سقوط العراق ، وتصفية الحسابات السياسية عوضاً عن النقد الذاتي

كان المؤتمر العربي الثالث الذي انعقد في بيروت بتاريخ 24-25 أبريل 2003 (بعد اسبوعين فقط من سقوط بغداد) عبارة عن تظاهرة شعبية يمكن أن تعد أكبر تجمع شعبي عربي يضم ممثلين من كل الدول العربية للتعبير عن رفض الإحتلال الأمريكي للعراق ، وقد تجمع في تلك القاعة ، في فندق كراون بلازا ، ما يزيد على 350 شخصية عربية جاءوا من جميع أرجاء الوطن العربي ، من المحيط إلى الخليج ، وبمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية الشعبية.


كان الحضور البارز والفاعل لبعض القوى السياسية والشخصيات الوطنية في هذا المؤتمر وتفاعلاتهم بالقول والعمل دليل واضح بمدى الإحساس بمرارة وصدمة الإحتلال ، والإذلال ، وبمدى الجرح الغائر في الوجدان العربي بعد سقوط بغداد ، وهذا ما كان يمثله أصدق شخصيتان وطنيتان في ذلك المؤتمر وهما المناضلين الاستاذ ليث شبيلات والدكتور محمد أشرف البيومي اللذان كانا عبارة عن لسان حال الجيل العربي القومي الصادق مع نفسه والمخلص والأمين لأمته ، ولسان حال الجيل العربي القومي الذي لا يمكن أن يستسلم أو ينهار بالإحباط الذي يحاول العدو أن ينال منه لتحقيق إنتصاراته ، ولسان حال الجيل العربي الذي أتى في الفترة الوسطية من مرحلة بناء الفكر القومي العربي ولم يقبل أن يرهن فكره وإيمانه بأمته لحساب مصالحه الذاتيه والآنية وبقي متمسكاً بثوابت الأمة وبمبادئه الوطنية والقومية رغم كل الهزائم التي تسببت بها الأنظمة العربية والنخب والقوى العربية المخترقه.
ولكن وفي الجانب الآخر ، وبالرغم من عظمة الكارثة العربية بالغزو والعدوان وبالدخول في عصر الاستعمار الاحتلالي الجديد من البوابة العراقية بعد فلسطين ، وبالرغم من بربرية ولا شرعية الغزو والعدوان الأمريكي على العراق ، إلا إن بعض النخب والقوى السياسية التي حضرت المؤتمر ، اتخذت من المناسبة فرصة للدخول في عملية تصفية للحسابات التاريخية القديمة والعقيمة التي كانت بين أحزابها بشكل عام أو بين رموزها بشكل خاص ، فشغلت هذه القوى المؤتمر بالمهاترات والمحاسبات الهامشية والسطحية التي لا يمكن أن ترقى إلى حجم الأزمة العربية اليوم بعد انقطاع أوصال التضامن العربي ووقوع الأمة العربـية بأكملها في قبضة المخطط الأمريكي الصهيوني.
ورغم إن الوضع العراقي ، بمختلف تداعياته ، كان يثير الكثير من الحساسيات السياسية ، على مدى العقود الثلاثة الماضية ، سواء كان ذلك على المستوى العربي الشعبي والرسمي ، أم على المستوى العالمي (المتمثل في الإدارة الأمريكية) ، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا المؤتمر كشف عن مدى إفلاس القوى السياسية العربية في قراءة هذه التداعيات بنظرة قومية بعيدة عن الأنانية وحسابات المصالح ، وخصوصاً تلك القوى التي لا زالت تسير تحت لواء بعض الزعامات والرموز التي كانت سبباً في انحراف الوعي العربي الشعبي نحو الغوغائية والهامشية في العمل السياسي ونحو تغييب الثقافة الوطنية والقومية تحقيقاً للكثير من مصالحها الحزبية أو الشخصية.
رفض الكثير من القوى العربية قراءة الوضع العراقي وتداعياته قراءة قومية وملتزمة بالثوابت لإفشال الذرائع التي أعطيت لشن هذه الحرب ولهذا الإحتلال ، ولا زالت هذه القوى تمارس نفس الدور باتجاه العراق فقط لإختلافاتها الأيديولوجية مع الحزب الذي كان النظام العراقي يمثله . بهذه الأنانية واللاموضوعية التي تسيطر على الثقافة العربية يتم تحليل القضايا الكبرى ، وبهذه العقلية التي تجنح للعموميات والتبسيط والإبتعاد عن التدقيق لدرجة الإخلال بالثوابت والعقيدة كان ولا يزال يتم إتهام من يتكلم ، بعقلية مجردة من الأنانيات ، عن حجم التكالب الغربي على العراق بأنه من محبي الديكتاتورية ، كما كتب أحد كتابنا مؤخراً "وما لدى محبي "الديكتاتور" ما يتباهون به امام انفسهم وامام العالم" ، وإن النظام الديكتاتوري العراقي "قدم للعالم اسوأ صورة لبشاعة الديكتاتورية ورعبها ، وكشف انه أعجز من الدفاع عن وطن لم يكن جديرا بحكمه" . هكذا كتبوا ، وهكذا تكلموا ، فأصبح يقيناً لديهم ولدى أتباعهم بأن المحتلين الأمريكان جاءوا للقضاء على الدكتاتورية العراقية ، وتخليص الشعب العراقي منه ، فأصبح كل عربي عاجز وغير قادر على تغيير وضع حزبه أو مجتمعه أو غير قادر عن التعبير عن رأيه بحرية في ديكتاتورية وإستبدادية وشمولية نظامه الحاكم ، يتكلم عن دكتاتورية النظام العراقي ، وكأننا نتكلم عن مباراة كرة قدم وليس عن شعب وأمة عربية تقف اليوم في مهب الريح ، تتلاطم بين مخطط خارجي يعمل على إنهاء وجودها ، وبين حكومات داخلية متواطئة جميعها مع المحتل ضد إرادة شعوبها.
يرفض الكثيرون سماع أو تصديق أية أسباب لسقوط بغداد ، بهذه الطريقة الدرامية ، غير الأسباب التي وضعتها القيادة الأمريكية والتي بدأت تحيك عليها القصص والأساطير ، بكل حرفية إعلامية وعلمية ، لحلق المزيد من الإحباط ، ولكسر الإرادة العربية ، ولإظهار القيادة العراقية بالجبن والتخاذل وبيع بغداد بالمؤامرات ، وإظهار هذا الشعب العراقي البطل ، وصاحب أعرق حضارة في التاريخ ، كمجموعات من اللصوص والجياع والحفاة ، وإظهار العرب كمرتزقة يبيعون أوطانهم مقابل حفنة من الدولارات ومقابل الحصول على الجنسية الأمريكية (جنة الله في الارض).
يرفض هؤلاء العرب أن يسمعوا أن العراق سقط في قبضة التتار الجدد بعد مقاومة باسلة وبعد أن قتل من العراقيين عشرات الألوف بمختلف أسلحة الدمار الشامل الأمريكية ، لأن هذه الأسباب سوف تعطي القيادة العراقية السابقة بعضاً من المكاسب ، بينما هؤلاء لا يتمنون ذلك ، حتى لو كانت بالمقابل سوف ترفع من معنويات الأمة لمواصلة مقاومة المحتل . كما يرفض هؤلاء الإستماع إلى حقائق النصر الأمريكي الساحق المعتمد على الحرب اللاأخلاقية باستعمال قنابل نووية (الدمار الشامل) ، وإن هذه القنابل وغيرها من القنابل المحرمة دولياً أوقعت عشرات الألوف من الضحايا العراقيين من العسكريين والمدنيين وهم يدافعون عن أرضهم ببسالة ، خصوصاً وإن القوات الأمريكية العدوانية ترفض إعطاء أي رقم حقيقي لأعداد القتلى العراقيين خوفاً من المساءلة والتحقيق عن أنواع الأسلحة المستعملة في هذه الحرب البشعة.
ومع كل ذلك ، وبالموافقة جدلاً على أن النظام العراقي ، وليس إغتصاب الثروات العراقية وثروات المنطقة والأغراض الجيوسياسية الأخرى ، كان هدف هذا العدوان والغزو الأمريكي ، وها قد تم التخلص منه ، أليس الاجدر بهذه القوى السياسية العربية الإعتراف بأن الوجود الأمريكي في العراق يعد إحتلالاً يجب إنهائه فوراً وبأية صورة ، وأليس الأجدر بهذه القوى العمل اليوم على شحذ الهمم في البحث عن وسائل ردع حقيقية ضد هذا النظام الأمريكي الجارف ونحن نراه ينفّذ باقي خططه ، علناً ، نحو تحجيم دور سوريا ولبنان للإستسلام لإسرائيل ، ونحو القضاء على جميع قوى المقاومة العربية والفلسطينية ضد العدو الصهيوني المحتل لأكثر من أرض عربية ، وتصفية القضية الفلسطينية.
الغريب أن الإدارة الأمريكية لم تعد تخجل من الإفصاح عن نواياها وخططها للمنطقة مما يتطلب معاملة عربية حاسمة ، ولكن الخطير إن العالم العربي ، على المستوى الرسمي وعلى مستوى بعض النخب السياسية ، يعيش حالة من العجز ، ويغطي عجزه هذا بشتى الصور المزيفة من الديمقراطية ، ويضع أسباب عجزه هذا على شماعة النظام العراقي . فبينما كان من الأجدر لجميع الأنظمة العربية الرسمية والقوى العربية الشعبية ومن يدعون أنفسهم بالتكنوقراط والبراجماتية ، ممارسة النقد الذاتي والنظر لأنفسهم في المرآة لإكتشاف مواطن الخلل والعجز العربي الذي أدى بنا جميعاً للوقوع تحت جزمة العسكر الأمريكي ، إذ بها جميعاً تتجه نحو المزيد من الضحالة والتفتت والأخطاء تحت مقولة "إن لم تستطع قتالهم فشاركهم" ، فجاء البعض من المنظرين ببعض "النظريات السياسية" التي تعطي هذا الإحتلال الذرائع تلو الذرائع لعدوانه وغزوه للعراق ، وجاء البعض الآخر ليضع "النظريات الإقتصادية" التي تجيز المشاركة في البرامج الاقتصادية لقوى العدوان بالمزيد من الإذلال والإهانة ، وهذه المرة بخداع الشعوب بالتبرع لإعمار العراق الذي سوف يصب في النهاية في حسابات الشركات الأمريكية الضخمة على أن يحصل رأسماليونا المنتفعون الصغار بعض الفتات مقابل تنازلهم عن كل ما تبقى لديهم من نخوة عربية في زمن الإنكسار العربي هذا.
كيف يمكن لشعوب العالم أن تحترم شعوباً لا تحترم نفسها ، وكيف يمكن أن نقاوم عدواً نحن غير متفقين على دوره العدواني . كيف يمكن أن ينظر إلينا العالم وهو يدافع عن حقوقنا ، كشعوب ، ضد السياسة الأمريكية المسترسلة في زيادة فجوة الفقر في العالم لصالح الشركات متعددة الجنسيات ضمن النظام الاقتصادي العولمي بأدواته المختلفة مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية ، بينما نحن كشعوب غير قادرين على فهم هذا الدور وأسبابه ودوافعه وسلوكه . أليس الأجدر بكل أولئك الذين وقفوا ضد ما أسموه بالديكتاتورية العراقية أن توعّي شعوبها بالتكالب الأمريكي (العولمي) على مواردها وثرواتها لإستلهام أفضل السبل للدفاع عن حقوقها كشعوب حرة ذات إرادة . أليس الدور الأساسي للمعارضة السياسية السلمية هو تثقيف الشعوب وكشف الحقائق وتوضيحها لخلق وسائل وآليات الضغط المطلوبة في سبيل التغيير المنشود والأهداف "المثالية" الموضوعة في أدبيات هذه القوى السياسية.
ولكن للاسف الشديد ، هذه المؤسسات السياسية ، في مختلف المواقع العربية ، التي تتكلم وتثير التجييش ضد بعضها البعض في صفوف قواعدها والموالين لها عوضاً عن تثقيفهم ديمقراطياً ، تقول ما لا تفعل . والأهم من ذلك إن هذه القوى ما انفكت تدين ممارسات القوى الأخرى في الوقت الذي تمارس هي نفس السلوك تحت مسميات أخرى ، لكونها لم تجلس يوماً في حلقات نقاش فكري ديمقراطي لتقييم أعمالها وممارساتها منذ أن تأسست ، في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي أو بعد ذلك ، واكتفت بالقول بأن تأريخهم القديم تم وضعه في الثلاجة وما يقومون به اليوم هو عمل مختلف ، واستكفوا بهذا القدر من التعليل . هذه القوى التي خرجت بنظرية رفض النظام الشـمولي ، وتقوم بتداول ذلك في مختلف المنتديات ، هي اليوم تؤدي نفس الدور الشمولي في سياساتها العملية . على سبيل المثال تعمل هذه القوى على تسييس جميع مؤسسات المجتمع المدني من خلال فرض الموالين لها في مجالس إداراتها ، بحجة إن الأولوية للولاء دون الكفاءة ، كما حدث في بعض الجمعيات المهنية والجمعيات النسائية المختلفة ، وغير ذلك من الممارسات التي تتمثل في شخصنة المؤسسات السياسية ، والمركزية الشديدة في العمل ، والتباعد بين المركز والأطراف الذي تعاني منه جميع تلك المؤسسات العربية الشعبية ، فأين الديمقراطية في هذا الفكر الشمولي القاصر.
لذلك على جميع القوى السياسية في هذه المنطقة العربية المنكوبة أن تستغل هذه الفرصة اليوم ، وقبل فوات الأوان ، بالعمل على تحقيق إحدى الممارسات الديمقراطية الهامة والحيوية جداً ، وهي النقد الذاتي على جميع المسـتويات ، الفردية والجماعية ، المؤسسية والمركزية ، الفكرية والسلوكية ، ومن ثم البحث في أنجح الأسس الممكنة لتغيير ما يمكن تغييره في أعماقنا وفي أعماق مؤسساتنا ، ربما تمكنا بعد ذلك من بناء أجهزة قادرة على مواصلة النضال في هذا الواقع العولمي الجديد ، وتكريس هذه الممارسة الديمقراطية السليمة لتتبعها الأجيال القادمة . فإن لم نتعلم كيف ننتهز هذه الفرصة اليوم ، فسوف نكون من أكبر الخاسرين.
انتهى زمن التناطح الأيديولوجي الفارغ ، والمطلوب أن تتحد جميع القوى الوطنية الشريفة على أسس قوية ورؤى واضحة ، وأفكار منقحة ومتجددة ، وإلا ... فإن هذا العمل الذي يدعى بالعمل السياسي أو الوطني سوف يتحول قريباً (جداً) إلى إحدى الآليات الشكلية التي تبنيها وتتبناها الأنظمة العربية في برامجها الإصلاحية الجديدة لتحل محل الآليات المهترئة القديمة فيما تدعى بالمؤسسات غير الحكومية ، ضمن نفس الأنظمة الإستبدادية القديمة ، في حلتها الجديدة ، التي تحاول مختلف مؤسسات الإدارة الأمريكية إعادة تشكيل وصياغة علاقاتها ضمن رؤية مؤسسة مشروع القرن الأمريكي الجديد للمنطقة.


كلمات دالة: