تناقضات الأمة.. مقومات ضعفها

يعتمد منَظّري ومهندسي النظام العالمي الجديد ، في تنفيذ استراتيجياتهم في المنطقة العربية، على مجموعة من المقومات السلبية التي ترسخت في المجتمعات العربية بأكملها ، شعوباً وحكومات، وأضعفت من قدراتها السياسية والأمنية بالقدر الذي يسهّل الأمر على القوى الكبرى الخارجية باستهدافها، وإن لم تستدرك هذه المجتمعات شعوباً وحكومات مدى خطورة هذا الوضع الذي تعيشه فإن هذه الاستراتيجيات لن يصعب تنفيذها من خلال إعادة صياغة أنظمتها الحاكمة إلى أنماط جديدة ، تعمل على إمتصاص جزء كبير من غضب الشعوب من جهة، ومن جهة أخرى تكون غير قادرة على تشكيل أية قوة في المستقبل، كما لن تكون قادرة على حماية نفسها ، ويسهل التعامل معها حسب المصالح الاستعمارية وليس المصالح الوطنية للمنطقة، وأكبر مثال على ذلك هو تلك النماذج من

(الديمقراطيات) التي بدأت تعمم في المنطقة والتي تعتمد على جميع العوامل والمقومات السلبية المتمكنة من هذه المجتمعات، والتي سوف تُبقي المنطقة في حالة مستمرة من الضعف.
اعتمدت الاستراتيجيات الاستعمارية منذ البداية على أن تضع أهدافها ، بعيدة الأمد، على تناقضات المجتمع مع ذاته، وعلى تأجيج وتعميق هذه التناقضات. وضمن هذا المنظور تعد المنطقة العربية هدفاً سهلاً للطامعين من خلال مجموعة التناقضات التي تعيشها هذه الأمة، والتي تعد من أخطر المقومات السلبية في أي مجتمع. تتلخص هذه التناقضات الكبرى في التالي:
أولاً : عمق التوجهات الطائفية والأصولية وتضخم حجم ملف الأثنيات والاقليات،
ثانياً : قضايا الفقر والجوع والبطالة والنمو السكاني المرتفع جداً،
ثالثاُ : عدم وجود المؤسسات القادرة على إدارة الدولة خارج إطار سيطرة الأفراد والزعامات، مما يتسبب في وجود مجتمعات غير منضبطة وقليلة الفعالية لعجز الأنظمة وقصر نظرها وأفقها السياسي والاقتصادي،
رابعاً : انتشار وتمكن الفساد الإداري في أجهزة جميع الدول العربية وفي مؤسسات المجتمع المدني،
خامساً : مجتمعات مدنية مخترقة،
سادساً : شعوب غير قادرة على المحاسبة والمساءلة والتغيير،
سابعاً : التخبط في استغلال موارد المنطقة،
وثامناً : في قدرات عسكرية ضعيفة وهزيلة لا ترتقي لأجهزة قادرة على الدفاع عن دولة ومعتمدة على الوجود العسكري الأجنبي والخبرات والصناعات الغربية.
إن هذا الإحتلال المهين للعراق وما سوف يتلوه من تداعيات قادمة وسريعة ، يجب أن يضعنا شعوباً وحكومات عربية أمام مواجهة صعبة مع النفس، قد تكون متأخرة شيئاً ما، ولكن من السذاجة أن نعتقد أن الإحتلال الأمريكي سوف يتوقف عند حدود العراق وإن القوات الغازية ستراعي أية علاقة صداقة أو تحالف مع أية دولة عربية بعد ما حققته في العراق. إن الاستراتيجية الأمريكية الواضحة للعالم أجمع، وهي تمر اليوم في طور تطبيق أهم وأخطر مراحلها، متمثلة في إحتلال العراق، يجب أن تضع الأمة بأسرها أمام تساؤل حقيقي حول الواقع العربي برمته في هذه المرحلة.
بمقدار معارضتنا لهذا الغزو والإحتلال ودوافعه وأغراضه وغاياته التي لا زالت قائمة، يستوجب اليوم المطالبة بمواجهته بخطاب سياسي عقلاني ديموقراطي يوضح بشكل عام وعي الشعوب بتناقضات مجتمعاتها التي عملت القوى الخارجية بالتواطؤ مع الأنظمة العربية على خلقها وتعميقها ووضعها في سلّم أولوياتها ، كما يستوجب الاقتناع على أن أساليب التعبئة والتحشيد الخرافي والاسطوري القائمة على الكذب على الذات قبل الآخر أثبتت فشلها.
إن أهم عوامل الضعف العربي اليوم يتركز في النزاعات الطائفية والأصولية والأثنيات والأقليات التي تم تأجيجها منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، وتم استغلالها أحسن استغلال لضرب الوحدة الوطنية، وإحلال الولاء المذهبي والطائفي المتطرف في مقدمة الأولويات السياسية من خلال إضعاف وتفتيت مراكز القوة في الثقافة العربية والنشاط السياسي في الوطن العربي بشكل عام. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى بدءاً بالخلافات الاصولية والإثنية في المغرب العربي الذي يتم استغلاله في الجزائر أحسن استغلال لإضعاف القدرات الأمنية والعلمية لهذه الدولة بينما شركات النفط الأمريكية الكبرى (شركة هليبرتون) تعمل بكل طاقاتها في الصحراء الجزائرية لاستغلال الثروة النفطية الجزائرية من خلال مصانعها ومكاتبها ومطاراتها المعزولة في الصحراء، بعيداً عن مناطق النزاعات في المدن الجزائرية الرئيسية ، ومروراً بالحروب الأهلية الطائفية والإثنية في السودان بهدف إقتطاع جنوبه الغني بموارده النفطية عن شماله المحكوم بحكومة إسلامية بعيدة عن الديمقراطية، وانتهاءاً بمنطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي المتأججة بالصراعات الطائفية والأصولية بينما تحاول الأطراف المتصارعة إنكار أدوارها في تأجيج هذه الصراعات، والتي تصل أحياناً إلى درجة إنكار وجود هذه النزاعات أصلاً.
وليس هناك مثال اليوم في حالتنا هذه أصدق من المثال العراقي ، الذي إلى نهايات السبعينيات من القرن الماضي كان التلاحم الوطني من أهم أسباب قوته، وللتمكن من تفتيت هذا التلاحم تم زرع جميع عناصر الفتن والنزاعات الطائفية والدينية والإثنية في مجتمعاته المختلفة منذ ذلك الوقت للوصول إلى خلق إرادة تقسيم العراق إلى فيدراليات إثنية وطائفية يسهل التحكم فيها.
فمن كان يتصور أن يُحتل قطر عربي آخر بعد فلسطين، ومن كان يتخيل أن تُدار العراق بواسطة إدارة أجنبية بينما يقف العالم العربي كله في حالة عجز كامل ، أليس هذا الوضع الخطير يتطلب معاملة حاسمة لن تتحقق إلا إذا أقنع العرب العالم برؤيتهم الموحدة في مقاومة هذا العدوان وهذه الاستراتيجيات المتكالبة على مجتمعاتهم وحضارتهم وثقافتهم ومواردهم، وهذا ما لا يبدو مؤكدا في الوقت الحالي، لأن هذا الزلزال الذي وقع في 9 مايو 2003 لا يزال يتفاعل تحت تأثير مقومات الضعف والتناقض العربي.