الوجود العسكري الأجنبي والأمن القومي العربي

فور الانتهاء من الاستعمار القديم في العالم بشكل عام وفي الوطن العربي بشكل خاص ، بدأت تتشكل معالم الاستعمار الجديد ، في ظل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي (سابقاً) في الفترة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1990 . بدأ تشكل الاستعمار الجديد في ظل الإنتشار الاستراتيجي العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في مختلف بقاع العالم من خلال تمركز قواعدها العسكرية ونشر خبرائها ومنظزمة اسلحتها واساطيلها في مناطق نفوذها والأمتداد لمناطق نفوذ استراتيجية جديدة

ضمن خطة عسكرية للحد من امتداد النفوذ السوفييتي إلى المناطق الغنية في العالم ، في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي (سابقاً) يبسط نفوذه أيديولوجياً ضمن مخطط ثقافي وثوري في أوساط المجتمعات المختلفة في العالم الثالث ، بجانب بعض التواجد العسكري من خلال نشر منظومة أسلحتها وخبرائها العسكريين ، بالإضافة إلى بسط السيطرة المباشرة على بعض دول الجوار الجغرافي وغيرها من خلال حكومات موالية لها أمام المد الرأسمالي الأمريكي.
ولكن رغم كل ما قيل وما كتب عن صراع الحرب الباردة فيما يخص نشر نفوذ القطبين الرأسمالي والشيوعي عسكرياً واستخباراتياً وأيديولوجياً وثقافياً وفكرياً وثورياً إلا أنه نادراً جداً ما كان يتم اللجوء للعمل العسكري المعلن في النزاعات فيما بينهما ، لما تميز به القطبان من تكافؤ علمي واقتصادي ودور سياسي دولي ، إضافة لإمتلاكهما قوة ردع مدمرة ومتكافئة ، مما يتوجب إحكام السيطرة عليها لتحاشي ما يمكن أن يتسببا به من دمار لدولتيهما وللعالم . إلا أن مع انتهاء الحرب الباردة مع بداية تسعينيات القرن الماضي وانتهاء الخطر الشيوعي ، بدأ التوسع الأمريكي السافر بالتواجد العسكري وبسط الهيمنة الكاملة على العالم ، وخصوصاً على المناطق النفطية والاستراتيجية وذات الموارد الغنية ، ولم يعد خافياً الوجه الأمريكي الاستعماري ، الذي بدأ تشكله منذ وقت مبكر ، والذي اصبح واضحاً بالإعلان عن نفسه من خلال الوجود العسكري المتعدد الأشكال والأدوار ، ومن خلال السيطرة الاقتصادية والهيمنة السياسية للولايات المتحدة على مختلف دول العالم وعلى الأمم المتحدة ، فاصبحت الدولة العظمى والقطب الأوحد من ناحية كما أصبحت الدولة الإستعمارية الأقوى في صور مختلفة وبوظائف جديدة.

طبيعة الوجود العسكري الأجنبي
أن الوجود العسكري لدولة ما لدى دولة أخرى يعكس طبيعة العلاقات الدولية التي تربطهما ، والتي تتدرج من علاقات التحالف والتعاون حتى علاقات الصراع ، حيث أن علاقات التعاون بين دولتين تصل قمتها حين يتحول هذا التعاون من مجالات التعاون الاقتصادي والثقافي وغيرها إلى المجال العسكري ، بما يعني ظهور نوع من التحالف العسكري بين الدولتين ، أومجموعة الدول ، بل إن درجة هذا التعاون العسكري في حد ذاتها تختلف وفقاً لدرجة تطور هذه العلاقات . أي تختلف صور هذا التواجد العسكري مع اختلاف صور الندية والقوة والضعف بين الدولة المضيفة والدولة المتواجدة عسكرياً . كما يمكن أن تتغير صور التواجد العسكري في حالة الصراع المسلح الفعلي حيث يتحول التواجد العسكري في هذه الحالة إلى صورة إحتلال مع وجود قوات وتشكيلات قتالية في الاراضي والمياه الاقليمية والفضاء الجوي للدولتين .
كان هذا الوضع متوفراً إلى حد ما في عهد الصراع القطبي والتجاذب العسكري والتحالفات والوفاق الدولي ، ولكن ما جاء بعد ذلك من زوال حالة التعدد القطبي في العالم لم يقلل من نشاط الوجود العسكري الأجنبي كثيراً ، بل أصبح أكثر تركيزاً حول الوجود العسكري الأمريكي في مختلف بقاع العالم ، الذي بدأ ضمن استراتيجية عسكرة منابع النفط بعد حرب 1973 والدور الذي لعبه النفط العربي في تلك الحرب ، إضافة إلى ما تحمله هذه الدولة العظمى من نزوع للعب الدور العسكري عالمياً بما يتجاوز حدود مصالحها المباشرة إلى ما تعتبره مصالحها العالمية . ولذلك عملت هذه الدولة استخباراتياً ضمن الكثير من البرامج السرية على تفتيت وتقسيم بعض الدول إلى أجزاء ، تحت ذريعة الحكم الذاتي وحقوق الأقليات والأثنيات ، تستراً على هدفها الأساسي المركّز حول إيجاد دول صغيرة وضعيفة تقبل بالتواجد العسكري الأجنبي وتشعر بحاجتها له أو كحد أدنى للحصول على المساعدات المادية التي تحصل عليها الدول المضيفة مقابل ذلك التواجد . هكذا تحول هذا التواجد العسكري الأمريكي في النظام العولمي الجديد إلى صورة حديثة للإستعمار ، المختلف عن الاستعمار القديم السياسي والاقتصادي ، إضافة إلى إنه ذلك الاستعمار الذي قد لا تشعر الشعوب به بشكل ملموس كما كان الحال في الاستعمار القديم ، ولكن تشعر به وتلمسه الحكومات والأنظمة في البلاد التي لا تتصف بالنظام الديمقراطي ، حيث إن إدارتها وإرادتها السياسية تكون مرتهنة بهذا الوجود العسكري الأجنبي الاستعماري.

الوجود العسكري الأجنبي في الوطن العربي
حرصت الولايات المتحدة الأمريكية ، منذ وقت مبكر جداً ، على الوجود العسكري في منطقة الوطن العربي ، التي تعد المنطقة الأكثر حيوية واستراتيجية في العالم بجانب كونها الأغنى في مواردها النفطية . شمل هذا التواجد جميع صوره التي تتمثل في وجود الخبراء العسكريون ، والمستشارون العسكريون ، والمساعدات الأمنية ، والقواعد والتسهيلات العسكرية ، واستخدام التسهيلات التي تشمل قواعد وتسهيلات برية وقواعد وتسهيلات التجارب والتمركز المسبق لمعدات القتال والقواعد والتسهيلات الجوية مثل انتشار طائرات القتال التكتيكية والاستراتيجية لتنفيذ المهام القتالية وانتشار طائرات النقل والاستطلاع والمساحة لمعاونة أعمال القتال وغير ذلك . إضافة إلى ذلك إستمر النشر الإستراتيجي للقواعد والتسهيلات الشاطئية والبحرية والتسهيلات الفنية ، ومختلف صور التواجد العسكري مثل المناورات والتدريب المشترك مع القوات الأجنبية ، والوحدات المتخصصة عدا تشكيلات القتال ، إضافة إلى التشكيلات المقاتلة الأجنبية من الاسلحة المشتركة والقوات الجوية والبحرية ، والتشـكيلات الأجنبية المسلحة بأسلحة التدمير الشامل . ومن جانب آخر ، ونتيجة للهيمنة الأمريكية على المنظمة الدولية ، أصبح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ، وقوات حفظ السلام المتعددة الجنسيات التي يتواجد منها في شبه جزيرة سيناء وتواجدت مرتين في لبنان ، والقوات والتشكيلات القتالية التابعة للأمم المتحدة (قوات فرض السلام) ، والوجود العسكري البحري في المياه الدولية القريبة ، أصبح كل ذلك يعد ضمن التواجد العسكري الأجنبي للقوة الاستعمارية العظمى على الارض العربية.
ينتشر هذا التواجد العسكري الأمريكي في جميع الدول العربية من المحيط إلى الخليج ، وبمختلف أنواع الاتفاقيات والبرامج ، بدءاً من قاعدة الانتشار المتقدم لقيادة القوة الجوية الاستراتيجية ، وقاعدة إحتياطي القاذفات الاستراتيجية النووية الأمريكية من طراز "بي 52" في المملكة المغربية انتهاءاً بقاعدة الجفير في البحرين والتي استلمتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 1987 بنفس التسهيلات البريطانية المتفق عليها في عام 1959 ، وقاعدة قيادة القوات المركزية الأمريكية في العيديد في الدوحة ، ومروراً بقواعد عمليات النقل الجوي التكتيكي والإنذار المبكر وغيرها في مصر ومختلف صور التواجد العسكري في جيبوتي والصومال وعمان والأردن والكويت والسعودية وتونس والسودان وباقي الدول العربية .
ولكن ما يعد أحدث التطورات في هذا المجال ، وبعد أن كانت الدول الكبرى تحقق وجودها العسكري الأجنبي إما باستخدام القوة العسكرية كما كان يحدث في فترة الاستعمار القديم ، أو بالإغراء أي بدفع مساعدات وإيجارات لقواعدها وتسهيلاتها لدى الدول المضيفة ، إلا أننا وفي النظام العالمي الجديد هناك بعض الدول التي لم تعد تجد حرجاً في الإعلان عن طلب هذا الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها ، ودولاً تدفع إلى الدول الكبرى تكاليف بقائها العسكري على أراضيها .

الآثار السلبية للتواجد العسكري الأمريكي على الأمن القومي العربي
إن التواجد العسكري الأجنبي ينفذ دائماً سياسة ومصالح الدول التي ينتمي إليها ، مهما اختلفت أو تقاطعت مع مصالح الدول المتواجدة فيها ، كما أن أثبتت الوقائع والأحداث الكثيرة في العالم بأن حتى الوجود العسكري التابع للأمم المتحدة ينفذ مصالح القوى المهيمنة على هذه الهيئة الدولية وليس إرادة ومصالح المجتمع العالمي.
ضمن هذا السياق يتم تقييم دور التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة العربية في الوقت الذي تعيش الأمة العربية ومنذ أكثر من نصف قرن في حالة حرب مستمرة مع الكيان الصهيوني المدعوم بشكل كامل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وكامل إمكانياتها المادية والعسكرية ، وفي الوقت الذي كانت ولا تزال المنطقة العربية مستهدفة في مواردها النفطية الغنية التي أصبحت ، ضمن النظام العالمي الجديد ، مهددة بالإحتلال العسكري لتحييد هذه القوة الاقتصادية خارج الإرادة الوطنية العربية . ضمن هذين المنظورين يمكن معرفة مدى الآثار السلبية المباشرة وغير المباشرة لهذا الوجود العسكري الأمريكي في الأمن القومي العربي الذي جعل الخصم والحكم في القضايا العربية في نفس المستوى من العلاقات .
عمل هذا التواجد العسكري الأجنبي على الأرض العربية على مدار أكثر من نصف قرن على الزج بالأمة العربية في استقطابات دولية ، وجر الأمة العربية إلى صراعات من خارج الإقليم ، والضغط على الإرادة السياسية وتهديد أمن الدول العربية ، واستنزاف موارد الدول العربية ، بالإضافة إلى السيطرة الأجنبية على التقدم التقني وخاصة في مجال صناعة الأسلحة . كما أن هذا الوجود العسكري له دور مباشر في تشجيع الأقليات والطوائف على التمرد والإنفصال ، وإثارة النزاعات بين الشعوب العربية والعمل على استمرارها ، وتشجيع النزاعات بين الدول العربية والدول المجاورة وإحباط جهود التنمية الحضارية والنهضوية .
ولكن، رغم كل هذا التأثير السلبي للوجود العسكري الأجنبي في الأمن القومي العربي إلا أن وقائع التاريخ العربي ، خلال أكثر من ستة عقود ، تؤكد لنا بأن هذا التواجد العسكري ليس هو العامل الرئيسي في ضعف وتخاذل الأمن القومي العربي، بل يمكن أن يكون أحد نتائج عوامل الضعف المتراكم في البنية الاستراتيجية العربية ، تلك العوامل التي تشمل الأنظمة والقيادات العربية الضعيفة والمستسلمة كما تشمل غياب الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية في المجتمعات العربية. عملت جميع تلك العوامل ، المتراكمة والمستمرة في التفاعل ، على زيادة إضعاف وإرباك الأمن القومي العربي الذي أدى في النهاية لاستنزاف كامل الموارد القومية والسيادة العربية في جميع الأقطار العربية مع بداية تغير النظام العالمي نحو القطبية الاحادية المندفعة نحو الهيمنة والسيطرة الكاملة على مقدرات العالم.