المنطقة العربية بعد احتلال العراق..عصر الهيمنة الامبراطورية الأمريكية

نبدأ من حيث انتهى إليه جيمس وولسي، رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السابق، في حديثه، الأسبوع الماضي إلى مجموعة من الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة الأمريكية قائلا: "إننا نخوض حرباً عالمية رابعة (واصفا الحرب الباردة بالحرب العالمية الثالثة)، وهي حرب نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، فلابد لحكومات دول مثل مصر والسعودية أن تشعر بالقلق لأن الديمقراطية وفق الأسلوب الأمريكي قادمة لشعوبهم، وان هذه الحرب سوف تستمر لفترة طويلة ضد الأعداء الثلاثة الذين يشنون حربا ضد الولايات

المتحدة منذ سنوات طويلة وتنبهت لهم الولايات المتحدة أخيراً، وهم حكام إيران الدينيون، و"الفاشستيون" في العراق وسوريا، والمتطرفون الإسلاميون مثل تنظيم أسامة بن لادن،.  هذا التعريف بأهدافها، وتحت شعار "حرب نشر الديمقراطية الأمريكية" في المنطقة العربية تنفذ الولايات المتحدة، في الوقت الراهن أهم واخطر بند في استراتيجية تأمين وتوسيع مناطق الأمن الأمريكي في العالم مما يؤمن لها اعتراض صعود قوة عظمى جديدة منافسة للقطب الأمريكي الأوحد في العالم، مثل الصين. 

أن توسيع مناطق الأمن الأمريكي يعني من الناحية الأخرى فرض الهيمنة الأمريكية العسكرية والاقتصادية على أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، وإضعاف الأمن القومي العربي بما يجعل المنطقة العربية بشكل عام تحت سيطرة الإدارة الأمريكية مباشرة، ولتحقيق كل ذلك عملت الولايات المتحدة خلال فترة إدارة الرئيس جورج دبليو بوش على خلق الظروف المطلوبة لتحقيق أهدافها (أحداث 11 سبتمبر وشبح الإرهاب ).  على هذا الأساس تتعامل الولايات المتحدة بعجالة شديدة، وقبل فوات الأوان، مع معظم القضايا في هذه المناطق بالقوة العسكرية خارج الشرعية الدولية بدعوى الحروب الوقائية والاستباقية لحماية وتوسيع مناطق أمنها القومي.
قبل أن تنتهي الفرصة الدولية (الحرب على الإرهاب) التي فرضتها الإدارة الأمريكية على العالم، بدأت الولايات المتحدة بتنفيذ سلسلة حروبها الوقائية والاستباقية (كما سمتها) خارج الشرعية الدولية أولا باحتلال أفغانستان لتأمين منافذ آمنه لمصالحها النفطية في آسيا الصغرى، وبذلك تؤمن مصالحها في شرق آسيا قبل أن تفكر إحدى القوى العظمي الموجودة في تلك الامتداد إلى هذه المناطق النفطية بحكم قربها الجغرافي.  وقبل الانتهاء من فرض الأمن والسلام في أفغانستان والقضاء على بذور الإرهاب هناك، كما تدعي الولايات المتحدة، كانت قد وضعت خطتها العسكرية لاحتلال كامل الأرض العراقية للسيطرة على منابع النفط في العراق التي بدأتها بإرسال المفتشين الدوليين إلى بغداد للتفتيش الدقيق جدا، للتأكد وضمان خلو العراق من جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل، التي يعد السلاح النووي أهمها وأخطرها، كما قامت بزرع مختلف أنواع أجهزة المخابرات والتجسس في العراق لملاحقة القيادة العراقية وقصفها والقضاء عليها وانهاء الحرب بالطريقة المافياوية التي تعرفها الولايات المتحدة جيداً وكما نفذتها في هذه الحرب البشعة. 
لاتزال الغالبية العظمى من شعوب العالم لا تعلم كيف انتهت هذه الحرب وكيف حصل هذا الانهيار الكبير في الوضع العسكري العراقي وأين هي القيادة العراقية، كما لاتزال القيادة الأمريكية تمارس التعتيم والتضليل في هذا المجال رغم أن وسائل أعلامها الخاصة كانت ولاتزال تسير خطوة بخطوة مع قواتها في البر والبحر والجو لتصوير جميع المعارك والتحركات العسكرية والشخصية من شمال العراق إلى جنوبه سواء في ساحة القتال أو في الأراضي والحدود والمنافذ البرية والبحرية والجوية العراقية، فهل فعلا لا تعلم الإدارة الأمريكية ماذا حدث في العراق في الفترة مابين اليوم الخامس عشر من الحرب، يوم معركة المطار إلى اليوم العشرين من حربها المدمرة على العراق وهل فعلا لا تعلم أن كانت القيادة العراقية لاتزال على قيد الحياة أم أنها قد صفيت في الغارات المركزة والمكثفة التي قصفت بها بغداد وجميع المدن العراقية؟ وهل فعلا لا تعلم الإدارة الأمريكية أن كانت القيادة العراقية آو من تبقى منهم هم في العراق آو خارجه؟ وهل فعلا لا تعلم الإدارة الأمريكية من أين جاءت وكيف تتحرك هذه الجماعات الغوغائية في قافلات منظمة ومسلحة بين المدن العراقية وداخلها بهدف التدمير والترويع وإرهاب الإعلاميين الموجودين في بغداد للحد من حركتهم، بعد أن حاصرت القوات الأمريكية هؤلاء الإعلاميين في الفندق وفي المنطقة القريبة منه كي لا يتحركوا بحرية داخل بغداد للتعتيم على جميع الأخبار إلى حين الانتهاء من المهمات الأساسية التي يقومون هم بها؟ واخيراً هل يمكن أن تكون القيادة الأمريكية لا تعلم بكل ذلك رغم سيطرتها التامة على العراق برا وبحرا وجوا وبينما القوات الأمريكية في بغداد مستمرة في عملياتها داخل المؤسسات والمنازل والمدن العراقية من دون توقف منذ استيلائها على هذه المدينة التي استبيح أمن سكانها ومؤسساتها وتراثها وتاريخها وثقافتها.
منذ معركة المطار، يوم السبت 5 ابريل 2003م، لا أحد يعلم ماذا حدث داخل بغداد وعلى مشارفها ومداخلها، حيث أن الإعلام العراقي لم يكن موجودا في ساحة المعركة لتوثيق الوقائع بالصور، وحيث أن الإعلام العربي والأجنبي الموجود داخل بغداد كان بعيدا عن دائرة المعارك (خوفا على سلامة مراسليه)، فأصبح كل ما حدث هناك، في أرض المعركة، غامضا إلا لبعض الأفراد الموجودين عن قرب أو لمن تسللوا لهذه المناطق المعرفة الحقيقة، بالاضافة إلى القيادة العراقية الغائبة حاليا، والقوات الأمريكية وإعلامهم الملازم لهم طوال ذلك الوقت.  لذلك ظهرت مؤشرات وتحليلات كثيرة من بعض المتخصصين، الذين استطاعوا أن يحصلوا على بعض المعلومات، بأن معركة المطار كانت قاسية على الجانب الأمريكي لدرجة كبيرة جدا مما دفعهم إلى استعمال السلاح التكتيكي غير التقليدي (سلاح الدمار الشامل) في ساحة المعركة، مما حول جميع المقاتلين العراقيين هناك إلى قطع مفحمة ورماد، بعد انسحاب القوات الأمريكية إلى الخلف للحفاظ على حياتهم.  في هذه المعركة وفي معركة معسكر الرشيد تم القضاء على الغالبية العظمى من فرق الجيش العراقي وعتادهم، في الوقت الذي تم قصف القيادة العراقية بأربع قنابل، تزن كل واحدة 1000 كيلوجرام، في اجتماع لهم في إحدى مناطق حي المنصور يوم الاثنين 7 ابريل 2003م، على اثر تسلم القيادة المركزية الأمريكية إشارات من احد جواسيسهم المزروعين في مختلف مناطق العراق لهذه المهمة.
كل هذه المعلومات تعتم عليها قوات التحالف إعلاميا لعدة أسباب، أولا: لعدم اثارة الرأي العام العالمي الذي لايزال ثائرا ضد الولايات المتحدة وسياساتها في العالم، ثانيا: كإحدى وسائل الحرب النفسية على الشعب العربي، للمزيد من الإحباط والتراجع النفسي بسبب الشعور العميق بالهزيمة والخذلان، ثالثا: للمزيد من التشويه في تاريخ القيادة العراقية وعدم جعل الرئيس العراقي بطلا باستشهاده في مساحة المعركة وابقاء قصة وجود صدام حسين للمزيد من الممارسات الابتزازية الأمريكية ضد حكومات المنطقة واستمرار شبح الإرهاب المزعوم.
انتهت معركة بغداد وتم احتلال العراق، ومن كان يتصور عدم حدوث ذلك فانه لم يكن قادرا على قراءة الواقع.  لقد تم التجهيز لهذه المعركة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما، منذ أن تراجعت قوات جورج بوش الأب عن الجنوب العراقي بعد أن كانت على مشارف بغداد في عام 1991م الذي فسره الكثيرون بان الرئيس الأمريكي كان قد قرأ تاريخ هانيبال الذي دخل مع قواته لاحتلال بغداد وتمكن البغداديون من تقطيع أوصال هذه القوات والتمثيل بأجسادهم على أبوابها، فلم تكن النتائج بالنسبة إلى القوات الأمريكية مضمونة، وخصوصاً مع احتمال امتلاك العراق للأسلحة غير التقليدية، في ذلك الوقت.  ولكن عام 2003م، أي بعد ثلاثة عشر عاما من معاناة الشعب العراقي من أبشع وأخطر حصار اقتصادي حصل على أي شعب على مدار التاريخ، وبعد أن أنهك هذا الشعب من الأمراض والجوع والعزلة الاقتصادية، أصبح العراقي المنهك من الضعف ما يؤهله لأن يكون الهدف الأول في جدول التغييرات الجديدة في برنامج إعادة تشكيل المنطقة العربية (استراتيجية توسيع دائرة الأمن القومي الأمريكي).  وخلال تلك الأعوام الثلاثة عشرة تم ترتيب أوراق الأنظمة العربية بالضغط والترهيب والترغيب لتقديم جميع الوسائل الممكنة لاحتلال العراق فكان للتواطؤ العرب بتقديم مختلف أنواع الدعم اللوجستي والمعنوي والاستسلامي الدور الكبيرة في الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق.  خلال تلك الأعوام الثلاثة عشر تم تنظيم مختلف الوسائل التجسسية والمخابراتية على الأرض وفي عمق العراق لشراء الذمم وقنص القيادة العراقية ورصد كل ما يمكن أن يؤدي إلى تحقيق هذا الاحتلال.  وخلال تلك الأعوام الثلاثة عشر تم التأكيد بما لا يدع مجالا للشك أن العراق خال تماما من جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل.  وبعد ذلك قاموا بقصف العراق على مدار 24 ساعة لمدة 21 يوما بآلاف الأطنان من مختلف أنواع الصواريخ والقنابل ومختلف أنواع الأسلحة الممنوعة دوليا مثل القنابل العنقودية والحرارية وغير التقليدية وأسلحة منتجة حديثا فقط لاستعمالها في هذه المعركة وصواريخ توماهوك وكروز العابرة للقارات.  وتم احتلال العراق وأصبحت مدينة المدائن العربية في قبضة قوات التحالف والصهاينة الذين نظموا ليس فقط لاحتلال العراق واستباحة مدنه، بل أدخلوا عليه جيشا من الحاقدين من منافذ عربية لحرق تاريخه وتراثه، وما كان هدم المتاحف العراقية وتدمير وسرقة أثار حضارات تمتد لفترة 5000 عام في التاريخ، وحرق المكتبة الوطنية العراقية ومكتبة الأوقاف المركزية ومكتبة بيت القرآن الكريم في بغداد التي تحوي نفائس المخطوطات والكتب والمراجع التاريخية العربية والإسلامية والعالمية إلا دليل على مدى الحقد والكراهية الصهيونيين لهذا البلد وأهله وتاريخه الذي لا يمكن أن يفصله اليهود عن تاريخ الأسر البابلي الذي لايزال متعمقا في الثقافة والعقيدة اليهوديتين منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف عام. 
ومرة أخرى، وقبل الانتهاء من فرض الأمن والسلام في العراق، والقضاء على بذور الإرهاب هناك، كما تدعي الولايات المتحدة، بدأت الإدارة الأمريكية بالتحرك السياسي نحو الامتداد للدول المجاورة للعراق التي هي على قائمة التغييرات المطلوبة في إعادة تشكيل المنطقة التي تسميها الإدارة الأمريكية توسيع مناطق الأمن الأمريكي.  ورغم تأكيدات كولن باول بعدم وجود خطط حربية أخرى لدى الولايات المتحدة، مشيرا إلى سوريا وإيران، فإن هاتين الدولتين موجودتان على قائمة توسيع مناطق الأمن الأمريكي، بعد العراق، ولكن من دون الوسائل العسكرية، إذ المطلوب من سوريا وإيران السير في ركب السياسة الأمريكية وتقديم التنازلات والبدء بمناقشة علاقاتهما مع إسرائيل ومع المنظمات (الإرهابية) التي تحتضنانها وإلا فان الضغوط الأمريكية لا حدود لها. 
وعلى هذا المنوال تتقدم الآلتان العسكرية والسياسية الأمريكيتان نحو باقي دول المنطقة بدءا بمنطقة الخليج الغنية نفطيا والضعيفة إداريا وسياسيا وديمقراطيا، مرورا بمصر والسودان وليبيا باتجاه خط النفط في القرن الأفريقي وشمال إفريقيا، لبسط النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في المناطق التي تحد قارة أوروبا جنوبا، لإكمال بسط الهيمنتين الأمريكيتين العسكرية والاقتصادية على أوروبا، واكتمال دائرة الأمن الأمريكي، وبداية عصر الإمبراطورية الأمريكية والقرن الأمريكي الجديد.
أخيرا، ما يمكن أن يقال في هذا المجال: هو أن الأنظمة والحكومات العربية لا تمتلك اليوم أية وسيلة تحمي بها نفسها ودولها وشعوبها من هذه الهيمنة الاستعمارية العولمية الجديدة، سوى أن تفتح قنوات التواصل والاتصال والتلاحم مع شعوبها والبدء بتشكيل أسس ودعائم قوية في المجتمعات العربية للتكاتف لرفض هذا الاستعمار بجمع أشكاله، وهذا موضوع آخر.