزيونية، التي كانت بشكل عام تناقض ما صدر من قاعات الإجتماعات.. فرغم كل الرفض والغضب اللذين تفاعلا في نفوسنا لحظة دخول الرئيس الإيراني إلى قاعة اجتماع القمة، وأثناء إلقاء خطابه المتعنت، والذي كنا نتمنى أن نسمع عنهما تفسيراً صريحاً يهدئ ما في النفوس من غضب، إذ بنا نُفاجأ بتصريحات إعلامية تستهزئ بكل هذه المشاعر، ولا تقيم لها وزناً.. وأكثر تلك التصريحات صدوداً هو ما جاء بخصوص ترديد الرئيس الإيراني لإسم الخليج (الفارسي) مرتين في خطابه (دونما مناسبة سوى استعراض قوته).. ذلك الرد الذي يشير على أن قائله يعيش في جزر الواقواق، ولا علم له بكل الغضب الذي يتفاعل في شارعنا الخليجي تجاه سياسات الجارة إيران المستمرة في إغتصاب تاريخنا العربي مع عملياتها التوسعية المستمرة في اغتصاب أراضينا..

في ذلك العصر الوردي، في زمن المد القومي وعالم التعدد القطبي، ما كان ليقع غزو العراق واحتلاله.. وإن وقع شيء من ذلك ما كان ليمر بمثل ذلك الهدوء والصمت الذي كسى العالم العربي، شعوباً وأنظمة، عندما وقع هذا الجلل في مارس 2003..
نعم، في مارس 2003، حين خرجت الشعوب بالملايين في كل أنحاء العالم تصرخ غاضبة ضد الحرب والغزو واحتلال العراق، وضد القوة الأمريكية المجرمة التي لا تعرف غير لغة القنابل والقتل والإبادة، كان الشارع العربي يغط في نومه، والقادة العرب ساهرين على إبقاء هذا الشارع في خدرة النوم بعيداً عن دوائر الرفض والاحتجاج..
لم يتمكن الشعب العربي، المكبوت، من رفع صوته بالاعتراض كما لم يرفع زعيم عربي واحد صوته بالاحتجاج على جريمة الحرب والاحتلال غير المبَرَرَين سوى في قواميس الإجرام والقرصنة الاستعمارية الغربية.. ولم يعترض أحدهم على كل ما جرى للعراق من تدمير منظم.. ولم يعترض قائد عربي، حتى إنسانياً، على جرائم الإبادة التي لازالت مستمرة ضد العرب والعروبة في العراق.. سكتوا جميعاً حتى تأكدوا من إن هذه الحرب وهذا الاحتلال قد فتحا الأبواب أمام الخطر القادم من إيران..

قد يكون تكراراً للحديث، لا أحبذه، إلا إن التكرار بات أحد أكثر الآليات الإعلامية نجاحاً.. إذن سنكرر هنا الحديث فيما سبق وتحدثنا عنه..
في معرض نقده لسيسيولوجيا الإرهاب يؤكد عالم الاجتماع المعروف، الدكتور برهان غليون، بأن "ليس التاريخ القديم ولا الثقافة العربية والإسلامية الموروثة هما اللذان يفسران ظاهرة العنف التي تعرفها المجتمعات الإسلامية اليوم ومنذ عقود قليلة... العنف والإرهاب هما تعبيران عن انحلال منظومات القيم والمعايير والقواعد التي تشكل مدنية كل مجتمع".. ويعلل كلامه هذا بقوله إن "مصدر العنف واحد.. هو تخبط المجتمعات التقليدية وتفكك نظمها القيمية تحت ضغط التحولات الدولية السريعة والساحقة أحيانا.. وبالإضافة إلى هذا المصدر العام يستفيد العنف أيضا من الأوضاع الاستثنائية التي عاشتها المنطقة العربية في القرن الماضي والتي جعلتها تتخبط أيضا في معركة تحرير واستقلال متعثرة وغير مكتملة بالإضافة إلى تخبطها كغيرها في معركة استيعاب طفرة الحداثة وانفجاراتها المستمرة"..

لا يمكن لأي مفكر، مهما زاد علمه وتوسّع فكره، أن يفهم تفاصيل الثقافة الصفوية في سيطرتها على الشارع الشيعي كما يفهمها مَنْ ترعرع وعاش حياته في وسط هذا الفكر وثقافته.. لذلك أبدع المفكر الإيراني، الدكتور علي شريعتي، في وصف حيثيات تلك الثقافة وسلوك معتنقي الصفوية في نشر فكرهم وتعميق خطوطه في سلوك المجتمع ليبقى منصاعاً لقادته الروحانيين الذين وصفهم الدكتور شريعتي بـ "الجهاز الدعائي الصفوي المتكون من روحانية كنائسية (رهبنة)" (التشيع العلوي والتشيع الصفوي، دار الأمير للنشر).. أولئك الروحانيين الذين "يبذلون جهداً استثنائياً وحاذقاً في شل حركة التشيّع ومسخ حقيقتها وإحباط تأثيرها في القلوب والعقول" (المصدر السابق)..
أما مصدر صعوبة فهم هذا الفكر فيرجع لأسباب عدة، أهمها إنه فكر يستطيع أن يتلوّن بكل الألوان، حسب المصلحة ومتطلباتها المادية والسياسية، وظروفها المكانية والزمانية.. لذلك يتمتع معتنقو هذا الفكر بثقافة مزدوجة، لها وجهان، وجه مُعلن، وآخر خفي..