المأزق الأمريكي.. والسكوت العربي

فجأة، وخلال شهر أكتوبر 2006، السابق لشهر الانتخابات التشريعية الأمريكية (7 نوفمبر 2006)، بدأت تداعيات الحرب على العراق تتسارع بخطى واسعة، وبدأت تتكشف الحقائق التي طالما عمل المحتلون على تغطيتها والتعتيم عليها كي لا يتعرف العالم على الوضع المفزع الذي وصل له حال العراق في ظل الغزو والإحتلال الأمريكي.. وكي لا تتكشّف هذه الأخبار بكل فضائحها أمام الشعب الأمريكي الذي بدا احتجاجه واضحاً ومتصاعداً مع تزايد عدد التوابيت القادمة من العراق والمحملة بجثامين أبنائهم، ومع عدم وضوح أية نهاية محددة لهذه الحرب العدوانية المدمّرة، التي تأكد للعالم بأنها حرب لا سبب لها ولا هدف سوى حماية مصالح شركات النفط ومصانع الأسلحة الأمريكية.. وظهر ذلك الاحتجاج بشكل أكثر وضوحاً في نتائج الانتخابات التشريعية الأمريكية التي خسر فيها الحزب الجمهوري، الذي أدخل بلادهم في أتون حرب عرفوا بدايتها ولا يعلمون متى وما هي نهايتها..
وبعيداً عن نشاط الآنسة رايس الدبلوماسي بين دول الخليج الستة + 2، وحركة الإدارة الأمريكية، وخطابات رئيسها وتصريحات أعضائها، والتصعيد الإعلامي السابق للانتخابات، الذي بدأ يكشف بالصورة والخبر الفظائع التي تعيشها القوات المحتلة في العراق..

وعمليات المقاومة العراقية التي تستهدف هذه القوات مباشرة.. وجثث القتلى والجرحى وهي تُنقَل إلى طائراتهم.. ومظاهرات ونداءات الشعب الأمريكي ورفضه واحتجاجاته المتواصلة على الحرب.. والمتزامن كله مع صدور كتاب بول وودورث الذي ذاع صيته لما حمله من وصف فاضح لضعف وسوء الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الإبن، وأخطاء هذه الإدارة في الحرب على العراق.. إلخ، بعيداً عن كل ذلك، وفي خضم هذا الكشف والظهور الفجائي والعلني للمأزق الأمريكي المتفاقم، هناك محطات هامة وبارزة تستحق التوقف عندها بشيء من التمعن.. أهمها:
أولاً: تلك التصريحات التي جاءت على لسان البرتو فرنانديز، مستشار وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، التي اعترف فيها على فضائية "الجزيرة" (أكتوبر 2006)، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات ونصف على الاحتلال، باستمرار المحاولات الأمريكية للحصول على فرصة للاتصال بالمقاومة طوال الفترة الماضية، ولكن، حسب قوله، عبر وسطاء وأصدقاء للطرفين. وللمرة الأولى، وعلى غير عادته المكابرة يعترف، هذا المتغطرس والمدافع الشرس عن مبادئ وسلوك إدارة اليمين المحافظ الأمريكية، بغباء وغطرسة الأميركيين وأخطائهم الكبيرة في العراق، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى إرغامه على التراجع عن كلامه والاعتذار شفهياً وفي بيان رسمي عما بدر منه بطريق "الخطأ"... إلا إن الرسالة التي بعث بها فرنانديز كانت واضحة، حول عمق المأزق الأمريكي، والذي لا يمكن نكرانه وتجاهله، وهي اعتراف كامل حول خسارة الولايات المتحدة للحرب أمام المقاومة العراقية، وفشل المشروع الإمبراطوري الأمريكي في العراق، الذي سيعد نصراً لكل شعوب العالم المنكوبة من سياسات الإمبريالية المتوحشة.
