احتلال العراق والقادة العرب

في ذلك العصر الوردي، في زمن المد القومي وعالم التعدد القطبي، ما كان ليقع غزو العراق واحتلاله.. وإن وقع شيء من ذلك ما كان ليمر بمثل ذلك الهدوء والصمت الذي كسى العالم العربي، شعوباً وأنظمة، عندما وقع هذا الجلل في مارس 2003..
نعم، في مارس 2003، حين خرجت الشعوب بالملايين في كل أنحاء العالم تصرخ غاضبة ضد الحرب والغزو واحتلال العراق، وضد القوة الأمريكية المجرمة التي لا تعرف غير لغة القنابل والقتل والإبادة، كان الشارع العربي يغط في نومه، والقادة العرب ساهرين على إبقاء هذا الشارع في خدرة النوم بعيداً عن دوائر الرفض والاحتجاج..
لم يتمكن الشعب العربي، المكبوت، من رفع صوته بالاعتراض كما لم يرفع زعيم عربي واحد صوته بالاحتجاج على جريمة الحرب والاحتلال غير المبَرَرَين سوى في قواميس الإجرام والقرصنة الاستعمارية الغربية.. ولم يعترض أحدهم على كل ما جرى للعراق من تدمير منظم.. ولم يعترض قائد عربي، حتى إنسانياً، على جرائم الإبادة التي لازالت مستمرة ضد العرب والعروبة في العراق.. سكتوا جميعاً حتى تأكدوا من إن هذه الحرب وهذا الاحتلال قد فتحا الأبواب أمام الخطر القادم من إيران..


نعم، ذلك الخطر التاريخي والمستمر منذ بدء تكوين جغرافيا الجيرة التي لا خيار لنا فيها، ولا خلاص لنا منها، رغم إنه لا يخفى على أي سياسي مهتم في شئون الشرق والعالم العربي، إلا أنه، على ما يبدو، قادتنا كانوا غافلين أو متغافلين عنه، حتى ذلك اليوم الذي فتح الإعلام الأمريكي أبواقه ضد الوجود الإيراني على الأرض العراقية (رغم إن الاحتلال الأمريكي هو سبب هذا الوجود)، وفضح ما يقوم به القادة الجدد والأحزاب والميليشيات التابعين كلهم لإيران، أصولاً ونشأة وولاءاً، من جرائم إبادة جماعية ضد كل ما له علاقة بالهوية العربية، بشراً وحجراً، واقعاً وتاريخاً، في العراق.. حينها ارتفع صوت قادتنا منذرين من عواقب هذا الخطر المفتوح على مصراعيه ضد كل العرب منذ أن فتح الأمريكان الحدود العراقية أمام جحافلهم للدخول إلى العراق تحت ستار المعارضة تارة وستار الدين تارة أخرى..
وسكت القادة على كل شيء منذ الغزو والاحتلال، ونطقوا في حدود ما بدا لهم من الخطر الإيراني على المنطقة من خلال الإعلام الأمريكي.. فباتوا يرددون ما يسمعوه من هذا الإعلام، في لقاءاتهم مع المحتلين والمستعمرين.. وبشكل فيه الكثير من السذاجة يعطيهم قادتنا الرأي الذي يقتبسوه من إعلامهم.. فلا يُخفى، على سبيل المثال، إن استراتيجية الإعلام الغربي تهدف لإقناع العرب، والعالم، بأن العراق لم يكن دولة موحدة على مدار تاريخه، وإن العراق، متعدد الأثنيات، لا علاقة له بالعروبة، وبالنتيجة أن قادة العراق (الجديد) ليسوا عرباً، وفي هذا للإعلام الغربي تقنيات موجهة مباشرة للقادة العرب قبل شعوبها.. وأما نتائج هذه الاستراتيجية الإعلامية فيستنتجها صانعو القرار في البنتاجون والبيت الأبيض من خلال تصريحات قادتنا الذين بشكل وبآخر يعبّرون عما يقتبسوه من ذلك الإعلام.. وهكذا يتم تدوير تلك المعلومات في تركيز قناعات القادة العرب معتمدين على التقنية الإعلامية أولاً وعلى الزمن ثانياً.. فما هم ليسوا مقتنعين به اليوم سيوافقوا عليه غداً.. والأمثلة أمامنا متعددة.. بدءاً باحتلال عربستان الذي رضخ الجيل العربي الأول من القادة العرب للسكوت عليه وإبداء الموافقة نتيجة لضغوط الاستعمار البريطاني الذي خطط ورسم لضم هذه الأرض العربية لإيران، ومع الوقت والزمن جاء الجيل الثاني من القادة ليبدي تعاملاً مع هذا الاحتلال كأمر واقع.. وانتهاءاً باحتلال أرض فلسطين الذي اعترف الجيل الحالي من القادة العرب بالكيان العبري القائم عليها قبل مرور خمسة عقود على ذكراه.. لذا يمكن أن نشير إلى تعامل النظام الرسمي العربي مع احتلال العراق بأنه سيكون أقل صبراً من الحالة الفلسطينية، وإن الجيل القادم من القادة العرب الذين تربوا في أحضان الثقافة الغربية، حتى بات غالبيتهم لا يجيد قراءة اللغة العربية، سيبدون أكثر مرونة في التعامل مع الرؤية الغربية في مصير هذا البلد العربي، وأكثر تفهماً للرؤية الغربية التي ترى في الشأن القومي العربي تخلفاً لا يجوز الارتباط به..
لكل هذا تهتم بيوت القرار في الغرب بزرع مستشاريها حول هؤلاء القادة، وخصوصاً في الخليج، حتى لو استدعى الأمر أن يكون أولئك المستشارين من أبنائنا، ومن جنسنا العربي، ولكن بروح غير عربية.. بذلك يضمن أصحاب استراتيجيات الهيمنة إبقاء الاعلام الغربي مصدراً وحيداً للمعلومات حول الشأن العربي وحتى في الشأن الوطني، ولإبقاء أولئك القادة داخل هذا المحور المعلوماتي الذي يزرع بداخلهم الإيمان بالتفوق الغربي وتهميش الشأن العربي.. وعليه، لن يطول الوقت قبل أن يعلن قادتنا قبول تقسيم العراق وإلحاق جنوبه بالدولة الجارة التي سبق وأن هيمنت على أغنى أراض النفط العربي في عربستان بذات الإسلوب المتبع اليوم في العراق.. فالغرب يرسم كل خطط تفتيت العرب، ويحمي كل من يمد لهم يد العون على هذا التفتيت، للقضاء على أي فكرة وحدوية يمكن أن تلوح في الأفق ويمكن أن تجعل من العرب قوة مهابة الجانب..


كلمات دالة: