إحذروا ثقافة الاستعمار الجديد

كلما شاهدت الجنرال الأمريكي الصهيوني جارنر وهو يجوب العراق من جنوبه إلى شماله ، وكلما شاهدت وزير الدفاع الأمريكي اليميني المتطرف رامسفيلد بإبتسامته الميتة وهو محاط بدرع من العسكريين الأمريكيين يخطو على الأرض العراقية ، أكاد أفقد عقلي . هكذا تتحدى الإمبراطورية الأمريكية الجديدة المشاعر العربية بدون أدنى إعتبار لتاريخ هذه الأمة ومطالبها ، وهكذا سوف يعلموننا ما يدعى بالديمقراطية من خلف الأسلاك الشائكة ، وبالإذلال ، وبحوار البنادق والرشاشات ، والسيطرة على العراق بآلاف الدبابات والمدرعات ، وقصف المساجد ، وتدمير تاريخ وحضارة العراق وجميع المعالم والبنية التحتية العراقية بحجة إنها مقتنيات صدام حسين ويجب أن تدمر ، وبالجدال الدائر حول تشكيل الحكومة العراقية على أساس طائفي وأثني بعد أن كان الجدال العراقي الدائم هو المطالبة بالتعددية وبمشاركة جميع الأطياف السياسية التي اشترك فيها العراقيون بجميع مذاهبهم وانتماءاتهم بنفس الروح الوطنية على مدار العصور.


وفي كل مرة أكون في هذه الحالة تناشدني خاطرة واحدة وملحة ، وهي معرفة رأي أولئك الكتاب والمثقفين والمناضلين العرب اللذين كانوا يُنَظِرون ويطالبون بتنحية الرئيس العراقي لتحاشي الحرب والإحتلال ، و يُنَظِرون بإن الخطيئة التي قامت بها القيادة العراقية الديكتاتورية بنظامها الشمولي وغير الديمقراطي هي السبب الوحيد الذي سوف يؤدي إلى الحرب بالضرورة ، ولأن الأمريكان هدفهم نشر الديمقراطية في المنطقة ، وخطيئة العراق إنها دولة لا ديمقراطية ، وبه عدد من المعتقلات كما به قصور تقع تحتها السجون ، كما أن خطيئة حزبها الحاكم بأنه حزب عشائري ، وإن ظاهرة العشائرية الحزبية هي أصل الأزمة وأسبابها ، وبذلك يجب أن تأتي القوات الأمريكية لتصحيح مساره اللاديمقراطي ، لأن الديمقراطية هي منتهى الأماني الأمريكية التي سوف تحول دول العالم الثالث إلى جنة ، كما الجنة في الولايات المتحدة بملايينها من العاطلين وفاقدي المأوى ، وبحكوماتها المتتالية المهووسة بكل أجهزتها الإستخباراتية بالمكارثية ، وبمجتمعاتها العنصرية ، وبحكوماتها المتتالية التي ضربت ولازالت تضرب جميع القوى الديمقراطية في العالم ، والتي تحولت فجأة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي إلى المرشد الروحي والعلمي والعسكري للديمقراطية في العالم .
ولأن وقع الإحتلال ومجريات أحداثه اليومية لهو من عظائم الأمور اليوم ، وكل ما نتقصاه هو متابعة تلك الأحداث ، فإن قراءة آراء أولئك الكتاب تعد من الأمور غير المرغوب بها حفاظاً على الأعصاب والمشاعر العربية الملتهبة في هذه الأجواء المتوترة . ولكن ، ورغم ذلك ، تقع أعيننا بين الوقت والآخر على أقلام أولئك الكتاب اللذين أعطوا أنفسهم الحق في التنظير في الشأن العراقي بدون أي عمق فكري أو موضوعي أو سياسي أو وطني ، مما يحول كتاباتهم لمجرد عرض عضلات بلاغية ونوع من طلب الشهرة وإدعاء المعرفة مسنودة بما تعطيهم تلك الصحافة من الإمتياز الشيئ الكثير ، مما يدل على حجم الخواء الثقافي في قطاعات معينة من مجتمعنا البسيط هذا ، ومما يشير إلى سيطرة ثقافة المحاباة والسير على خطى أولي الأمر وطلب الحظوة من المتحكمين في الأرزاق ، ومما يدل على أن الكتابة تحت هاجس لقمة العيش أو طلباً في المواقع والمناصب لهو بعيد جداً عن الفكر والحس الوطني المثقل بالهم العميق بما هو واقع على هذه الأمة من مخاطر . ولكن وللأسف الشديد إن هذه الكتابات تعمل في الجانب الآخر ، من حيث يعلم أو لا يعلم كتابها ، على نشر المفاهيم السطحية ، وتمييز وتشجيع سلوكيات الحظوة مقابل الكفاءة ، وضرب الثقافة الوطنية في الأعماق في فترة نحن بأمس الحاجة فيها للمشاعر القومية والوطنية لمواجهة ما حصل وما هو قادم من أخطار استعمارية .
إن ما يُدهش حقاً إن هؤلاء الكتاب لم يتعظوا مما يقع اليوم على الأرض العربية ، لا بل لم تهتز مشاعرهم بأدنى درجات التعاطف الوطني مع أمتهم المقبلة على عهد جديد من التفتيت والتشرذم وتعميق القطرية والذاتية لتسهيل السيطرة على مقدراتها ، وإن هؤلاء الكتاب مستغرقين في همهم الكبير وهو قبض ثمن كتاباتهم مادياً أو معنوياً ، وإفراغ ما في جوفهم من محتويات ، سواء كانت هذه المحتويات عبارة عن بعض الجمل الإنشائية ، أو بعض من الأحقاد والنوازع الذاتية ، أو ما يعتقدون بإنه ثقافة يجب نشرها وتوعية الجماهير بها لتنوير المسالك والمخارج . ومما يدهش أيضاً بأن هذه الكتابات لم تتغير على مدى عقود طويلة إلا في حدود التغييرات التي تقع في دائرة مواقع أعمال كُتّابها ، فالكتابة لديهم تتلون بلون الرئيس أو المسئول المباشر أو غير المباشر عن أرزاقهم ، ورغم ذلك فهم ما زالوا يعتقدون بأن الحياة خارج مواقعهم ومكاتبهم تسير كما كانت سابقاً ، لأنهم يعيشون في دوائر صغيرة ومغلقة عليهم وبهم ومنهم ، لا يقرأون المجتمع إلا من خلال أرقام مبيعات الصحيفة ولا شيئ آخر .
وخلاصة القول ، هو أن سياسة الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة ، فيما يخص مبادرة باول في نشر الديمقراطية المشؤومة حسب رؤيتهم في هذه المنطقة ، في تغيير المنهج الفكري والثقافي والديني لهذه المجتمعات العربية والإسلامية ، معتمدة تماماً على هذه الأقلام المحلية الساذجة والمنتفعة و"المتباكية والمتصايحة" والتي هي اليوم في مقام الدعاة الجدد للسياسة الإستعمارية القادمة .
اليوم وبعد دخولنا الفعلي في عصر الاستعمار والاحتلال مرة أخرى ، فإن التصدي لتلك الأقلام شفاهة و/أو كتابة لهو من الواجبات التي لا يمكن أن تقل عن واجب التصدي للإستعمار بجميع أشكاله . إن المجتمعات العربية التي عانت ولا تزال تعاني من القمع والإرهاب الفكري والجسدي وصل بها الحال للوضع الذي لا يمكن السكوت عنه بعد اليوم ، فإن كشف أصحاب النفوس الضعيفة والأنانية والمريضة والحاقدة على الأمة العربية ، وكشف ثقافة التزييف والتواطؤ لهو واجب وطني لا يمكن التنازل عنه بعد اليوم.