ثانياً: اعتراف بوش أخيرا بأخطاء إدارته، وتأكيده على ما جاء في مقال الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، بتشبيهه الوضع في العراق بالوضع الذي كان سائداً في فيتنام.. وما جاء بعد ذلك في خطاب الرئيس الأمريكي عن عزم إدارته تعديل استراتيجية الدولة الأكبر في العراق، ولكن دون أن يعلن عن تغيير المنفّذ والمتحمّس الأكبر للاستراتيجية الحالية، دونالد رامسفيلد (لولا فوز الديمقراطيون في انتخابات الكونجرس الأمريكي في 7 نوفمبر)!. وهذا ما تساءلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" في أفتتاحيتها في العدد الصادر يوم 24 أكتوبر 2006، بقولها عن أي تعديل وأي استراتيحية يتحدّث الرئيس مادام لم يعلن عن إقالة رامسفيلد، كبادرة لمصداقيته أولاً ولفتح الباب أمام قيادات الجيش أن يتقدموا له بإجابات دقيقة عما يجري على أرض الواقع في العراق، وأهمية الانسحاب وكيفية المخرج.
ثالثاً: ذلك التقرير، الذي سُطّر في 8 صفحات من مجلة النيوزويك الأمريكية بقلم فريد زكريا، المدافع الأول عن سياسات اليمين المحافظ الأمريكي، وعن "تحرير" قوات بلاده للعراق من "الدكتاتورية"، ليقول أخيراً إن "أمريكا لا تنتصر في العراق، ما يعني أنها تخسر. لقد انهار العراق كبلد وكدولة. عاصمته وأراضيه التي تحتوي على نحو 50 بالمائة من الشعب لا تزال غير آمنة، وتسودها انقسامات داخلية متزايدة، ومعظم الجنوب المستقر نوعاً ما (حسب ادعائه)، يخضع لحكم حكومات محلية استبدادية وفاسدة، وتتصرف على غرار رجال العصابات.." (نيوزويك العدد 333)..
في هذا التقرير يصر الكاتب أن ينسب المأزق الأمريكي في العراق إلى الصراع السني الشيعي (زوراً).. وبعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف على اجتياحه واحتلاله يصف التقرير الحالة هناك بشديدة الخطورة، حيث عدد الضحايا الذي وصل إلى مئات الآلاف في تصاعد خطير، و"وصلت كلفة عملية (الحرية) للعراق إلى رقم مذهل يبلغ 318 بليون دولار" (المصدر).. في هذا التقرير يشدد فريد زكريا على إنه يجب على الإدارة الأمريكية "النظر إلى كل شيء تقريباً في العراق من هذا المنظور الطائفي".. ولكنه يؤكّد بأنهم هم من يصنع الطائفية هناك قائلاً: "يقول الرئيس بوش إننا ننشئ جيشاً وشرطة عراقيين وإنه مع اكتمال جهوزيتهما، ستتمكن أمريكا من الانسحاب. نحن في الواقع ننشئ قوة كردية وشيعية بمعظمها، ومع ازدياد عديدها شعر السنة بأنهم مهددون أكثر وقاتلوا بضراوة أكبر نتيجة لذلك. إن الميليشيات الشيعية، التي انخرط الكثير من أعضائها في الجيش وخصوصاً في الشرطة الوطنية تشعر بأنها قوية، وقد ألقت القبض مراراً على رجال سنة وقتلتهم بطرق وحشية. حتى الانتخابات التي أثني عليها كثيراً لم يتبين أنها نافعة جداً في هذا السياق، لقد منحت انتخابات شهر ديسمبر الماضي الأحزاب الدينية حق المحافظة على مليشياتها، مثل جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر، وصعب بالتالي تفكيكها" (المصدر)..
ولكن رغم هذا الوعي الأمريكي المتنامي عن مدى سوء كل النظام الحاكم في العراق، إلا إن الكاتب يؤكد بأن "الوجود الأمريكي الواسع يمنح القادة العراقيين حرية التصرف في الوقت الحاضر، وباستثناء الأكراد، فإن الكثير من القادة يلعبون لعبة قذرة. إنهم ينددون علناً بأعمال الجنود الأمريكيين ليحظوا بالشعبية ومن ثم يوافقون سراً على استمرار التدخل الأمريكي" (المصدر)..
بعد كل هذا الوصف وأكثر، يضع الكاتب بعض الحلول التي يشدد عليها للحفاظ على المصالح الوطنية للولايات المتحدة في العراق، ويسترسل في ذلك، دون أن يذكر أين مصلحة الشعب العراقي في كل هذا، مقترحاً إعادة انتشار القوات الأمريكية، وإبقاء أقل عدد من هذه القوات في العراق، داخل قواعدهم العسكرية الضخمة (بجوار بغداد وبلد والموصل والناصرية) حيث سيشكلون قوة تدخل سريع "يمكنها حماية أي من مصالح الولايات المتحدة إذا تعرضت للتهديد"، في أغنى منطقة نفطية في العالم، بأقل تكلفة مادية وبشرية أمريكية، وليبقى الدمار والصراع والاقتتال اليومي في العراق، الذي بات واضحاً أنه بقدر ما هو حرب مقاومة ضد الاحتلال فهي أيضاً حرب بين الشعب العراقي وإيران، وليس بين الشيعة والسنة كما يصر إعلام البنتاجون أن يصورها للعالم. هذا هو الهدف (الإنساني) الذي تفتقت عليه ذهنية الكاتب الأمريكي عليه في هذا المقال، وكأن مئات الآلاف ممن قُتلوا ويقتلون في العراق ما هم إلا عشائر من النمل.
رابعاً: وبعد ذلك، لا بد أن نتوقف قليلاً عند النظام العربي، عبر ما جاء على لسان السيد نواف عبيد، الذي وصفته وكالة الأنباء الناقلة للخبر (أ ف ب)، بأنه مدير مشروع الأمن الوطني السعودي، ومستشار الأمن وشئون الطاقة للسفير السعودي في واشنطن، ورئيس الهيئة الاستشارية للأمن القومي السعودي، في "مؤتمر العلاقات العربية الأمريكية" في واشنطن (30-31 أكتوبر 2006)، حيث قال بصريح العبارة عن الحرب في العراق بأنها "معركة خاسرة بالفعل" (أخبار الخليج 2 نوفمبر 2006)، وإنها "ليست ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنجح، فقد فشلت بكل شكل يمكن أن يخطر على البال"..، وإن "ما يضاعف من الفشل هو إنه لا نعلم ما هي النهاية"، أيضاً في إشارة لخوف بلاده من التدخل الإيراني السافر في العراق الذي هو نتيجة من نتائج الاحتلال الذي فتحت له الدول العربية كل أبواب الدعم منذ البداية، والذي لم يعلن نظام عربي واحد رفضه له وللدمار الذي لحق بالعراق، أو إدانة لما يحدث من جرائم ومجازر يعاني منها الشعب العراقي أشد المعاناة، وتسبب في قتلَ ما لا يقل عن 655 ألف عراقي حتى مايو/أيار 2006.. فكان السكوت هذا عبارة عن إعلان قبول النظام العربي عموماً للاحتلال وقبول إسقاطه للنظام الشرعي العراقي.. ذلك القبول الذي اتضح جلياً في عدم دعوة هذه الأنظمة إلى قمة عربية طارئة حول الغزو والاحتلال، رغم سوابق هذه المؤتمرات في الانعقاد لأسباب أهون بكثير من الاحتلال الأجنبي لدولة عربية كبرى بحجم العراق، رغم ما تشكله هذه الحالة العراقية من تهديد مباشر للأمن القومي العربي..
والغريب إنه في ظل استمرار معاناة الشعب العراقي على مدار الساعة من أبشع الجرائم ومسلسلات القتل الجماعي والتطهير العرقي، وأسوأ الظروف المعيشية، وفي ظل نداءات الاستغاثة التي يطلقها هذا الشعب دون أن يجد أي دعم أو عون من أنظمتنا العربية، من الغريب أن يجلس سادة يتمتعون بأعلى المسميات العسكرية وأرفع الرتب والدرجات الأمنية، كالسيد نواف عبيد، ليعلنوا حيرتهم بكونهم لا يعرفون ما هي النهاية في العراق.. وليكشفوا عن عجزهم التام في مطالبة المحتلين بالمغادرة والانسحاب.. رغم إن السادة المؤتمرون، أو على الأقل العرب منهم، يعلمون بأن العراقيين قادرون على الدفاع عن وجودهم وحماية وحدة أرضهم، كما هم مستمرون حتى اليوم في حماية المنطقة من التهديد الصفوي الإيراني، رغم كل الدمار الذي سيخلّفه لهم الاحتلال البغيض بعد انسحابه المؤكد.. وإن لم يعلم هؤلاء السادة هذه الحقيقة فإن المصيبة أعظم.
وفي الجانب الآخر، وبينما أطفال العراق يسبحون في دمائهم، وحرائر العرب تغتصبن بالمئات كل يوم، يصر سفير خادم الحرمين في واشنطن، الأمير تركي الفيصل، في ذات المؤتمر (الأثنين 30 أكتوبر 2006)، على ضرورة بقاء المحتل الأمريكي في العراق.. ويحذّر سعادة السفير من انسحاب متعجّل من العراق قائلاً "بما إن أمريكا جاءت إلى العراق بدون دعوة فعليها أن لا تغادر بدون دعوة"..
احتلوا العراق، واستباحوه من أقصاه إلى أقصاه.. دمروه، وقطّعوا أوصاله.. اغتصبوا العراقيين وعذبوهم، وقطّعوا أوصالهم.. اغتصبوا العراق، واغتصبوا العراقيات.. دمروا كل مفاصل الدولة ومؤسساتها.. ودمروا كل المجتمع العراقي وفككوا نسيجه.. نهبوا موارد العراق، وأذلوا الإنسان على الأرض العراقية.. قتلوا الآباء أمام أبصار أطفالهم، قتلوا الأطفال واغتصبوا براءة الصغيرات وشردوهم وجوعوهم.. نشروا الفساد في العراق وروجوا المخدرات.. أقفلوا دور الأيتام وأسكنوهم أرصفة الشوارع.. قتلوا العلماء والأطباء والأكاديميين.. هجّروا مليوني عراقي إلى خارج العراق (المفوضية العليا للاجئين، قي جنيف، التابعة للأمم المتحدة تعلن عن هروب 3000 عراقي يومياً من العراق "أخبار الخليج 5 نوفمبر 2003").. وهجّروا مليون عراقي داخل العراق.. قتلوا ما يقارب 3% من الشعب العراقي.. حولوا الجيش إلى ميليشيات.. وسلّموا القانون بيد المافيات.. والحكم للأقوى.. والأقوى هو من يمتلك الميليشيات والسلاح بأنواعه.. صارت العروبة في العراق جريمة.. والمذاهب يجب أن تتلون لتفادي الموت.. الخارج من مسكنه مفقود.. والجالس في بيته موتور.. القتل في كل مكان.. النهب والخطف والسلب في كل زقاق وكل حي.. لا ملكية للإنسان ول سيادةا للدولة.. لا أمان للفرد ولا للمجتمع.. السيف هو القانون، والظلم هو القوة.. والناجي هو من يبقى حياً حتى المساء..
هكذا صار العراق في ظل الديمقراطية الغربية، وفي ظل حكم المذهبية والعرقية الإيرانية التي نشرت الميليشيات في كل أرجاء العراق.. هكذا يعيش العراقيون أغراب في بلادهم.. مضطهدين في ثرواتهم.. مغدورٍ بهم بيد أشقائهم.. في نهاية الأمر تأتي تصريح أكبر سفراء أكبر الدول العربية لدى أكبر دول العالم ليطلب من المحتلين عدم المغادرة حتى يُطلب منهم ذلك.. والله أعلم من هو الطرف الذي سيوجه لهم هذه الدعوة، ومتى، حسب رؤية السفير؟؟.. هل هي الأنظمة العربية التي ساهمت بدعم المحتل على تدمير العراق.. أم إن المقاومة العراقية هي التي سترغم المحتل على المغادرة بدون دعوة؟.
ألسنا نعيش في زمن اللامعقول بيدنا وليس بيد أعدائنا؟؟..
خامساً: المحطة الأهم، الذي من شأنه أن ينهي كل الخلاف حول ما سبق من جدل، هي الاعترافات التي جاءت على لسان ريتشارد هاس، مستشار الخارجية الأمريكية، وزيغنيو بريجنسكي، مستشار سابق للأمن القومي الأميركي، ومُنَظّر مشروعي الإمبراطورية الأمريكية والقرن الأمريكي الجديد، على فضائية الجزيرة (برنامج "من واشنطن"، الاثنين 13 نوفمبر 2006).. حيث صرّح الاثنان نصاً بأن النظام الدولي الأحادي القطب قد انتهى، والمشروع الإمبراطوري الأمريكي في الشرق الأوسط قد فشل، و"إن مرحلة الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط قد انتهت، بعد حرب العراق، كما انتهت مرحلة الهيمنة البريطانية الفرنسية على المنطقة بعد حرب السويس عام 1956".. ولكن حسب بريجنسكي فإنه "بعد حرب السويس لم يحدث فراغ، إذ حلت الولايات المتحدة مباشرة محل القوة البريطانية في المنطقة، إنما اليوم فليست هناك قوى جاهزة لتحل محل القوة الأمريكية مما سيخلق حالة فوضى".. بينما يتوقع ريتشارد هاس "تصاعد هيمنة الحركات الأصولية مثل حزب الله وحركة حماس، في ظل هيمنة إيران على منطقة الخليج.."..
هذه التصريحات التي جاءت على لسان مفكرين أمريكيين هي اعتراف صريح لأصحاب ومنظري المشروع الاستعماري الأمريكي بفشله الذريع نتيجة المقاومة الشرسة التي واجهته في غزو واحتلال العراق.. ولم تتأخر تداعيات هذا الفشل الأمريكي في الإعلان عن نفسها، حيث ظهرت بوضوح في تلك الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله في لبنان (يوليو-أغسطس 2006)، والتي كانت بمثابة أطلاق إشارة البدء لرجوع القوة الأوروبية إلى مستعمراتها القديمة بلباس أممي جديد، لتعيد رسم المنطقة حسب متطلبات المرحلة القادمة، ومتطلبات القوة التي ستعلن سيادتها على العالم بعد فرض هيمنتها على منطقتنا العربية.
والأكثر مأساوية في كل هذه الصورة التي أمامنا هو الموقف العربي الرسمي الذي ما انفك يقف في مكانه متفرجاً ومنتظراً للقرار الخارجي.. وأكبر دليل على ذلك هو التحرّك المفاجئ لوزراء الخارجية العرب بكسر المقاطعة ضد السلطة الفلسطينية (13 نوفمبر 2006) بعد كل المعارك والمذابح والمجازر والتجويع الجماعي ضد الشعب الفلسطيني، في ظل سكون القرار الرسمي العربي..
هذا القرار العربي المفاجئ الذي يعد أوروبياً أكثر منه عربياً، لهو نموذج أولي لخطوات إضعاف وعزل القوة الأمريكية بعد فشل مشروعها في المنطقة.. والبقية تأتي تباعاً..
وهذا القرار العربي المفاجئ، بقدر قوته فهو يكشف عن مدى الضعف العربي بتسلّم زمام المبادرة في الحفاظ على المصالح العربية..
بعد كل هذا، لم يعد لدينا ما نقوله سوى أننا بكل تأكيد نعيش في زمن اللامعقول، ولكن من المؤكد أيضاً أن اللامعقول لا يمكن أن يصل إلى حد إلغاء العقل وإلغاء الذات بالمستوى الذي وصل إليه النظام العربي الرسمي...
وأكبر دليل على زمن اللامعقول هذا الذي نعيشه هو المحكمة التي نصبت وأصدرت أحكامها ضد الرئيس العراقي صدام حسين وأعوانه.. تلك المحكمة التي نصبها المحتل وباشرت في تنفيذها الحكومة التي شكّلَها المحتل بدءاً من مجلس الحكم الانتقالي الذي حصل على الشرعية من الجامعة العربية في دورة انعقادها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق (سبتمبر 2003) بقبول مندوبه ممثلاً لدولة العراق في الاجتماع الوزاري حينها، مخالفة بذلك ميثاق الجامعة الذي ينص على عدم قبول دولة محتلة وغير مستقلة عضواً في مؤتمراتها (والعراق دولة محتلة بقرار الأمم المتحدة)، وانتهاءاً بآخر حكومة جاءت عن طريق أكثر الانتخابات تزويراً على مرأى ومسمع الاحتلال وقواته التي رعت الانتخابات والتزوير معاً..
وهنا يجب التذكير بأنه كلما زاد اللامعقول في هذا الظرف التاريخي، كلما زادت دواعي نهايته وأسرعت، وإن نهاية هذه الحالة العراقية لن يُسَطّرها أي نظام عربي مهما اعتقد نفسه قوياً وقائداً في المنطقة.. بل نهاية هذه الحقبة السوداء قد وضعتها المقاومة الباسلة في العراق.. ولم يعد هذا تنبؤاً، بل حقيقة مؤكدة اعترف بها المحتلون..