التطرف الديني الباطني: المنطلقات الفكرية.. واستراتيجيات المواجهة

بدعوة كريمة من معالي مفتي جمهورية مصر العربية، شاركت بهذه الورقة في مؤتمر مركز سلام لدراسات التطرف، المنعقد في القاهرة في يونية 2022، تحت عنوان "التطرف الديني: المنطلقات الفكرية.. واستراتيجيات المواجهة"؛ ولظروف خاصة لم أتمكن من حضور المؤتمر لعرض ومناقشة ورقتي، وقررت نشرها للمزيد من التداول والاستفادة.
أود الإشارة في البداية إلى أنني سوف أحاول تسليط الضوء من خلال هذه الورقة على نوع محدّد من التطرف الديني أَسْميتُه بـ"التطرف الديني الباطني" وأقصد به فئة محددة من فئات الإسلام السياسي، مع التأكيد على الفصل بين التيارات الدينية السياسية وبين العقائد المذهبية الاصيلة.


وما حدا بي للاهتمام بهذه الفئة تحديداً ضمن موضوع التطرف الديني بشكل عام، هو ملاحظتي، كباحثة وككاتبة وكسياسية، بإن مراكز الفكر والبحوث والدراسات، وحتّى وسائل الإعلام، عادة ما تهتم بتطرف الإسلام السياسي في طائفة دينية واحدة، في حين أن البعد الثاني الذي يعد جزءً لا يتجزأ من مجمل التطرف الديني، هو مغيّب، بطريقة أو بأخرى، ضمن فضاء النقاش والبحث والدراسة في مجاله، علماً بأن ما يتميز به هذا البعد الباطني من أفكار وعقائد يعدان الأكثر ديمومة وتواصلاً في حلقات مستمرة منذ قرون، والأكثر حقداً ضد العرب، والأكثر خطراً ضد الإسلام والمسلمين، من بين مجمل أنواع التطرف المعلن أمامنا من الحركات والأحزاب والتنظيمات الدينية السياسية الأخرى.
وفي هذا السياق، أرجو أن لا ينسب هذا الطرح لأية نزعة "طائفية"، وهذا دَأْب اصحاب التطرف الباطني، بهدف ترهيب الباحثين، وتجريم وتحريم البحث في هذا الشأن الخطير. إذ يُحتِّم علينا الواقع العربي السيئ، دراسة ظاهرة التطرف الديني في شكلها الكلي الشامل المتكامل، أفقياً وعمودياً، أي بمختلف أبعادها وأشكالها، والتعمّق في تفاصيلها، وعدم اقتصار البحوث على دراسة العموميات، أو الاهتمام بجزء من عموم الموضوع دون الأجزاء الأخرى، لتكتمل لدينا الصورة المعرفية بخبايا التطرف الديني في عموم الإسلام السياسي.
1. التطرف الديني ظاهرة قديمة حديثة وكونية
يُعتبر التطرف الديني ظاهرة اجتماعية وسياسية خطيرة، ابتليت بها البشرية على مر تاريخ الأديان، ولم تسلم منها أي من شعوب العالم على اختلاف دياناتها ومعتقداتها. وتطورت ممارسات هذا التطرف عبر العصور ضمن أطر فكرية وممارسات سلوكية مختلفة، وباستخدام أدوات ومظاهر متعدّدة... إضافة إلى استغلاله عبر التاريخ بواسطة أطراف خارجية، لها مصالح في استثمار هذا النوع من التطرف العقائدي الأخطر أمنياً وحضارياً، لصالح الخطط الاستعمارية والتوسعية والهيمنة، وبشكل خاص في منطقتنا العربية.
وهنا نرى ضرورة التأكيد على فكرة أن التطرف الديني، كممارسة اجتماعية وسياسية، لا علاقة له بالدين، وإنما هو عبارة عن ممارسة اجتماعية أو سياسية، أو الإثنين معا، يتم من خلالهما توظيف الدين، والمقدس، واستغلال رمزيتهما من قِبَل مَن يدّعون الإيمان لبسط الهيمنة على عموم المجتمع، من خلال شرعنة التعصب، وحقهم في ممارسة السلطة وفرض الثواب والعقاب تحت ستار القدسية الرمزية.
ومّما يجعل من ظاهرة التطرف شأن بشري بالأساس، هو نزعة ميل الإنسان منذ الأزل إلى الغلو والعصبية في الطرح، بالرغم مما تزخر به الكتب السماوية من قيم التسامح والرحمة والحكمة. ولا نحتاج في هذا الإطار إلى التذكير بتاريخ وقائع التطرف الديني وتداعياته الكارثية التي مرت بها معظم الشعوب ومع جميع الأديان، ونكتفي بالتذكير بما مر به الغرب من تخلفٍ حضاري على مدى قرونٍ عدة بسبب التطرف الديني المسيحي في العصور الوسطى، والذي يعد أحد أهم النماذج الدموية البشعة للتطرف الديني، حيث كان الحكم للرهبان، دون رقابة أو مساءلة، تحت مظلة "القدسية" التي أسبغوها على أنفسهم للحصول على شرعية الحكم وامتلاك زمام السلطة في القصر والكنيسة، في السياسة والدين، وفي شؤون الدنيا والآخرة.
وفي هذا السياق التاريخي، شهدَت جميع الفرق الدينية بدون استثناء صراعات دامية بين مناصريها بادعاء امتلاك الحقيقة، المبني أساسا على التعصب الفكري والعقائدي، وانقسم المناصرون إلى فرق ومذاهب، يروجون لحقيقتهم الواحدة، ويعتبرون مَن يخالفهم في الرأي منحرفين وجب تصويبهم بالأدوات المناسبة، التي تصل إلى حد القتل، طبقا لفكر وعقيدة هذه الفرقة أو تلك.
فالديانة اليهودية شهدت ظهور فرق متناقضة في الفكر منها "الهاسكالاه" المتمسكة بفكر تغيير المعتقدات التي لا تتماشى مع الواقع كحركة دينية-علمانية متطرفة أدت لإنشاء أول حركة سياسية متطرفة تدعو إلى "تحرر اليهود"؛ و"الحريديم" الأكثر تمسكا بأصولية الكتب المقدسة... كما شهدت الديانة المسيحية اختلافات عميقة في الطرح، أفرزت ثلاث طوائف كبرى (الكاثوليكية/ الأرثودوكسية/ البروتستانتية)، وطوائف صغرى منشقة منها.
أما الدين الإسلامي، وهو الذي يهمنا في هذه الورقة، فإنه عاصر الصراع بين الفرق والحركات المتطرفة على مدار تاريخه. ولم تخلو جُل تلك الصراعات من تدخلات خارجية، كانت ولا تزال، لها طموحات التوسع بأراضي العرب والمسلمين منذ خُلِقَت الطموحات الامبراطورية وصراعات القوة، فكانت سبباً في فرز أنواع من الفرق والحركات، والعصبيات العقائدية المتطرفة، والتطرف حول المذاهب والطوائف، وصولاً إلى صعود ظاهرة التمترس خلف عقائد مستحدثة لفريقين رئيسيين بمسميات وعقائد مؤدلجة منسوبة مذهبياً، وهي أبعد ما تكون عن الدين والفقه الأصيل للمذاهب. ولا يزال، منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، يعاني العرب والمسلمون من الانعكاسات الكارثية لهذا الشرخ الديني السياسي المتطرف على جميع المستويات، وبالأخص في مستوى تقويض وحدة الأمة ومحاولات تصعيد نزيف الصراعات والاقتتال الداخلي بين العرب عموماً.
2. التطرف الديني الباطني- البعد التاريخي
يقول خطيب روما القديمة، شيشرون: "مَن لا يقرأ التاريخ يبقى أبد الدهر ولداً صغيراً"، ومن يتفحص ويقرأ الكوارث التي تحل على أمتنا منذ قرون حتى يومنا هذا، سيصل إلى نتيجة حتمية تؤكد أن العرب أمة تفتقر لثقافة وآليات استشراف المستقبل والتخطيط له، وإنها أمة تعتمد على الفعل ورد الفعل الآني، دون قراءة سليمة وعميقة للحاضر والماضي ورؤية استراتيجية للمستقبل، لأنها أمة لم ولا تعتمد على كتابة تاريخها، ولا على قراءة التاريخ وسبر أغواره من أجل بناء منظومة معرفية متكاملة حول المشاريع التي تستهدفها على مدار العصور المتلاحقة.
وهنا سأتناول ما يمكن تناوله في هذه المساحة القليلة، ما قد يكون مناسباً لبناء قاعدة معرفية بسيطة، حول البعد التاريخي لحركات التطرف الديني الباطني، التي استهدفت العرب والإسلام على مدار تاريخ طويل يمكن أن نحدد بداياته الخطيرة بفترة ما بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مباشرة، إلا أننا سنتجاوز ذلك لنمسك بخيوط التطرف الأكثر زعزعة للأمة، وهو تطرف "الحركة الشعوبية" كحركة باطنية بكل أبعادها الدينية والسياسية والثقافية، نجحت في تحديث وتوريث معتقداتها إلى أجيال متعاقبة ومستمرة منذ أربعة عشر قرناً، وبالتحديد منذ فترة الخلافة الأموية حتى يومنا هذا.
كثيراً ما يتجاهل الباحثون أثر الحركة الشعوبية التاريخية في مجتمعاتنا العربية، ويعجزون عن ربطها بما يهُب على منطقتنا من عواصف طائفية متطرفة ودامية تحملها رياح الشرق القادمة من خارج حدود وطننا الكبير. ويمكن أن يُنسب بعض من هذا التجاهل والعجز في تتبع أثر تلك الحركة، في الأغلب، إلى ما تتميز بها الشعوبية من عقائد وأيديولوجيات وآليات باطنية عالية السرية، لا يتم تداول أسس وقواعد روابطها الزمنية أفقياً، والعقائدية عمودياً، إلا في أوساط القائمين على قيادتها، في الحركة أو الحزب أو الدولة.
لقد نجح الشعوبيون، بأدواتهم الباطنية المُحكَمَة، في الحفاظ على صيرورة التغيير في مظاهر وأشكال حركتهم للحفاظ على صيرورة بقاءها واستمرارها. والتغيير يعد من أهم أدوات هذه الحركة لتناسب الزمان والمكان الذي تعمل فيه. والجهة الأخرى تملك هذه الحركة القدرة على تغيير مسمياتها في أنماط وكيانات متعددة، بهدف خلط الأوراق وفشل الوصول إلى نتائج مادية في أية دراسة أو بحث حول اصولها وأهدافها وأيديولوجياتها. إذ تعتمد الشعوبية على إخفاء تطرفها العقائدي والدموي العنيف خلف ما تُعلن من عقائد ومبادئ التسامح و"حوار المذاهب" لسلب العقول والقلوب، والحفاظ على كيانها العقائدي السياسي الرئيسي سليماً في ظل تعاقب انماط أنظمة الحكم، والسياسات والأيديولوجيات، التي عاصرتها منطقتنا العربية عموماً.
3. التطرف الديني الباطني وأصولها الشعوبية
في كتابه "الجذور التاريخية للشعوبية" (1961) يؤكد المؤرخ العربي الدكتور عبدالعزيز الدوري أن مفهوم الحركة الشعوبية شديد التعقيد، وكأنه بذلك يؤكد على صفتها الباطنية الخطيرة، ويعَرّف هذا المفهوم بإنه "محاولات شعوب غير عربية لضرب السلطان العربي عن طريق الفكر والعقيدة"، وإن هذه الحركة "في اندفاعاتها تتكشف عن صراع ثقافي وديني واسع"... ولأن سلطان العرب يستند إلى الإسلام فإن هذه الحركة َسخّرت فكرها وأدواتها عبر التاريخ بين المسلمين من غير العرب، الذي يصفهم المؤرخ بـ"الجماعات الخاضعة لسلطان العرب"، للإندفاع إلى مهاجمة الإسلام للنيل من العرب.
وبدراسة السياق التاريخي للحركة الشعوبية يمكننا التأكيد على إن حركات الإسلام السياسي السرية (الباطنية)، التي تتظاهر بالإسلام، هي تعمل على هدم السلطان العربي والإسلامي من الداخل، وإن الجهود التي بذلت لمسخ وتشويه الحاضر والتاريخ العربي، أو ما تم بثه من تضليل وتزييف في السِيَر والروايات الدينية، وفي النصوص المقدسة، هي جزء من سياق هذه الحركة القديمة-الجديدة.
وعلى مدار قرون، تم استخدام سبل سياسية واجتماعية وعقائدية وفكرية وتربوية متنوعة وعديدة في هذا الشأن الخطير، من ضمنها، على سبيل المثال، رواة الأدب وواضعوا الشعر، لما للأدب والشعر من تأثير كبير يضاهي تأثير السلاح في مجال الدعاية والتوجيه؛ كما يتم اليوم تسخير الإعلام والدراما بشكل كبير في بناء روائي جديد لقصص القرآن والأحاديث، بما من شأنه الانتقاص من الإسلام والعرب من جهة، ورفع شأن مَن يدّعون الإسلام من غير العرب من جهة أخرى.
ولم يقتصر الأمر على الأدب والشعر، بل هناك تفاصيل أكثر خطراً يكمن في التمترس العقائدي المذهبي في السلوك الحياتي المحاط بحماية الانغلاق الطائفي (الباطني) من جهة، والحراك السياسي القومي-المذهبي من جهة أخرى. وأخطر تلك التفاصيل هي منهجية تربية الناشئة والعقول الصغيرة وإخضاعها للفكر الباطني المتطرف مع جرعات من الترهيب والترغيب، وجرعات من القوة الكامنة المعدة للانفجار، والفوقية المذهبية والعقائدية والدينية، والإيمان بالمقدس المؤدلج ورفعته فوق الإسلام، انتهاءً ببث نفحات من أسباب وأهمية وأساليب الثأر والانتقام من الآخر المختلف عقائدياً.
إنها التربية الأكثر خطراً على بنية المجتمع العربي، والتطرف الأكثر دموية وتدميراً للهوية العربية والعقيدة الاسلامية.
المحصلة
أولاً: عقائدياً لا اختلاف بين الفرق الدينية السياسية الباطنية المتطرفة في القرنين الأخيرين (العشرين والواحد والعشرين) وبين تلك الحركات الشعوبية الأولى في القرن السادس الميلادي، إنما تطورت أدواتها واستراتيجياتها الحديثة المستخدمة في نشر عقائدها "المطورة"، وفي استقطاب التعاطف والولاء والتبعية، وفي دعوات الخروج على الإسلام والعروبة؛ فتمكنت الفرق الباطنية الجديدة أن تغلف رموزها وعقائدها بدروع القدسية لدرجة الترهيب، كما صنعت لها دولة، ودولاً داخل دول، وأحزاب وفرق عنف وميليشيات خطيرة، يصعب ردعها دماغياً.
ثانياً: اتبعت الفرق الباطنية الحديثة أسلوب الدعوة، وأجادت تعليم وتعلّم علوم الكلام، فتفوقت في تسخير عناصر وأدوات ووسائل الحروب الناعمة لكسب العقول والقلوب بأساليب قديمة- مستحدثة، تتغزل بشعارات الديمقراطية والعدالة والتسامح والمساواة بين الشعوب، لتنتهي بالتدخل المباشر والخطير في شؤون مجتمعاتنا العربية، والتحريض على الثورات وزعزعة النظام العربي من جذوره، متخذة من تقديس الشخصيات والطقوس والقصص والأساطير التاريخية سبيلاً لنشر فكرها القائم على عدم شرعية كل السلطات العربية منذ زمن الخلافة الإسلامية الأولى حتى يومنا هذا، مدعوماً بآلاف المؤلفات والكتب حول غيبيات ومعجزات قادمة بمسميات وعناوين مختلفة، تستهدف جميعها ابتزاز العقول وتسخير تبعيتها وطاعاتها لتلك العقائد والأوامر والشفرات الباطنية العليا.
ثالثاً: إن تاريخ وسياق ظهور تيارات، وفرق، وجماعات، وطوائف الغلو الدينية الباطنية، والتي عملت على فرقة المسلمين بالمواقف المتشدّدة والأفكار المتطرفة، مُحْدِثةً الانقسامات والتقاتل الداخلي، وبالتالي كانت سبباً في ضعف ووهن الحكم العربي والإسلامي منذ عصور خلت حتى يومنا هذا، ينسب إلى تاريخ تلك الحركات الشعوبية القديمة، والمبادئ التي تنادي بها، باطنياً (حركات الحشاشين والبابيين والبابكيين والصفويين وفدائيي إسلام وغيرها قديماً... وصولاً إلى الأحزاب الميليشياوية وأحزاب الإسلام السياسي حديثاً)، حيث وجدت في هذا السلوك الباطني مزايا تمدها بالقوة، كما تحقق لها النجاحات على مدار تاريخها الطويل، مما يمدها بالصبر والحماس للاستمرار والتوريث مع تعاقب الأجيال.
رابعاً: إن فتح باب المعرفة بالحركات والفرق الدينية الباطنية بحاجة إلى إرادة سياسية عليا، لدعم وتكريس وتأمين جهود دراسية وبحثية واسعة ومستدامة، تقودها عقول عربية علمية متخصصة في مختلف العلوم الإنسانية، وبالأخص في السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، وأخرى كعلوم الفلسفة والتأويل، وعلم النفس والتاريخ والآثار، ودراسات الاستشراق والاستعمار والاستشراف، بهدف تأسيس قواعد البيانات والمعلومات والمعارف التي يحتاجها العرب لضمان أمنهم، ومواجهة مختلف أنواع المد العقائدي القادم من الخارج، من أجل بناء مستقبل عربي أكثر استقراراً، وتوفير العيش الكريم لأجيالنا القادمة.
وبناءً على ذلك علينا التوجه بحكمة وجرأة نحو بناء منظومتنا المعرفية التاريخية حول اصول وجذور عموم التطرف الديني، دون تجزئة أو إقصاء لأي بعد من أبعاده القريبة والبعيدة، لنتمكن من وضع أسس وقواعد مواجهته والتصدي له بخطط استراتيجية قصيرة وطويلة المدى.


كلمات دالة: