قراءة في مفارقات النظام العالمي الجديد

تميز العقدين الأخيرين من القرن الماضي بالمتغيرات المتسارعة ، وبالأحداث الكبرى التي شكلت المراحل الأولى من النظام العالمي الجديد سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وتميزت تلك المتغيرات بإنتهاء الحرب الباردة وبسقوط عصر الأيديولوجيات، كما تميزت ببروز فكر الإسلام السـياسي في الشرق والتطرف الديني واليميني في الغرب، وبإكتمال نمو الأقطاب الإقتصادية التي ولدت على إثر الحرب العالمية الثانية، وتميزت بإشهار دور مؤسسات العولمة التي بدأت بنشر مفاهيمها وقوانينها قبل أن تبدأ بفرضها في مراحل متقدمة قادمة.


بجانب كل ذلك بدأت معالم الصراع بين الشمال والجنوب بالوضوح بسبب إزدياد فجوة الفقر العالمي بين الأقلية المسيطرة على الثروة والأكثرية المعتاشة على الحد الأدنى من الحاجات الإنسانية في العالم، مما أدى بأن يتميز القرن العشرين بتزايد الإضطرابات من جهة وتزايد القمع من جهة أخرى ، والذي انتهى بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، كما أنتهى بتزايد حدة المقاومة ضد سيطرة القطب الواحد على العالم، هذه المقاومة التي تم تسميتها "الإرهاب المدعوم من قبل قوى الشر" ، حسب معايير ومفاهيم تم تحديدها بواسطة القوة العالمية العظمى.

المفارقة الأولى
في منطقتنا العربية والإسلامية ، وفي ظل كل تلك الظروف والإضطرابات والصراعات الدولية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، تشكلت حركات وقوى سياسية وإسلامية ويمينة متطرفة على أنقاض القوى السياسية اليسارية والقومية القديمة، نتيجة لعوامل كثيرة من أهمها عدم محاولة الأنظمة السائدة في هذه المناطق تغيير سياساتها أو صيغها السياسية التسلطية، وبسبب زيادة سياساتها القمعية الرافضة لكل ما له علاقة بحريات الشعوب وبالديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية ، وبسبب إتساع الفجوة وإنقطاع التواصل بين الأنظمة الحاكمة وشعوبها ، بالرغم من سرعة المتغيرات الديمقراطية والفكرية في العالم. وكان من المعروف تماماً بأن السبب الرئيسي في بقاء وتسلط تلك الأنظمة الرافضة للديمقراطية طوال تلك الفترة الزمنية التي امتدت إلى ما يقارب نصف قرن، هو إن هذه الأنظمة كانت مدعومة بتوازنات القطبين العالميين في ظل الحرب الباردة، والتي كانت تستوجب على الطرفين الأمريكي والسوفييتي كسب ود الأنظمة في هذه المنطقة المعروفة بحيويتها وبمواردها النفطية الغنية ، مما ساهم في أن ترعى الولايات المتحدة دور هذه الأنظمة بصيغها السياسية غير الديمقراطية ، وتدعمها خوفاً من تغييرها إلى أنظمة ديمقراطية تميل إلى الجبهة الشيوعية، أو ترفع عصا العصيان ضد السياسات الرأسمالية المستنفذة لطاقات وموارد الشـعوب. وفي نفس الوقت ، لكي تضمن الإبقاء على النمط والسلوك الإستهلاكي لهذه المجتمعات ، وعدم تحولها إلى دول منتجة بإقتصاديات متقدمة ، والمحافظة على هذه المناطق كسوق لمنتجات الدول الصناعية الغربية لضمان تدوير مصانع وإقتصاديات تلك الدول ولكسب المزيد من القوة والسيطرة ، وإبقاء دول المنطقة في حالة مستمرة من الضعف والتبعية الاقتصادية ، وأكبر دليل على ذلك هو الدور الأمريكي في إفشال ثورة محمد مصدق سنة 1956 في إيران والذي يعد أحد أكبر الأمثلة للسياسات القمعية والدكتاتورية الأمريكية في المنطقة.
المهم من كل هذا هو أن هذه الأنظمة العربية والإسلامية التي كانت لفترة طويلة تقاوم الديمقراطية بكل إمكانياتها المخابراتية والأمنية المدعومة بواسطة الدوائر الأمريكية بأجهزتها المخابراتية والأمنية، ووسائلها القمعية المعروفة ، رغماً عن إرادة شعوبها ، أصبحت مرفوضة اليوم بسبب سياساتها غير الديمقراطية، ولكن هذه المرة من قبل القوة الكبرى ، الولايات المتحدة الأمريكية، الراعية الأولى لهذه الأنظمة في فترة حربها ضد الديمقراطية في المنطقة.
إنها مفارقة غريبة جداً، أن تتحول الولايات المتحدة، مع بداية القرن الواحد والعشرين، وبعد أن انتهت من حربها الباردة ، وانهت جميع ترتيباتها حول العالم نحو تحولها إلى القوة العسكرية والمهيمنة الأولى في العالم، من دولة تحارب ضد الديمقراطية في هذه المنطقة، إلى دولة تحارب في سبيل الديمقراطية.

المفارقة الثانية
الغريب في الأمر إن هذه القوة العسكرية والتدميرية العظمى تحاول اليوم أن تدخل إلى منطقتنا العربية والإسلامية بإسم الديمقراطية ، ولكن بشرط أن لا يكون هناك أية قوى معارضة لسياساتها، لأن ديمقراطيتها تقول بأن من يعترض على السياسات الأمريكية لا يمكن إلا أن يكون إرهابياً وسرعان ما يوضع في قائمة الإرهاب سواء كان فرداً أو منظمة أو دولة، وإذا كانت المعارضة شديدة جداً ، كما كان حال العراق، فإنها وبكل ديمقراطية سوف تدكها بكل ما تملك من قنابل تدميرية إلى أن تنهي وجودها وسيادتها ، وتسرق مواردها ، لكي تتمكن من أن تعلمها معنى الديمقراطية وطريقة ممارستها.
إنها مفارقة غريبة جداً، أن تأتي الديمقراطية بالقنابل والدبابات وبالقواعد العسكرية ، والاساطيل الحربية وحاملات الطائرات، وبالإحتلال العسكري ، والنصوص الدستورية المنقوصة لمبادئ الديمقراطية، وبإقصاء الرأي المعارض وبتسميته بالإرهاب. والمفارقة الأهم هي أننا يجب أن نتعلم ونقبل هذه الصيغة الجديدة من الديمقراطية، لأننا شعوب لا نعرف ألف باء الديمقراطية لذلك يجب أن نتعلمها من العالم الأمريكي الحر والمتحضر بواسطة الصواريخ عابرة القارات، هذه هي ديمقراطية النظام العالمي الجديد.

المفارقة الثالثة
لشدة سرعة المتغيرات السياسية العالمية ، يسهو على العالم تذكر أو ملاحقة الأحداث والربط بينها، وهذه إحدى الحقائق العلمية التي تتبعها المؤسسات الأمريكية في تنفيذ مخططاتها معتمدة على السرعة وقصر الذاكرة الجماهيرية، بجانب الأساليب الإعلامية الحديثة لتوجيه إهتمامات ومتابعات الناس نحو الأهداف المرسومة في دوائرها السياسية.
ولتنشيط الذاكرة الشعبية نرجع إلى الحرب الأمريكية السوفييتيه على الأرض الأفغانية في الثمانينات من القرن الماضي، تلك الحرب التي شنتها الولايات المتحدة من عدة جبهات ضد الاتحاد السوفييتي سابقاً بمجرد دخول الجيش السوفييتي لإحتلال أفغانستان وتغيير نظامها السياسي من النظام الملكي إلى النظام الشيوعي. في تلك الحرب، حملت الولايات المتحدة راية الحفاظ على الإسلام وعلى الشعب الإفغاني المسلم، وفتحت جبهات الدول الإسلامية أجمعها للحرب في أفغانستان ، وشكلت منظمات المجاهدين المسلمين لحرب عصابات طويلة الأمد داخل الأراضي الأفغانية، وفتحت مصانعها الحربية لإمداد المجاهدين بكل الاسلحة المطلوبة على حساب ثروات الدول الخليجية التي كانت تقف الولايات المتحدة مع أنظمتها في خندق واحد في ذلك الوقت ، كما قمعت كل القوى الوطنية واليسارية في المنطقة. إضافة إلى كل ذلك، كانت المخابرات الأمريكية القوة الداعمة لجميع التنظيمات السياسية والجهادية الإسلامية التي واصلت القتال ضد بعضها البعض، وواصلت في تدمير افغانستان، بعد نجاحها في إخراج الجيش السوفييتي من أراضيها، فكان عقداً طويلاً من الإقتتال والدمار تحت الرعاية الأمريكية.
المفارقة الغريبة إن الولايات المتحدة قامت بنفس الدور السوفييتي في العراق ، اي إحتلال العراق وتغيير نظامه، وإلغاء سيادته بالقوة العسكرية ، كما فعل السوفييت في أفغانستان في الثمانينات . وبجانب ذلك أصبحت الولايات المتحدة القوة الضاربة ضد تلك المنظمات الجهادية التي أسستها وغذتها لسنوات طويلة بكل وسائل القوة لمحاربة الشبح الشيوعي ، وإعتبرتها منظمات إرهابية يجب التخلص منها ، لأنها تضر بمصالح الولايات المتحدة ، وذلك بمجرد أن منعت السلطات الأفغانية الشركات النفطية الأمريكية العملاقة من الاستفادة من الاراضي الأفغانية في مد أنابيب النفط من جمهوريات آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز الطبيعي إلى منافذ لها على البحر.
وهكذا بدأ استغلال شبح الإرهاب مرة أخرى لتنفيذ المصالح الأمريكية، الإرهاب مقابل الديمقراطية ، بالقنابل والدبابات والقواعد العسكرية، وبالاساطيل الحربية وحاملات الطائرات، وبالإحتلال العسكري والنصوص الدستورية المنقوصة لمبادئ الديمقراطية ، وبإقصاء الرأي المعارض ووضعه في قائمة الإرهاب. والسؤال هل سوف يستمر هذا الإرهاب الأمريكي المتدثر بعباءة الديمقراطية لفترة طويلة أم إن الشعوب التي بدأت تستيقظ على أصوات التفجيرات المتتالية ضد الإرهاب الأمريكي كفيلة بمواجهته ؟

المفارقة الرابعة
مع اتساع فجوة الفقر في العالم ، ومع سرعة التكنولوجيا والاتصالات ، ومع الانتشار المعلوماتي والمعرفي في كل انحاء العالم ، بدأت المقاومة تتسع ضد السياسات الغربية عامة والأمريكية خاصة . هذه المقاومة التي تسمى في العرف الأمريكي إرهاباُ أصبحت أكثر انتشاراً من المجنزرات والدبابات والصواريخ الأمريكية، كما أصبحت أكثر سرعة من التوقعات والدراسات الإستخباراتيه الأمريكية.
من خلال قراءة بسيطة للعمليات التفجيرية المستمرة منذ سنوات والتي نعيش اليوم تصعيداً نوعياً خطيراً في أدائها واسلوبها ، نستطيع أن نؤكد بإن الوجود الأمريكي في جميع أنحاء العالم أصبح هدفاً للمقاومة ، ومع الإنتشار الأمريكي في كل معالم الحياة في هذه المنطقة أصبح الناس جميعاً مستهدفين وفاقدين للإحساس بالأمن في منازلهم وشوارعهم وأماكن تواجدهم، أي أصبح هذا الوجود سبباً في زعزعة الأمن والإستقرار لجميع دول وشعوب المنطقة. لذلك نتساءل هل تتوقع السياسة الأمريكية بأن تتنازل الشعوب الجائعة عن مقاومتها لسياسة التجويع ؟، وهل تتوقع الإدارة الأمريكية بإنها حقاً قادرة على إنهاء حالة المقاومة هذه بالترهيب العسكري والقتل والدمار وهدر سيادة الدول بالدمار الشامل وبالقنابل النووية ؟
ولأن في إعتقادنا أن الإجابة على هذه الأسئلة سلبية فإننا نستطيع أن نتوقع بأن الالفية الثالثة من التاريخ سوف يكون قرن التدمير والعنف عوضاً عن الديمقراطية والأمان والرخاء. وهذه هي المفارقة الرابعة في النظام العالمي الجديد، فهل كل هذه السلطة والقوة والإمبراطورية الأمريكية الضخمة سوف تحقق الرخاء والسعادة كحد أدنى للشعب الأمريكي ضمن السياسة الأمريكية القائمة على البطش والعنف؟، وهل الشعب الأمريكي سوف يبقى راضياً وساكتاً على هذه السياسات ؟ ... أم أنه الشعب الأول الذي سوف يثور ويحاول تغيير هذه القوة الباطشة ، لتحقيق الأمن والاستقرار داخلياً وعالمياً؟
إن التاريخ لا يذكر لأية قوة أو إمبراطورية ، مهما علت وتميّزت ، إنها استطاعت أن تلم بجميع أسباب بقائها وديمومتها ، والتاريخ يذكر بأن أغلب تلك الإمبراطوريات كانت تأتي بأسباب ضعفها وإنهيارها من داخلها ، ولا تختلف الإمبراطورية الأمريكية في هذا الشان عن غيرها.
وأحداث التاريخ تثبت إن الحروب تلد الحروب، والعنف يؤدي إلى المزيد من العنف، والظلم والاستبداد يخلق المقاومة، والقوة الباطشة لا تردع إلا بالقوة . هذه هي الثوابت التاريخية التي يجب أن تستند إليها القراءات الأمريكية للتفجيرات المتتالية ضد مصالحها ورعاياها في العالم، وإلا فإن قراءاتها لن تكون واقعية.


كلمات دالة: