منتديات وحوارات أمنية . . استراتيجيات وغايات غير معلنة

"أصبح من المُسَلَم به لدى العلماء الاجتماعيين في العقود الأخيرة، أن المناهج السياسية التقليدية لم تعد كافية لفهم وتفسير السلوك الدولي، ولذلك برزت منهجية التحليل الثقافي كأساس لفهم حالات الصراع والتعاون بين الدول. ويمكن القول إن منهجية التحليل الثقافي برزت بعد التحولات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي . . وأبرز هذه التحولات قاطبة في نهاية الحرب الباردة وزوال النظام الثنائي القطبي . . ." (السيد ياسين/ محلل استراتيجي مصري)

ياترى أين يقع أمن الخليج العربي، شعباً وأرضاً، في كل ما يُعقد من منتديات وحوارات أمنية يجتمع فيها جهايذة الأجهزة والاستراتيجيات الأمنية الأوروبية والأمريكية مع عدد من المسئولين والقادة الخليجيين؟. .
وبوضوح أكثر، هل هذا الاهتمام والتحشد الغربي حول أمن الخليج، الذي بدأ بعد انتهاء الحرب الباردة أو كما يدعون إنه وليد أحداث 11 سبتمبر 2001، هل هذا كله من أجل التباحث في حقيقة تحديات وخصائص هذا الأمن؟، وهل هذه المنتديات والحوارات حددت واقع حقيقة الأخطار التي تهدد أمن المنطقة وسبل مواجهتها؟. . ونختصر كل التساؤلات في واحدة وهي، هل حقيقة هناك اهتمام غربي ببحث هذه القضايا الخاصة بأمننا أم أن هناك أمرا آخر يتم تسويقه في المنطقة من خلال الاستراتيجيات الأمنية وأجهزتها الغربية، الخاصة والعامة، كما يتم تسويق باقي المنتجات الأمنية الغربية المتفاوتة ما بين بيع الخوف وبين بيع الاستشارة وبيع السلاح؟!.
بداية، يجب أن نؤكد أنه لم يعد يختلف اثنان في العالم حول المعتقد الغربي في "نظرية المصالح"، التي تقول أن الغرب لا يحرك ساكناً فيما لا يخص مصالحه، ولا ينشط القادة الغربيون، كما لا تتحرك أساطيلهم، وحتى عقولهم، إلا في اتجاه تحقيق مصالحهم الصرفة، حتى لو استدعت هذه المصالح تدمير دولة والقضاء على شعب بأكمله وسرقة كل ثرواته، أي حتى لو استدعى الأمر أن يقتحموا بلداننا، بعساكرهم أو بأجهزتهم البحثية الأمنية، أو بخبرائهم وجالياتهم التي تعيش بيننا، وتعد حروب القرن العشرين أكبر دليل على صحة هذه النظرية، بدءاً بالحربين العالميتين، والقنبلتين الذريتين اللتين أبادتا شعبي مدينتين كاملتين في اليابان، وحرب فيتنام، وحروب البلقان، وانتهاءً بالحرب على العراق وتدميره وقتل ما يزيد على مليون عراقي وتهجير أكثر من خمسة ملايين.
ومن منطلق "نظرية المصالح"، هذه، التي هي في صميم وجوهر كل الاستراتيجيات الغربية السياسية، تحلل أهداف التحشد الغربي المكثف حول مجمل المنتديات والمؤتمرات والحوارات الأمنية التي تُقام على أرضنا كل عام وبشكل دوري. . وفي هذا نقرأ مضمون "منتدى الأمن الداخلي والعالمي/ الشرق الأوسط"، الذي عقد في البحرين ما بين 19-21 نوفمبر 2007، كمثال يمكن أن يُحتذى به في قراءة أهداف ما سبقه ولحقه من منتديات ومؤتمرات وحوارات أمنية في المنطقة. .
بشكل أوّلي يمكننا قياس مدى اهتمام الاستراتيجي الغربي بما يّدعي "أمن الخليج" من خلال معدل المشاركة والحضور الغربيَيّن في هذا المنتدى مقارنة بالمشاركة البحرينية والعربية معاً . . حيث تشير هذه الخريطة إلى مشاركة ما يزيد على 42 متحدث غربي (من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا)، ممن قدّموا أوراق نقاشية وحوارية في مواضيع متنوعة، مقابل ما لا يزيد على 11 متحدثا بحرينيا بمن فيهم وزير الداخلية بكلمته الافتتاحية الترحيبية، وخمسة مشاركون عرب هم أمين عام مجلس التعاون الخليجي، ورئيس شرطة دبي، ورئيس مركز الخليج للدراسات، ورئيس شركة تسويق النفط العراقي، ومستشار وكالة الطاقة النووية المصرية، فقط لا غير.
وبشكل أكثر عمقاً، يمكن أن نؤكد أن كل محور من المحاور الغربية التي طرحها أولئك المشاركون كان يعد جزءاً رئيسياً من استراتيجية سياسية شاملة ومعدة مسبقاً في بندها الخاص حول ما يُدعي "أمن الخليج". . وبالاطلاع على تلك المحاور يتبين أن لكل واحد منها دور خاص يضع به طوبة في ذلك البناء الاستراتيجي الغربي الجديد الخاص بحماية مصالحهم في هذا الجزء من العالم. .
ولخصوصية هذا الجزء من العالم، وتحت شعار "الحرب على الإرهاب الإسلامي" (حيث وصف أحدهم أن الإرهاب الإسلامي المتطرف يرغب في إيقاف دورة التاريخ)، تناول الحوار الغربي في هذا المنتدى كل ما يخص سبل حماية المصالح الغربية فقط، لا غير، وهي المختزلة في حماية منابع النفط وإمداداته. . ولقراءة تلك الحوارات بشكل أولى، نسرد هنا عناوين المحاور النقاشية، التي افتتحها رئيس مركز أسلحة الدمار الشامل بحلف الناتو، بكلمة عُنيت بتسويق جهود الحلف في تحقيق السلام بالمنطقة (ولا نعلم السلام مع مَن وضد مَن):
• "سلسلة الإمدادات اللوجستية كهدف إرهابي والأدوات الإجرامية" (طبعاً إمدادات النفط).
• "حماية المغتربين في الدول ذات المعدل المرتفع للجريمة وللتهديد الإرهابي" (أي مغتربين، ولماذا؟).
• "نحو منهج شامل للأمن في الشرق الأوسط" (استيراد مناهج أمنية).
• "تأمين تبادل البيانات وطرف حفظها وسرية تداولها/ أمن الشبكات والاتصالات والتعاملات" (وهل سيتبادل الغرب ما يملكه من معلومات؟).
• "كيفية حماية الدوائر المالية والدوائر المصرفية من الاختراق الإرهابي" (لمنع وصول أية مساعدة للمقاومات العربية).
• "تحسين الحصول على المعلومات عن المخاطر: كيف تبقى متقدماً خطوة" (لحماية مصالحهم فقط).
• "الأسلحة غير الفتاكة" (ومن يصنع الأسلحة الفتاكة وغير الفتاكة؟).
• "استخدام المنظمات الإرهابية لتكنولوجيا المعلومات" (ما المقصود بالمنظمات الإرهابية؟).
• "صناعة البترول والأمن البحري/ الوضع في العراق: الآثار على تجارة النفط" (النفط هو الهدف).
• "استراتيجيات جديدة للقدرة على الوقاية من الأزمات، جمع المعلومات وهندسة تحليلها" (استخدام أجهزتنا الوطنية لحماية مصالحهم).
• "أمن المطارات: وحماية الأفراد ومكافحة القرصنة" (تسخير الجهود المحلية لحماية أمن شعوبهم فقط).
• "تامين الاحتفالات الكبيرة: كفالة حماية الأفراد" (لماذا هذا الخوف؟).
• "أمن الطاقة: الانتقال إلى الطاقة النووية في الشرق الأوسط: التأثير على نماذج الأمن الشامل: نماذج جديدة لأمن المفاعلات النووية:"؛ التصرف في النفايات النووية والأمن؛ الانتشار النووي" (وماذا عن المفاعلات والقنابل الذرية الإسرائيلية).
• "هل الإستراتيجية المنفذة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي متسقة بالنسبة للشرق الأوسط" (الإجابة محددة مسبقاً).
وبشكل أولي أيضاً يمكن قراءة كل هذه المحاور النقاشية على أنها مجموعة من المبادئ الخاصة بصناعة وتأطير شبكة أمنية ومعلوماتية تعمل على حماية منابع النفط وإمداداتها اللوجستية، وحماية أمن الجاليات الغربية وخبرائهم المقيمين في المنطقة لتنظيم شئون مصالح بلدانهم السياسية والاقتصادية وغيرها، بمن فيهم الطقم الأمنية والعسكرية المنتشرة في كل بلدان الخليج العربي.
وبهذا يمكن إيجاز الأغراض الرئيسية من وراء هذه المؤتمرات الأمنية على إنها حلقات في عملية بناء منظومة الشبكة الأمنية الغربية الجديدة في المنطقة بما يتناسب مع "التحولات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي . . وأبرز هذه التحولات قاطبة هي نهاية الحرب الباردة وزوال النظام الثنائي القطبي"، أي بما يضمن حماية أمن "آبار النفط وإمداداتها والقائمين بالعمل عليها" في ظل سياسات الهيمنة الجديدة في النظام الدولي الجديد كما بدت بشكل سافر في النموذج العراقي المنتهك لكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والمنتهك لكل القيم الإنسانية والأخلاقية. .
وللتبسيط يمكن أن نصف كل هذا الأداء اللوجستي المتمثل بالتحشد الغربي في هذه الحوارات والمنتديات الأمنية بأنها تصب في بناء شبكة معلوماتية وتشريعية وآلية وقائية لمنظومة "الحرب على الإرهاب"، لتامين سبّل السيطرة على كل أنواع المقاومات التي يمكن أن تشكلها شعوب المنطقة بينما يتم إعداد دولها للدخول في مرحلة جديدة من الهيمنة، تختلف في شكلها ومضمونها، عن مرحلة الحرب الباردة. . فإن كان شكل الهيمنة في المرحلة السابقة متمثلاً في القمع والسجون على المستوى الوطني، فإن الهيمنة في عصر ما بعد الحرب الباردة يتمثل في اختطاف البشر من أية بقعة في العالم ونقلهم بالسجون الطائرة وإيداعهم بالسجون السرية والبعيدة في أقاصي الأرض، وتشريع التعذيب حسب نموذجي جوانتنامو وأبوغريب اللذين عُرضا علينا مبكراً بخضم تسويق سياسة الترهيب في الاستراتيجيات الأمنية الحديثة كما يرسمها أباطرة الاستعمار الجديد في العالم اليوم.
ومما يؤسف له أن الجانب الآخر من هذه المؤتمرات، والمتمثل في الأداء العربي، لا يُقارن بمستوى الاستعدادات والاستراتيجيات المبرمجة التي قدّمها الآخرون. . مما يشير إلى إن الحوار في هذه المؤتمرات من طرف واحد، أي في شكل المُرسل المتلقي (بدون نقاش).
وباختصار شديد، فإن العصر الورو-أمريكي، الذي نعيشه، في الشرق الأوسط، يتمحور حول بناء شبكات أمنية هدفها فقط الحفاظ على سلامة منابع النفط، وإمداداته من جهة، وإلهاء شعوب المنطقة في منظومة من الخلافات والصراعات الطائفية والإثنية والسياسية من جهة أخرى. . ويمكن احتساب ارتفاع أسعار النفط ضمن ذات الاستراتيجيات الغربية التي تعمل على زيادة الغلاء وتجويع شعوب المنطقة واتساع رقعة الفقر وتعميق الهوة بين الأنظمة وشعوبها. . وبإيجاز شديد إن أمن الغرب يعتمد على نظرية الفوضى (الخلافة) والصراعات التي ستزيد من إضعاف دول المنطقة وانشغالها بمشاكلها الداخلية، وتسهيل سبل الهيمنة على المنطقة ومواردها. .
في النهاية يمكننا تأكيد عدم وجود أية علاقة بين هذه المؤتمرات الأمنية وبين حماية أمن المنطقة وشعوبها ضد الأخطار الحقيقية التي تحيط بها، مادامت الاستراتيجيات الغربية هي التي يتم بحثها وتنفيذها. . فكما ثبت واقعيا فشل الديمقراطية المستوردة، فإنه من المؤكد إن الاستراتيجيات الأمنية المستوردة ستكون أكثر فشلاً وإجحافاً في حقوق شعوبنا وأرضنا ومواردنا. .