الصراع الطائفي وانقسام المجتمع – وهم أم حقيقة

هل يمكن أن تحل مشكلة الطائفية بصيغ طائفية؟ أم بتجاهلها؟ أم بالتظاهر بعدم وجودها؟ للتباهي بمثالية مجتمعاتنا وخلوها من النعرة الطائفية ، بينما هذا المرض ينخر في بنى المجتمع وهو في طريقه للتحول إلى داء مزمن يصعب علاجه كلما تقادم عليه الزمن.
هذا هو السؤال الملح اليوم في البحرين، وإن لم يتم مواجهته بكل صراحة فإننا نضحك على أنفسنا، في الوقت الذي نحن فيه غير

مقدّرين صعوبة المعضلة التي بدأت تحيك خيوطها حولنا لتحولنا إلى فئات وفرق في المجتمع لتتطاحن وتتصارع على قضايا وأمور بعيدة عن المشاكل الرئيسية والحقيقية الصعبة والتي هي بحاجة لحل أصيل وفاعل.
الغريب أننا جميعاً ندّعي بأننا غير طائفيين ، بينما توسعت دائرة الطائفية في السنوات العشر الأخيرة لتشمل القطاع الأكبر من المجتمع إن لم يكن كله نسبياً ، وخصوصاً فئة الشباب. والمصيبة العظمى هي أن قطاعات كبيرة جداً من الجيل الثوري والوطني وحملة الشهادات العليا والأكاديميين وأصحاب المناصب ومن نعلق عليهم الأمل لتغيير هذا الوضع البائـس تحولوا بشكل أو بآخر إلى الطائفية دون أن يعترفوا بذلك، "لأن الطائفية ليست صفة يعتز بها ذووها ، لا بل يتعمّدون التبرؤ منها ولو أنهم يمارسونها ، فإن الطائفي لا يُعرف بخطابه السياسي بل بسلوكه" حسب وصف سليم الحص للطائفية، في مقال له في جريدة السفير اللبنانية.
هناك من يُلَفِق حلولاً وهمية لمماهاة الصورة الحقيقية للطائفية بخلق مسميات وهمية كأن يسمي الطائفي نفسه إسلامياً يدعو إلى حماية الإسلام والتاريخ الإسلامي من الشوائب ، أو تنويرياً يدعو لمحاربة الطائفية ، وهما أبعد ما يكونان عن جوهر وروح الإسلام وعن فهم الحقوق وعدالة الإسلام وعن الوطنية والديمقراطية في السلوك والعقيدة . ولكن هذا التماهي لا يمكن إلا أن ينكشف عند المحك العملي الأول في أي عمل وطني حقيقي .
لذا لا يمكننا إلا أن نعترف بأن هذا الداء مستشري في البحرين بين الطائفتين وليس في طائفة واحدة ، وأنه يبعث بنفس السموم ونفس العصبية المذهبية والسياسية ونفس الكم من الوباء الفتاك بين الطائفتين، والتي من الممكن أن تتحول إلى قذيفة مدمرة وقاتلة في أي وقت مع فعل التقادم والتفاعل المستمرين.
فهل يمكن أن نفتح المجال للكلام العلني عن هذا الداء السياسي الخطير لمعرفة مظاهره ، وأسبابه ، وآثاره في المجتمع؟
إن أهم المظاهر الطائفيـة البغيضة، تتلخص في إلغاء إعمال العقل، وتكريس ضعف الوعي الجماعي للمجتمع، ومحاولة الإبقاء على هذا الوضع الخاطئ لضمان حالة الامتثال والتبعية من خلال ضيق الأفق والأنانية، والإبتعاد عن الفكر الموضوعي والاعتماد على تجييش وتحريك عواطف الناس عن طريق تحويل الصراع في المجتمع من صراع بين مذاهب فكرية وبرامج سياسية إلى صراع بين الإيمان والإلحاد وبين مؤمنين وعصاة . لذلك تمارس المؤسسات الطائفية إسلوب الترهيب للحد من حرية الرأي بإحتكارها لتفسير الدين وفق مصالحها بتقديم الأسانيد والفتاوى لتبرير أفعالها إعتماداً على النصوص، كما كانت لهذه المؤسسات المواقف المتحيزة ضد القضايا المصيرية المشتركة وفقاً لمصالحها وولاءاتها الطائفية ، وإعتماداً على بعض النصوص الانتقائية التي يتم تدويرها كلما إحتاج الأمر.
أما أهم أسباب نشوء الطائفية، والتي هي أسباب مشتركة تقريباً في كل مكان، كان ولا يزال نتاجاً "لظاهرة توظيف الدين في السياسة"، عوضاً عن تحديد هذا الدين في "حضور الإسلام كشريعة وكخلفية في مجتمع تتكون الأغلبية الساحقة من أفراده من المسلمين" ، كما يذكر الدكتور محمد عابد الجابري . ولا يمكن أن يخفى على أي مسلم مدى الفرق بين الإسلام والسياسة ، حيث أن "جوهر وروح الإسلام هو الوحدة ، فإن جوهر وروح السياسة هو التفرقة". وعادة ما يتم توظيف الدين في السياسة بواسطة "العقل السياسي للجماعة عندما لا يكون من مصلحتها التعبير عن قضيتها الاجتماعية/الاقتصادية تعبيراً سياسياً صريحاً ومطابقاً ، لأن ذلك يفضح الطابع المادي الاستغلالي لتلك القضية، أو عندما لا تستطيع تلك الجماعة بسبب ضعف وعيها ، نتيجة عدم بلوغها مستوى من التطور يجعلها قادرة على طرح قضيتها الاجتماعية/الاقتصادية طرحاً مكشوفاً . وفي كلتا الحالتين يكتسب توظيف الدين في السياسة طابعاً طائفياً أو مذهبياً قوامه استعادة نزاع قديم وبعث الحياة في رموزه ومضامينه الأيديولوجية، الشيئ الذي لا بد منه لجعل تلك الجماعة تتحول إلى (قبيلة روحية)"، وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أن يستدل بها على صحة هذا التحليل، والحالة الطائفية البحرينية أحداها.
وبالنسبة لآثار الطائفية في أي مجتمع ، فإن أخطرها وأعمقها يتلخص في تحول الطائفية لتحل محل الوطنية ، وتحول الطائفة لتحل محل الوطن لتحتويه ومن ثم تضفي الصفات والخصائص والولاءات الطائفية عليه ، فتصبح الطائفة هي الوطن وهي الولاء. وهذا ما يحدث دائماً عندما تبحث الطائفة عن السيادة فتصل إلى درجة من القوة فتحل نفسها محل الوطن فتلغيه حتى لو اسـتدعى الأمر الدخول في صراع ضد التاريخ وضد الوطن بتدمير مكونات الوطن والتاريخ. وهنا تكمن الخطورة المؤدية إلى العصبية والإنقسامات والإضطرابات والتي تصل في حدودها المفصلية إلى الحروب الأهلية المدمرة.
هذا تلخيص شديد لمظاهر وأسباب وآثار الطائفية في المجتمعات التي توظف الدين في السياسة ليكون عامل تفريق عوضاً عن أن يحافظ على جوهره وهو الجمع والتوحيد، وهكذا يدب الإنقسام في المجتمع إلى فرق متخاصمة ومتعارضة ومتصارعة ومتناسية خصمها الحقيقي، سواء كان هذا الخصم عدواً داخلياً أم خارجياً ، أو كان هذا الخصم هو الفقر أو الجهل، أو كان هذا الخصم صراع طبقي أو ظلم واستبداد سياسي واقتصادي.

****

وبالرجوع إلى قوى الإسلام السياسي، فإن الصورة الحقيقية والواضحة اليوم، والتي لا يمكن أن ينكرها أحد، هو الإنقسام والتفرقة الحاصلين على مستوى هذه القوى التي قامت على أنقاض الأيديولوجيات القومية واليسارية المختلفة ، كما هو واضح مدى الإنحسار الحاصل على مستوى أداء وأدوار الأنظمة الإسلامية ، سواء في إيران أو في السودان أو في أفغانستان أو غيرها . كل ذلك يضعنا اليوم أمام مواجهة صريحة مع هذه الحركات الإسلامية التي بدأت في فترة ما بالدعوة لصحوة إسلامية جديدة ، لنتساءل هل حققت هذه القوى وهذه الأنظمة الإسلامية هدفاً غير هدف الصراعات الطائفية ، وهل حققت هذه القوى وهذه الأنظمة الإسلامية أهداف تلك الصحوة الإسلامية المنشودة.
لقد دخلت الأمة الإسلامية والعربية، مع بداية القرن الجديد، وعلى إثر الممارسات السلبية لحركات الإسلام السياسي، إلى مرحلة جديدة من الإنقسامات الطائفية والمذهبية التي كانت أحد العوامل الداخلية في تفتت المجتمعات وانقسامها على نفسها، كما بدأنا نتملس أخطارها الكارثية في تبرير الغزو الأمريكي للعراق، والتي سوف نتلمس دورها السلبي والخطير في واقع هذه الأمة للحقبة التاريخية الجديدة التي بدأنا نعيشها من خلال الهيمنة الأمريكية في المنطقة سواء بالإحتلال العسكري، أو بالإملاءات السياسية على دول المنطقة نحو تعديل أوضاعها بما يتناسب مع السياسات الاستعمارية الجديدة، أو بفرض نماذج من الديمقراطيات المنقوصة التي تناسب الوضع الاستعماي الجديد.
إن كل هذه الآثار السلبية المترتبة على دور هذه الحركات الإسلامية تعطي المؤشر الواضح بأنها لم تحقق شيئاً من الوحدة الإسلامية ولا حتى استطاعت أن تنشر الصحوة الإسلامية المزعومة سوى في بعض المظاهر السلوكية والشكلية مثل لبس الحجاب بين النساء وإطلاق اللحي بين الرجال. بجانب هذه المظاهر الشكلية لم ترى المجتمعات الإسلامية أي ظاهرة انحسار في الفساد الأخلاقي ولا في الفساد الإداري، ولا في تدني الوعي والتعليم، ولا في مظاهر النفاق والرياء والزيف الإجتماعي، بل نستطيع أن نؤكد بأن هذه المشاكل في إزدياد متواصل ، بجانب تشكل مظاهر أخرى لهذه السلبيات أشد قسوة وأشد وقعاً على المجتمع، ولكن في صور مستترة وخلف مظاهر الهيبة والردع والتزمت وإلتزام الصمت.
أما في الجانب الآخر من الصورة، فكما قام الإسلام السياسي على أنقاض الفكر القومي الذي كان، على مدار التاريخ، ولا يزال بعداً من أبعاد الإسلام الذي بُشّرَ به على أرض العرب وباللسان العربي، إلا أن هذا الإسلام السياسي المشبّع بالولاءات الطائفية والسياسية المختلفة والذي تتلاعب به مختلف القوى الخارجية ذات الأطماع والأهداف السياسية والاستراتيجية في المنطقة الإسلامية ، غرز العداء والفرقة بين الإسلام والقومية ، وأصبح الإسلام يعاني من غربة طائفية في منابعه الأصيلة، كما أصبح العربي المنتمي للإسلام السياسي غريباً عن وطنه وبعيداً عن مصالحه الوطنية والقومية ، ومسيّراً بحسب الأجندات السياسية للقوى الخارجية والغريبة والمعادية للعرب والعروبة، والتي لها مصالح كبيرة في تفتيت المجتمع إلى فئات متصارعة ومتضاربة.

****

هناك إذن مطلباً ضرورياً وأساسياً للتغلب والقضاء والحد من انتشار هذا الوباء الطائفي في مجتمعاتنا ما دمنا جميعاً نعي مدى خطورته على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والذي هو نقيض تام لمبادئ الديمقراطية ولمفاهيم المواطنة السليمة.
ولتحقيق هذا الهدف ، على المجتمع بكل مؤسساته ، الرسمية والشعبيية ، اللجوء إلى كل ما تملك من وسائل للبدء في حسر الطائفية بدءاً بالتثقيف وزيادة الوعي في المفاهيم الإسلامية الموحدة وضآلة الإختلافات المذهبية من الناحية الشرعية والتشريعية، إضافة إلى تكريس ونشر مبدأ التسامح والترفع على تلك المنغصات الضئيلة والتي من الممكن أن تسبب كوارث كبيرة. والأهم من كل ذلك ، على المجتمع، مؤسسات وأفراد، تكريس التطبيق السليم لمفاهيم المواطنة الحقة، بدءاً من مبدأ تكافؤ الفرص والإلتزام بالحقوق والواجبات مع استيعاب كامل بأن المواطن دائماً يستمد جذوره وانتماءه من الوطن الذي يتيح له الحماية والتعليم وكامل حقوقه. إن التطبيق السليم والواعي لمفهوم المواطنة يعني بأن يكون المواطن مع وطنه، وأن ينتصر الفرد لوطنيته كلما تعرض الوطن للأزمات.
وحيث أن جميع فئات المجتمع ، بمختلف طوائفه ، يعاني من ذات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من خلال سوء التخطيط الاقتصادي، وسوء توزيع الموارد ، والإخلال بالعدالة الاجتماعية، فإن على المجتمع بأكمله أن يرص صفوفه لمواجهة هذه المشاكل عوضاً عن الإنشغال بالمشاكل الطائفية التي لن تحقق في النهاية إلا المزيد من الصراعات والإنقسامات.


كلمات دالة: