منظومة القيم والمعايير (6) الشخص غير المناسب في مكانه..

قد يكون تكراراً للحديث، لا أحبذه، إلا إن التكرار بات أحد أكثر الآليات الإعلامية نجاحاً.. إذن سنكرر هنا الحديث فيما سبق وتحدثنا عنه..
في معرض نقده لسيسيولوجيا الإرهاب يؤكد عالم الاجتماع المعروف، الدكتور برهان غليون، بأن "ليس التاريخ القديم ولا الثقافة العربية والإسلامية الموروثة هما اللذان يفسران ظاهرة العنف التي تعرفها المجتمعات الإسلامية اليوم ومنذ عقود قليلة... العنف والإرهاب هما تعبيران عن انحلال منظومات القيم والمعايير والقواعد التي تشكل مدنية كل مجتمع".. ويعلل كلامه هذا بقوله إن "مصدر العنف واحد.. هو تخبط المجتمعات التقليدية وتفكك نظمها القيمية تحت ضغط التحولات الدولية السريعة والساحقة أحيانا.. وبالإضافة إلى هذا المصدر العام يستفيد العنف أيضا من الأوضاع الاستثنائية التي عاشتها المنطقة العربية في القرن الماضي والتي جعلتها تتخبط أيضا في معركة تحرير واستقلال متعثرة وغير مكتملة بالإضافة إلى تخبطها كغيرها في معركة استيعاب طفرة الحداثة وانفجاراتها المستمرة"..

وإن كان هذا التحليل الأنثروبولوجي، للدكتور غليون، يعد واقعياً لدرجة الحقيقة في وصفه حال مجتمعاتنا العربية عموماً، إلا إننا نستطيع أن نؤكد بأنه أكثر قرباً وواقعية في وصفه حال مجتمعنا الخليجي خصوصاً..
ورغم عدم توفر دراسة اجتماعية (أنثروبولوجية) متكاملة عن منطقة الخليج خلال فترة النصف الثاني من القرن العشرين، إلا إننا يمكن أن نؤكد بأنها كانت أخطر مرحلة اجتماعية مرت على هذه المنطقة من حيث تعرّضها لاستنزاف منظومتها القيمية، وتحولها القسري إلى تبني مفاهيم قيمية ممسوخة بدأت أولاً في استهداف مجالاتها الإبداعية والفنية والعلمية والثقافية.. ومن هنا يمكن أن ننطلق في تفسير التدني المستمر في نوعية مخرجات التعليم الذي نعيشه اليوم على أنه ناتج أولي لعملية مسخ منظومة المجتمع القيمية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي.. فما عاد هناك معيار سليم في تعريف العمل الثقافي أو الإنتاج الإبداعي أو تقدير سليم للتحصيل العلمي أو المعرفي..
وكما اختلطت مفاهيم الثقافة بمفاهيم الوجاهة بعيداً عن أي انتاج إبداعي أصيل، كذلك تداخلت مفاهيم المعرفة العلمية بمفاهيم المنصب ووجاهته بعيداً عن أي انتاج علمي موزون.. وفي المحصلة لم يعد هناك، من يعطي اعتباراً لمفاهيم ومعايير التراكم المعرفي المطلوب لبناء مجتمعاتنا، التي لاتزال مستمرة في الإنزلاق للأسفل بفعل مخرجات تلك المرحلة..
وفي البحرين، يمكن أن نحدد أهم مظاهر ذلك الانزلاق المعرفي نحو الهاوية، اليوم، في تلك الهجمة الشرسة التي يتعرض لها قطاع الثقافة والآثار والتراث الوطني في وزارة الإعلام.. هذا القطاع الذي يعد أكثر المؤسسات البحرينية نجاحاً، والمؤسسة الناجحة الوحيدة على مستوى وزارة الإعلام تقع اليوم تحت تهديد الإنهيار لاسباب وأهواء ذاتية، ولفقدان الحكمة والفطنة الإدارية الملمة بإدارة الأزمات.. وأولاً وأخيراً لانعدام الإلمام بدقة البناء الثقافي الذي تمكنت الشيخة مي الخليفة، رئيسة القطاع، وفريقها من بناؤه في زمن قياسي..
من باب الإنصاف، وبعيداً عن كل المكائد التي تم وضعها في طريق عمل هذا القطاع، ولمن يفهم ويقدّر معنى صعوبة وحساسية العمل في صناعة الثقافة وملحقاتها.. وبعيداً عن كل المعارك التي تم شنها على شخص السيدة القائمة على إدارة هذه المؤسسة.. بعيداً عن كل ذلك يجب الاعتراف بالنجاح المنقطع النظير الذي حققه هذا القطاع من حيث الإنجاز والأداء والمكتسبات التي حققها في فترة زمنية قصيرة لمملكة البحرين على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، تحت إدارة شخص رئيسته، الشيخة مي الخليفة.. ويكفي أن نوجز ناتج عمل هذا القطاع بأنه تمكّن من أن يرجع السمة الثقافية إلى واجهة البحرين التي بدأ غبار الزمن بتغطيتها.. نعم ليس من السهل أن يتسم أي مجتمع بسمة الثقافة، كما هي سمة البحرين اليوم بفعل كل تلك الانجازات الثقافية التي نجح قطاع الثقافة بتحقيقها من خلال عمل دؤوب وهادئ ومنظم..
قطاع الثقافة والتراث الوطني بالذات، من دون كل قطاعات وزارة الإعلام، التي هي بحاجة للكثير من الإصلاح، هذا القطاع بالذات يتعرض للهجوم والانهيار كناتج عملي وفعلي مباشر للإنحلال القيمي الذي بليت به منطقتنا.. ففقدنا قيم ومعايير الشخص المناسب في مكانه المناسب ليقوم بالعمل المناسب.. وباتت قرارات ملأ المناصب القيادية خاضعة لتعاويذ لا علاقة لها بالمعرفة والخبرة والكفاءة.. تلك التعيينات التي ما أن تبدأ حتى نسمع أصوات تفجيراتها لشدة التنافر بين الفرد وموقعه القيادي الجديد.
فلا عجب من ارتفاع وتيرة العنف في مجتمعاتنا التي باتت غير قابلة لإخضاعها لسيطرة النخب الجديدة ضعيفة المواهب والإلمام معا.. وهذا ما يؤكد صحة تعريف الدكتور برهان غليون لسيسيولوجيا الإرهاب..


كلمات دالة: