العراق أمام مخاطر التقسيم

منذ بدايات الاحتلال الأمريكي للعراق كتبت صحيفتنا رأيها وتحليلها لغايات وأهداف الولايات المتحدة الأمريكية في هذا البلد العربي المحتل، وعلى رأسها كان التقسيم الذي عمل الاحتلال على تهيئة كل ظروفه وبناه التفتيتية. بدءاً بتدمير كل مؤسسات الدولة ونهبها، ونشر العنف وخطف وقتل المدنيين على الهوية، وتفجير دور العبادة والأسواق والأوساط الشعبية المكتظة، وابتداع المحاصصة الطائفية في مؤسسات الدولة، وانتهاء بتدمير المدن والقرى وإحاطتها بالأسوار لعزلها عن بعض، وبناء الجدران العازلة بين الأحياء، وتهجير العراقيين بهدف تغيير ديموغرافية العراق المتجانسة، منذ ألاف السنين وتوزيع السكان على أسس طائفية وأثنية.. حتى جاء قرار الكونجرس الأمريكي، في سبتمبر 2007، بتقسيم العراق ليثبت صحة توقعاتنا . . ونظراً لخطورة هذا القرار نعيد نشر المقال أدناه (المنشور سابقاً) في شأن هذا التقسيم الذي يحاول الاحتلال وأعوانه، ضمن سلسلة أكاذيبهم المتواصلة، أن يقنعوا العالم بأنه ليس هدفاً أمريكياً بقدر ما هو ضرورة لأنهاء العنف والدمار، الذي جلبه الاحتلال لهذا البلد الأمن.

- 1 -

أستبدل مفكرو الغرب المجددون الاستبداد والانحطاط الفكري، الذي حاربوه في عصر النهضة، بشكل آخر من الاستبداد، إذ إن المبدأ الذي قامت عليه قواعد الحرية والديمقراطية الليبرالية وحرية التملك أدى إلى قيام الدولة ذات القيم المادية المطلقة، ومن ثم إلى نشوء الدولة الرأسمالية، التي ما كان لها أن تستمر وتتطور وتتعاظم لولا نشوء مبدأ الاستعمار في عقيدة الغرب الليبرالية... ومع التطور والتقدم الصناعي والعلمي أصبح الاستعمار يجري في شرايين الحضارة الغربية وعليه تعيش مجتمعاتها... وهكذا يصور أحدهم المبدأ الاستعماري في عقيدة الدول الرأسمالية بأنه "إذا كانت الرأسمالية هي روح الحضارة الغربية، فالاستعمار هو قلبها النابض"..
ومع بزوغ هذا الاستعمار ظهرت الفنون والخدع الاستعمارية التي تميّز بها الاستعمار الغربي في القرن العشرين، وخصوصاً بعد فرض سيطرة الاستعمار البريطاني على العراق والخليج ومصر (معاهدة سايكس بيكو 1916) ، وصعود مركزها الاستعماري كقوة عظمى... حيث يكشف مجلس الحرب البريطاني تلك الخدع في برقية إلى قواتهم في العراق ، بعد احتلالهم بغداد عام 1917، قائلاً "ستكون العراق دولة عربية بحاكم محلي أو حكومة تحت الحماية البريطانية في كل شيء ما عدا الاسم... وبناء عليه لن يكون لها علاقات مع الدول الأجنبية... وستدار شؤون بغداد من وراء ستار عربي زائف قدر الإمكان" }بي دبليو أيرلاند (B.W. Irland) ، العراق: دراسة في التطور السياسي، 1973{.
ضمن هذا الإطار تمكنت بريطانيا أن تجدد الفن الاستعماري الغربي في أوائل القرن الماضي باستحداث نظم الحكم العميلة ودعمها، حيث تشير وثائق مكتب الخارجية البريطانية لعام 1947 إلى ذلك في نص صريح يقول "يمكن الحفاظ على مصالحنا الاستراتيجية والأمنية في أنحاء العالم بشكل أفضل بإنشاء (محطات بوليس) في مواقع مناسبة تكون مُعَدّة بشكل كامل للتعامل مع الطوارئ ضمن نصف قطر كبير، فالكويت واحدة من هذه المواقع، التي يمكن بواسطتها السيطرة على العراق، وجنوب إيران، والعربية السعودية والخليج الفارسي (العربي)".
إلا إن مع حرب الخليج الثانية بدا واضحاً ما طرأ من تغيير على الفكر الليبرالي الغربي وعقائده في استعمار الشعوب، فكانت تلك الحرب بمثابة الإعلان عن الليبرالية الأصولية الجديدة وعقيدة استعمارية غربية يمينية متطرفة وأكثر وحشية وعدائية ضد معارضيها... فكان الظهور الاستعماري الأمريكي العلني هو إعلان صريح بتبني الولايات المتحدة الأمريكية لتلك العقيدة الليبرالية والاستعمارية الجديدة، أي بروز الدولة الاستعمارية الإمبريالية وصاحبة النفوذ والهيمنة الشمولية والكونية، وبأساليب جديدة للغزو والاحتلال، مع التأكيد على إمكانية ممارسة كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية لتحقيق أهدافها، وبالعمليات السرية، والاستعباد الاقتصادي وجميع أنواع المكائد السياسية، ناهيك عن سياسة بناء القواعد العسكرية والسيطرة على جميع المنافذ البحرية بأساطيلها وبناء قوات التدخل السريع في كل أرجاء العالم وفي منطقتنا العربية خصوصاً.
وهذا ما يشير إليه روبرت كوبر، مستشار توني بلير للسياسة الخارجية، في مقالة بعنوان "الدولة في العصر الحديث" (2002) ، موضحاً جوهر هذه العقيدة الاستعمارية في الفكر الغربي الليبرالي الجديد، بقوله "إن التحدي أمام عالم العصر الحديث أن يعتاد على فكرة المعايير المزدوجة... ففيما بيننا، نتعامل على أساس القوانين وأمن تعاوني مفتوح، ولكن حين نتعامل مع دول ذات طراز قديم خارج قارة أوروبا الحديثة، نحتاج اللجوء إلى طرق خشنة تنتمي لعهد سابق: القوة، هجوم وقائي، خداع، وكل ما يلزم للتعامل مع أولئك الذين لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر، في كل دولة بعينها... وفيما بيننا نحافظ على القانون، ولكن عندما نعمل في الغابة، علينا أيضا أن نستعمل شرعة الغاب... المطلوب إذن نوع جديد من الاستعمار، نوع مقبول في عالم حقوق الإنسان والقيم العالمية، نستطيع أن نحدد معالمه... إنه استعمار مثل كل أنواع الاستعمار، يهدف إلى فرض القانون والنظام، ولكنه يعتمد اليوم على الأساس الطوعي"...
أما مع الاحتلال الأمريكي للعراق فقد بدأت تلك الأساليب تأخذ أبعاداً لم يشهدها التاريخ الاستعماري من قبل...

- 2 -

مع الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يعد تجسيداً للعقيدة الاستعمارية الجديدة في الفكر الليبرالي الأصولي في الغرب، بدأت كل الأساليب والأكاذيب والخدع الاستعمارية تأخذ أبعاداً لم يشهدها التاريخ من قبل، بدءاً بتشريعات الحرب ضد الإرهاب لتخويف وترهيب وقمع المجتمعات والحكومات في الشرق الأوسط، وانتهاءاً بممارسة الكذب وأبشع وسائل التعذيب والسجن والقتل، مروراً بالاستخدام الجائر للقوة العسكرية، بما فيها الأسلحة النووية والمحرمة دولياً، والتي تهدف جميعها لخلق بيئة سياسية قائمة على أعمدة الرعب والتخويف والقسوة، وبيئة فكرية وثقافية تُسَهّل عملية الهيمنة الاستعمارية الكونية الشاملة... وهذا ما عبّر عنه جيسي ليف، المحلل الرئيسي لشؤون إيران في وكالة الاستخبارات المركزية، في وصفه للسافاك (جهاز المخابرات الإيرانية) قائلاً "نحن أنشأناهم، نحن نظمناهم، علمناهم كل شيء نعرفه، آليات تحقيق صارمة تشمل التعذيب... كانت هناك جولات على غرف التعذيب، التي كانت تموّل جميعها من قبل الولايات المتحدة" ("إيران أحلاف غير مقدسة، إرهاب مقدس"، منشورات كوفيرت أكشن انفورميشن، عدد 37، صيف 1991)... كما جاء وصف هذه الهيمنة الأمريكية المرعبة على شعوب الشرق الأوسط في مذكرة أميركية حكومية مؤكدة إن " السياسة الأميركية تحدد مبيعات الأسلحة إلى بلاد في الشرق الأوسط بكميات معقولة لازمة من أجل الحفاظ على الأمن الداخلي" (إف. آر. يو. إس " 1974، المجلد 5 ص 613)... وضمن هذا السياق جاء الاحتلال الأمريكي للعراق في 9 أبريل/نيسان 2003 بعد استخدام قواتها للسلاح الأشد والأخطر فتكاً على الحياة البشرية ضد القوى والقوات العراقية التي كانت تدافع عن أرضها ببسالة..
ولكن، علينا ألا ننسى، أنه ما كانت الولايات المتحدة لتجازف بالدخول في حرب مواجهة على الأرض العراقية لولا استعداداتها المبكّرة التي بدأت مع دخولها في حرب الخليج الثانية (1991)، تلك الحرب التي يمكن وصفها بأكبر عملية أمريكية لغزو الشرق الأوسط، فأدت إلى احتلال الخليج عسكرياً في كل شيء، ماعدا الاسم، حيث دعمت ووسعت قواعدها العسكرية الموجودة في الخليج، وأنشأت قواعد جديدة في أقطار الخليج والمنطقة بشكل عام... تلك العملية التي عبّر عنها أنطوني كوردسمان، المسؤول الاستراتيجي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، قائلا "منذ عقد من الزمان، وتحت رئاسة بوش آخر، خرجنا من أزمة سياسة خارجية كبيرة في الشرق الأوسط بأفضل مركز لنا منذ الحرب العالمية الثانية" (العراق وأزمة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، 1مارس/ آذار 2001).
فجاء ذلك الاحتلال الأمريكي بعد نجاح ذلك الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق لمدة ثلاثة عشر عاماً وساهمت في إنجاحه كل الدول العربية دون استثناء...
ورغم ذلك لا يتردد أن يتباهى القادة الغربيون بأعمالهم وسياساتهم، مهما كانت نتائجها لاإنسانية ومُرَوّعة في حق البشرية. فعندما سئلت وزيرة الخارجية السابقة للولايات المتحدة، مادلين أولبرايت، في مقابلة على تلفزيون سي بي إس عام 1996، هل موت نصف مليون طفل في العراق كنتيجة للعقوبات الاقتصادية يستحق ذلك، لم تتردد في الإجابة بدون مشاعر "أظن أنه اختيار صعب، ولكن أظن أنه يستحق ذلك"... بينما قسوة تلك العقوبات على الشعب العراقي كانت لدرجة من اللاإنسانية والبشاعة مما دفعت منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، دينيس هاليدي، أن يستقيل من مهمته قائلاً "أستقيل لأن سياسة العقوبات الاقتصادية مفلسة تماماً... إننا في طريقنا لتدمير مجتمع بكامله... لقد أُمِرت أن أطَبّق سياسة تقع تحت تعريف الإبادة البشرية الجماعية، إنها سياسة متعمدة قتلت فعلا أكثر من مليون طفل ورجل".
وأخيراً ولقطف ثمار كل هذه الترتيبات والمبادئ وأساليب الخدع والدجل والإرهاب والتدمير، اضطرت الولايات المتحدة للرجوع إلى عصر الغزو والاحتلال الأقدم والأكثر بربرية في التاريخ الاستعماري، وفرض حاكمها المباشر على البلاد، واتباع أبشع وسائل القوة والعدائية والقتل والاعتقال والتعذيب لإرهاب العراق والعراقيين وإخضاعهم للسيطرة. ومن الطريف هنا إن أمريكا بعودتها إلى تلك الأساليب المتوحشة والعدوانية تكون قد نسفت كل المبادئ التي تباهت بها في عالمها الجديد حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وكل ادعاءاتها بأهمية الالتزام بالشرعية الدولية للحفاظ على الأمن الدولي وتحقيق الرفاه في العالم، فأصبح التناقض بين أفعالها العدوانية واللاإنسانية على أرض الواقع وبين أقوالها الإعلامية المستهلكة واضحاً ومكشوفاً، ولم يعد أقرب عملائها قادراً على الدفاع عن سياساتها الخرقاء.
إذن فهي نفس العقيدة الاستعمارية القديمة والممتدة إلى بدايات القرن الماضي، لا تزال متمكنة من الفكر والعقل الغربي، ولا زالت الحضارة الغربية المزيفة بشعارات الحداثة تؤمن بالاستعمار والاحتلال وتمارسهما تحت كل أصناف الكذب على شعوبها وعلى العالم... ولكنها تبث في مجتمعاتنا ثقافة الاستهلاك والتبعية وتطالبها بالتخلي عن ثوابتها الوطنية ووحدتها وقوتها باعتبارها نهجاً قديماً عفى عليه الزمن وتجاوزته الأحداث لكونه ممتداً للعقد الستيني والسبعيني من القرن الماضي وكل ذلك بسبب خوف المستعمر الغربي من وحدة الشعوب والجماهير العربية في مواجهتها للاستعمار والثورة ضد تلك الوحشية المعاصرة...

- 3 -

ووفق العقيدة الاستعمارية الغربية في المنطق الليبرالي الأصولي، واصل قادة البيت الأبيض أكاذيبهم لحظة احتلالهم بغداد عام 2003 ليعلنوا بأنهم جاءوا إلى العراق محررين وليس محتلين، ليعيدوا إلى الأذهان الكذبة التي أعلنها الجنرال "مود" عند دخوله على رأس قوات الاحتلال البريطاني إلى بغداد عام 1917 ليقول للعراقيين "إننا جئنا إلى العراق محررين وليس فاتحين"، في حين كانت السياسة الفعلية التي انتهجها المحتلون البريطانيون قد بنيت على مبدأ الاحتلال العسكري المباشر، وعلى سياسة التبعية الاستعمارية وإدارة البلد من قبل حاكم مدني بريطاني سمي بالمندوب السامي، جامعاً بيده كل السلطات إلى جانب العمل "على تجميد التطورات البنيوية في المجتمع العراقي، وعلى وجه الخصوص في المجتمع الريفي القائم على أسس قبلية... تلك الأسس التي كانت قد بدأت بالتفكك وحاول الاحتلال إيقاف هذا التداعي (النظام القبلي)... وكذلك مارس الاحتلال البريطاني سياسات استعمارية ومالية وضريبية كانت استفزازية جدا" ("الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق"، وميض نظمي، 1980).
وكما أعتمد البريطانيون على منظومة سياسات "فَرّق تسد" حينذاك، كأداة طيّعة ونافذة، في إعادة وتكريس قانون العشائر في العراق وتعزيز النظام العشائري، ومنح شيوخهم سلطات قوية، وتثبيت هيبتهم كوسيلة لإضعاف وإلغاء سيادة القانون في المجتمع العراقي والاعتماد على التعاون مع المحتل البريطاني، كذلك اعتمد المحتل الأمريكي على ذات المنظومة السياسية لتفتيت وتقسيم المجتمع العراقي إلى طوائف ومذاهب وإثنيات متناحرة ومتعادية بهدف السيطرة على البلاد لتمرير غاياته الأكثر وحشية وبشاعة في العراق.
وأيضاً مثلما جاءت السياسات البريطانية القديمة برد فعل عكسي أدى إلى إثارة الرأي العام العراقي وتوحيد جهوده ضد الاحتلال وإقامة تحالف جماهيري عريض وواسع تحت شعارات قومية عربية واضحة لتشكّل المقدمات الأساسية لثورة العشرين المعروفة، والشرارة الأولى نحو تحرير العراق من الاحتلال، كذلك جاء رد فعل هذا المجتمع ضد الاحتلال الأنجلو-أمريكي مساوياً لقوة سياساته التجزيئية والتفتيتية التي تحاول تقسيم العراق إلى أجزاء لتسهل السيطرة عليها.
لقد تفاجأ البنتاجون والبيت الأبيض الأمريكي بعمليات المقاومة العراقية، في الأسبوع الثاني لاحتلال بغداد، بسبب السرعة القياسية لظهورها وبدء عملياتها من ناحية، ولصرامة تنظيمها ودقة أدائها من ناحية أخرى... ومع تصاعد عمليات المقاومة التي أشاعت عدم الاستقرار الأمني للمحتل وأعوانه ومنعت الشركات الأمريكية ورجال الأعمال الأجانب والمتعاونين معهم من استنزاف ونهب الموارد والثروات العراقية إضافة إلى استحالة استثمار النفط العراقي، مع استمرار ذلك التصعيد، أدرك الأمريكان إنه قد حان الوقت للبدء بسياسات جديدة قد تضمن لهم الاستقرار والاستمرار في العراق بأقل التكاليف وأطول فترة ممكنة لترتيب مصالحهم الاقتصادية والنفطية التي دفعوا ثمناً باهظاً للوصول إليها، وهي سياسات تقسيم العراق... فدخلت سياسات التقسيم مرحلة الإعلان عن نفسها، حيث ترجع بداياتها إلى عام 1991 مع فرض الحصار الاقتصادي، وفرض الإدارة الأمريكية خطوط الحظر الجوي التي قسّمت العراق إلى مناطق الجنوب (الشيعي) والوسط (السني) والشمال (الكردي). وعليه بدأت إدارة الاحتلال خطوتها الأولى في وضع هذا التقسيم على أرض الواقع، بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي، ليضم أعضاء يمثلون تلك التقسيمات الوهمية بمسميات مذهبية وطائفية وإثنية، ولكن دون أية صلاحيات سياسية أو إدارية أو مالية أو سيادية. وعندما حان الوقت لإضفاء الشرعية على الوجود الأمريكي في العراق، تم إنشاء حكومة مؤقتة، على أطلال المجلس الانتقالي الذي شُكّل في الأشهر الأولى للاحتلال، مع التأكيد على توزيع ذات التقسيمات على أعضائه، مما يؤكد إن هذا التمثيل المشوه سوف يطبق في كل الهيئات والمجالس التي سوف تنشأ في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، حتى لو جاءت بمزاعم الانتخابات والديمقراطية، لكونها الحالة الوحيدة التي يمكن أن تضعف العراق وتضمن للبيت الأبيض مصالحه وأطماعه وأهدافه الاستعمارية.
إلا إن هذا التقسيم في المجتمع العراقي لن يقف عند حدوده الحالية، التي لا زالت خيوطها بيد البنتاجون وإدارة الاحتلال (السفارة الأمريكية) بالمنطقة الخضراء في بغداد. فبجانب الأطماع الأمريكية هناك أطماع تاريخية لأطراف أخرى تبحث عن الوسائل والفرص المناسبة للانقضاض على العراق لتحقيق أهدافها... فالجارتان، إيران وتركيا، لن تقفا مكتوفتي الأيدي وهما تتربصان الفرصة للنيل من العراق وثرواته والامتداد نحو فرض أدوارهما الإقليمية في المنطقة بأسرها... فما حقيقة هذه الأطماع وما مداها؟!...
في حوار على قناة الجزيرة القطرية مع الدكتور أبو الحسن بني صدر (أول رئيس للجمهورية الإيرانية الإسلامية)، سئل إذا كان الإمام الخميني قد حدثه عن العلاقة مع دول الجوار والخليج، أو كانت لديه أطماع في التقدم عسكرياً باتجاه هذه الدول من أجل تصدير الثورة مثلاً، أجاب بني صدر قائلاً "لم يحدثني بهذا الموضوع ولكن كان هناك مشروع آخر، كان يريد إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، كان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان وعندما يصبح سيداً لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج الفارسي (العربي) للسيطرة على بقية العالم الإسلامي. كان الخميني مقتنعا بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك، قلت له بأن الأمريكيين يخدعونك، ورغم نصائحي ونصائح ياسر عرفات الذي جاء ليحذره من نوايا الأمريكيين فإنه لم يكن يريد الاقتناع".
إذن، وبعد طول انتظار، لقد حانت الفرصة التاريخية لإيران في العراق، والتي قد لا تتحقق مرة أخرى على مدى التاريخ القريب أو المتوسط...
وإذا أضفنا حلم إسرائيل التاريخي، ليس فقط في تقسيم العراق، وإنما محوه من على وجه الأرض، أرضاً وبشراً وشجراً، كما أوصتهم كتبهم، إضافة إلى ما وصل إليه النفوذ الصهيوني بالتحكم في صنع القرار الأمريكي، أكثر من أي وقت مضى، ترى هل أصبحنا أمام مخطط تقسيمي قيد التنفيذ في العراق؟!!...

- 4 -

نعم لقد بدأ تنفيذ مخطط تقسيم العراق، منذ اللحظات الأولى للاحتلال، بمنهجية علمية وضعت، حسب اعتقاد المحتلين، لتناسب المجتمع العراقي في عمقه التاريخي والثقافي والنفسي والاجتماعي، بدءاً بتدمير كامل البنية التحتية العراقية بالقصف العشوائي وبأسلحة الدمار الشامل، وتدمير كل مؤسسات الدولة ووزاراتها، بهدف القضاء على كل مظاهر الدولة العصرية... وانتهاءاً بتدمير ونهب تراث العراق وتاريخه وآثاره العريقة والممتدة إلى بدء الخليقة، وتدمير مؤسساته الثقافية الممتدة لأعماق التاريخ الإسلامي والعربي، وسرقة ونهب ثرواته الفنية والتاريخية التي لا تقدّر بثمن، وحل الجيش العراقي وكل الجهاز الأمني والمؤسسات السيادية المتمثلة في الإعلام والداخلية والدفاع، ووضع ما تبقى من أجهزة الدولة تحت إدارة الاحتلال وإشرافه المباشر... مروراً بتدمير شخصية الإنسان العراقي المعروفة بالاعتزاز المنقطع النظير بوطنه وأرضه وتاريخه الممتد إلى بدء الحضارات الإنسانية على وجه الأرض، إضافة إلى زرع الفوضى وانعدام الأمن في كل المدن والأحياء العراقية... كل ذلك بهدف إثبات صدق ادعاءاتهم التي تناولوها، بمنهجية إعلامية دقيقة على شاشات الفضائيات، حول عدم وجود دولة العراق أصلاً، وما يدعى بالعراق لا يشكّل دولة، وإنما أرضاً تعيش عليها مجاميع من البشر المتناحرين والمتعادين لاختلافاتهم العرقية والطائفية والمذهبية، مما يتطلب تقسيمها لتوزيع تلك المجموعات على مناطقها وحقوقها.
تم تنفيذ هذا الجزء من خطة تقسيم العراق منذ اللحظات الأولى للاحتلال، ونسبوا كل تلك العمليات، التي نفذت بقرارات مسبقة، إلى الفوضى التي رافقت الاحتلال، بدعوى إنهم لم يرسموا خططاً مسبقة لإدارة العراق بعد الاحتلال، بينما كانت الفوضى والتدمير المنظمين للدولة العراقية هي خطتهم لما بعد الاحتلال... خصوصاً إذا علمنا إن خطة التقسيم هذه ليست وليدة الحرب الأخيرة (2003)، وإنما كانت قد رسمت منذ حرب عام 1991، ووضعت في دراسات استراتيجية خلال التسعينيات...
كان تصريح ريتشارد بيرل، الأب الروحي للمجموعة اليمينية التي خططت لاحتلال العراق، هو أول ما صدر عن الإدارة الأمريكية للترويج لتقسيم العراق... بينما صدر عن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق تصريح، في ذات السياق، على محطة السي إن إن بتاريخ 26 ديسمبر 2004، عندما قال "ليس من مصلحتنا أن يبقى العراق موحداً".
وفي دراسة صدرت عام 1992، للأمريكي جي. إي. فولر (G.E. Fuller)، ضمن برنامج "السياسة الاقتصادية الدولية" لمؤسسة راند التابعة لمعهد أبحاث الدفاع الوطني الأمريكي، بعنوان "العراق في العقد القادم : هل يبقى العراق حتى عام 2002"، يذكر الكاتب إن العراق كدولة مصطنعة تحتوي على تناقضات دينية وعرقية ومذهبية وطائفية لا يمكنها الاستمرار مدة أطول، حيث العراق لا يشبه الدول الأخرى التي لديها نفس المشاكل، لأن تلك الدول تعد دول قائمة بطبيعتها، بينما العراق ليست سوى دولة مصطنعة (لتسويق فكرة عدم وجود دولة عراقية في التاريخ).
بالجانب الآخر كانت الصهيونية تدعو وتعمل على تنفيذ مخططات تقسيم العراق منذ إنشاء إسرائيل، وهذا ما أشار له اوديد ينون، مستشار مناحيم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في دراسة بعنوان (استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات)، مطالباً فيها بتنفيذ خطة تقسيم العراق إلى 3 دول، كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب، وللإسراع في تنفيذ ذلك يقترح زيادة دعم الزعامات الكردية، وتشجيع ودعم جهود إيران خميني، للتَمَكّن من احتلال العراق وتقسيمه من خلال (ثورة شيعية).
ضمن هذا السياق الغريب من الأفكار والقناعات يريد أباطرة البيت الأبيض تغيير التاريخ ووقائعه بما يناسب أهدافهم ومصالحهم، بالقوة والعنف، مستعينين بما تملكه الولايات المتحدة من طاقات عالية في التدمير والهدم والقتل والإبادة... ولكي يصبح الحاضر والمستقبل ملكاً صرفاً لهم كان لا بد من الحفاظ على مصالحهم المتجمعة في هذه الأرض العربية الممتدة حضارياً وجغرافياً عبر التاريخ، مما استوجب أن يبدأوا بالتخطيط لتغيير التاريخ ليتمكنوا من تغيير الجغرافيا ضمن مشروع "إعادة الصياغة السياسية والجغرافية للمنطقة"، الذي أعلن عنه كولن باول في آخر خطاب له في مجلس الأمن قبيل بدء الغزو الأمريكي للعراق في مارس/آذار 2003...
ولكن، يا ترى هل يمكن أن تتحقق أهدافهم في تقسيم العراق، وتغيير تاريخه وجغرافيته؟! ...
وما موقف الأنظمة العربية في الحالتين، في حال تقسيم العراق (لا سمح الله)، أو في حال فشل كل المشاريع الأمريكية على صخرة مقاومة الشعب العراقي؟!!... فهل ستستمر مواقف هذه الأنظمة تتراوح ما بين المساند والداعم للمشروع الأمريكي، وبين الخائف والمتربص!!!، علماً بأن أي من المجموعتين لن يكون ضمن حلفاء الطرف المنتصر في هذه المعركة التاريخية التي تقع على أرض العراق الخالدة...

- 5 -

إن العراق غير قابل للقسمة... وهذه حقيقة يعرفها العراقيون ويؤمنون بها وهم ليسوا بحاجة لإثبات هذا الواقع الذي يعيشوه وعاشوه على مدى قرون طويلة... فما الذي يجعل هذا الشعب مؤمناً بتجانسه ووحدته رغم تميّزه الفريد بتعدد الطوائف والقوميات والأديان والمذاهب!!...
باختصار شديد، يمكننا تصنيف المجتمع العراقي بكل طوائفه ومذاهبه وقومياته بالمجتمع التعددي، الذي انتقل، عبر تاريخه الطويل، متجاوزاً مرحلة التصادم المباشر التي عادة ما تمر بها المجتمعات المتعددة الفئات، لينتقل إلى مرحلة التوازن ومن ثم إلى الاندماج والانسجام الكاملين بين فئاته مع الاحتفاظ بمزايا وإيجابيات التنوع الذي يندر وجوده في مجتمعات أخرى... فالمجتمع التعددي والفسيفسائي يتشابهان بكونهما يتكونان من فئات متنوعة أو مركبة تتميّز بنوع من التوازن والتعايش فيما بينها ، إلا إن المجتمع التعددي يختلف عن الفسيفسائي من حيث اندماج وانسجام فئاته باتفاقها على المرتكزات والثوابت الوطنية إضافة إلى الانفتاح فيما بينها بالحوار الصريح، وولائها للوطن ككل بدلاً عن الجزء.
يبدو إن الأمريكان يعرفون، أكثر من غيرهم، هذه الحقيقة المميّزة عن العراق، وعليها رسموا ونفذوا خطط التقسيم على نار هادئة... وضمن هذا السياق عمل الاحتلال الأمريكي مبكراً وبإحكام شديد على تفكيك المجتمع العراقي نظرياً لتجريده من كل عناصر وعوامل التجانس بين فئاته المتنوعة... وعمل على تنفيذ نظرياته في خطوط متوازية. فعلى مستوى القمة جاء بقيادات دينية وسياسية وأثنية دخيلة على المجتمع ترفض أي اتفاق أو حوار حول مرتكزات مبدئية تقوم على الولاء للوطن بدلاً عن الطائفة أو الجماعة... وعلى مستوى القاعدة عمل على كسر وحدة المجتمع وتجانسه من خلال تعدد الأنظمة التربوية بعد أن كان نظاماً موحداً بنى جسور الدمج الإنساني والوطني بين فئاته... وبين المستويين جاءت برامج وعمليات متعددة، أهمها وأخطرها مسلسل تفجير دور العبادة في العراق بهدف إشعال حرب دينية للقضاء على وحدة هذا المجتمع وخلق العصبيات والتطرف.
إلا إن كل هذه المخططات فشلت في تحقيق أهدافها، حتى الآن، لما يتمتع به الشعب العراقي من مناعة وطنية عالية لا يمكن إضعافها، تتمثل في إيمان حقيقي باحترام الأديان والطوائف والقوميات، وبالتزاوج المختلط الذي أزال المسافات الاجتماعية والنفسية والعصبية بينها، والتعايش معاً في تداخل سكني وجغرافي متميّز، وقبول سيادة قانون واحد على الكل، وأخيراً بالإجماع على الأحزاب الوطنية ورفض التحزب الطائفي والإثني .
وفي الجانب الآخر، لقد أعطى العراق، في ظل الاحتلال، أبلغ تعبير عن وحدته وانسجامه الوطني، من خلال التقاء كل القوى والفئات العراقية الوطنية تحت لواء المقاومة، مما أعطاها القوة والصلابة والقدرات العالية على تنظيم وتطوير أجهزتها وأدوارها، وامتدادها على كامل المساحة العراقية، واستمرار تصعيد عملياتها في وقت قياسي، مما يشير بوضوح، لا يمكن الشك فيه، إلى حصولها على المساندة والدعم المباشرين من مجمل الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه، حسب ما يؤكده أكبر مراكز الأبحاث الأمريكية على المستوى الدولي... ففي آخر تقرير صدر عن "المجموعة الدولية للأزمات" يعترف المراقبون الاستراتيجيون إن نتائج زياراتهم المتكررة للعراق تؤكد إن صمت السكان، أتاح للمقاومة المسلحة تطوير نفسها بشكل حثيث... وإن "البدايات العشوائية للمقاومة من قبل جماعات مشتتة وهزيلة الإمكانيات تثير الشكوك، قد تطوّرت خلال فترة قصيرة إلى عمليات جريئة تتحرك بحرية بين سكان مؤيدين لها ومتواطئين معها".
ففي العراق ذو الطبيعية الجغرافية الخالية من الغابات والجبال والصحارى اللازمة لحروب العصابات والمقاومة المسلحة، كان لا بد أن يكون الشعب العراقي هو العمق الاستراتيجي الذي تلجأ له المقاومة لحماية نفسها... وليكون هذا الملجأ البشري آمناً وحصيناً يجب أن تكون فئاته المتنوعة على درجة من الاتحاد والانسجام والتضامن والتحالف العفوي فيما بينها، وهذا ما أثبتته النتائج التي حققتها المقاومة العراقية للعالم من خلال قوتها وتماسكها الحديدي في مواجهة القوات الأمريكية الأشرس والأكثر عدائية في العالم وفي التاريخ.
إلا إن المحاولات الأمريكية لتقسيم العراق لن تتوقف، فكلما زادت المقاومة قوة زاد الإلحاح على التقسيم لإضعاف وحدتها وتسهيل السيطرة على العراق... إضافة إلى إن تقسيم العراق مرحلة هامة وضرورية ضمن مخططات تقسيم المنطقة وإعادة صياغتها في كنتونات طائفية وأثنية، فالتقسيم الطائفي هو الوسيلة الأنجح لإضعاف وتحييد دور الشعوب في مقاومة الاستعمار كما هو الأنجح في فرض المزيد من الهيمنة على الأنظمة والسيطرة على موارد المنطقة إجمالاً... فإلى أين ستصل هذه المخططات في العراق؟... هل ستصل إلى حد إشعال حرب أهلية يغذيها المرتزقة لتأكل الأخضر واليابس إن لم تتمكن قوات الاحتلال من إنهاء المقاومة أو إضعافها؟!... وهل تعي الأنظمة العربية عموماً والخليجية خصوصاً ما المصير الذي ينتظرهم وينتظر المنطقة بأسرها إن تم تقسيم العراق وتوزيعه بين الصفويين والسنة والأكراد، أو إشعال نار الفتنة بينهم؟!...
وبعد كل هذا، وإذا علمنا إن في صيانة وحدة العراق تكون صيانة وحدة الأمة، فيا ترى هل يمكن أن نتوقع أي دور للأنظمة العربية لمنع تقسيم العراق والحفاظ على وحدته منعاً للانهيارات التي يمكن أن تحدث في أقطارهم وعروشهم!!! ...


كلمات دالة: