الثنائية المجلسية وممارسة التشريع

هناك زيادة عالمية ملحوظة في التوجه نحو نظام الثنائية المجلسية في التشريع، أي المجالس التشريعية بغرفتين، الغرفة المنتخبة و الغرفة المشكّلة بغير ذلك من آليات التوليّة ... وقد تزايدت هذه الظاهرة في العقود الأخيرة حتى بات غياب الغرفة التشريعية الثانية في أي نظام سياسي يتم تعويضها بإيجاد ما يماثلها في شكل هيئات دستورية أخرى على شاكلة المجالس الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل كمختبرات مشورة للحكومة ...

غير أنه في الحقيقة لا بديل لهذه الغرفة مهما كان شكل الهيئة التي تعوّضها، وان الاختصاصات التي تعطي لمجالس المشورة لا ترقي للاختصاصات الموكولة عادة للغرفة الثانية.
إن هذه الزيادة العالمية في التحول إلى الثانية المجلسية في السلطات التشريعية جاء مترافقاً مع زيادة أهمية القوانين في تنظيم شئون المجتمعات، وأهمية التشريعات القانونية في نجاح أية نهضة تنموية وحضارية شاملة ... وبالتالي صار هناك وعي متزايد بالاعتناء بأساليب التشريع وجودة القوانين ونوعيتها لعلاقتها المباشرة بكل جوانب الحياة وجميع قطاعات المجتمع، إضافة إلى الحاجة الملحة لمواءمة القوانين الوطنية مع مختلف الاتفاقيات والمعاهدات والأنظمة الدولية في مختلف المجالات الاقتصادية والإنسانية والسياسية وغيرها ... وفي الجانب الأخر صار هناك اهتمام متزايد بضرورة سرعة البت في القضايا التشريعية بما يتناسب مع سرعة صيرورة التنمية والعلاقات الدولية ومصالح المجتمع اليومية المتمثلة في حاجات الأفراد وقضاياهم الحياتية بما لها من علاقة مباشرة بالقرارات والإجراءات التنفيذية في كل مرافق الدولة.
هذا الوعي وهذا الاهتمام المتزايد بالشأن التشريعي بات سبباً رئيسياً في تحسين وتنوع الهيئات التشريعية بما يتلاءم مع جودة العملية التشريعية وسن قوانين نوعية على درجة من الدقة والصلاحية تفي بمتطلبات المجتمع وأهدافه، مع الاهتمام بالعامل الزمني في الإسراع بالبت وعدم تأخير مصالح الدولة والأفراد.
وان كان كل ما سبق سبباً كافياً للاهتمام المتزايد بتشكيل الهيئات الثنائية المجلسية في ممارسة التشريع، فإننا نرى أن الحالة السياسية التي تمر بها منطقتنا، وانعكاسات هذه الحالة على التشكيلات المنتخبة في البرلمانات العربية، تعد أيضاً من أهم الأسباب التي تدعو إلى إيجاد غرفة ثانية للتشريع بجانب الغرفة الأولى المنتخبة انتخاباً مباشراً، لتعوض النقص الدائم في تمثيل مختلف القطاعات المغيبة في الحالة الانتخابية.
ولكل الأسباب السابقة اتبعت بعض المجتمعات مناهج مختلفة في تكوين مؤسساتها وسلطاتها التشريعية وفي هذا نأخذ المثال الفرنسي الذي أخذ أكثر المناهج تطرفاً، في تحويلها السلطة التشريعية إلى وظيفة تشريعية موزعة بين المجالس التشريعية المنتخبة والسلطة التنفيذية.
والأفراد .

من السلطة التشريعية إلى الوظيفة التشريعية 
ظل المفهوم الكلاسيكي لمبدأ الفصل بين السلطات ساريا على مستوى الفقه الدستوري المقارن، حيث كان الفقه مُجمعاً على اعتماد المعيار الشكلي أو العضوي في تحديد السلطات وبيان اختصاصاتها. وكانت الدساتير في أغلبها تنهج نفس النهج من حيث إرساء فصل شبه تام بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحيث أستأثر البرلمان في جميع الدول ذات الدساتير بالسلطة التشريعية وانفرد بها دون غيره.
إلا أنه يُلاحظ أن بعض الدساتير قد حددت مجالات أو مواضيع معينة يختص البرلمان بالتشريع بشأنها حصرا وترك ماعداها للسلطة التنفيذية، ومن ذلك الدستور الفرنسي لسنة 1958 والمعروف بدستور الجمهورية الخامسة، الذي أشرف على وضعه الجنرال ديجول شخصيا كشرط لقبوله العودة إلى السلطة، والذي وزع الوظيفة التشريعية بين البرلمان بمجلسيه (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) والسلطة التنفيذية، مما شكّل تحولاً جذريا على مستوى السلطة التشريعية من حيث استبدال المعيار الوظيفي بالمعيار الشكلي في تحديد مجال السلطات الدستورية، فأصبحت السلطة التنفيذية هي صاحبة الولاية في التشريع، وأصبح اختصاص الجمعية الوطنية في التشريع محدداً على سبيل الحصر، بحيث إذا شّرع في غير المواضيع المحددة له بموجب الدستور طّعنِ بعدم دستوريته لمخالفته العنصر الموضوعي في الاختصاص.
ومفاد هذا المعيار إحلال مفهوم الوظيفية محل مفهوم السلطة، بحيث يُصار إلى الحديث عن وظيفة تشريعية ووظيفة تنفيذية ووظيفة قضائية بدل اعتماد مفهوم السلطات . . وكان الغرض من هذا التحول تحديد مجال القانون وإطلاق مجال اللائحة (السلطة التنظيمية التي تتولاها الحكومة)، على نحو أضحى معه البرلمان بمجلسيه (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) مشرَّعا ثانويا ذا اختصاص تشريعي محدود بمقتضى المادة 34 من الدستور الفرنسي، بينما أصبحت الحكومة هي المشرَّع الرئيسي من خلال إطلاق صلاحياتها اللائحية اعتباراً لما نصت عليه المادة 35 من الدستور . . أي أنه تم تحديد الصلاحيات التشريعية للبرلمان الفرنسي بمجلسيه في بعض القضايا الرئيسية مثل قضايا المُلكية والحريات العامة والالتزامات والعقود والميزانية على سبيل المثال، وأعطت السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة صلاحية التشريع في كل القضايا الإجرائية للدولة . . وذلك اعتبارا لما تتطلبه العملية التشريعية من خبرات وآليات قانونية ومعلومات تقنية لا تكون بطبيعتها متوافرة لأعضاء السلطات التشريعية المنتخبة . . ونتيجة لذلك أصبح جوهر العمل البرلماني في فرنسا رقابيا أكثر منه تشريعيا.
وفي الجانب الآخر أنيطت بالمجلس الدستوري مهمة حماية مجال اللائحة أي الاختصاص التشريعي للحكومة من تدخل السلطة التشريعية.

الوظيفة الرقابية جوهر العمل البرلماني
يستخلص من تجربة الجمهورية الخامسة هذه في فرنسا، التي يُعتبر دستورها بمثابة النموذج للفقه الدستوري الحديث، أن جوهر العمل النيابي تحوّل جذريا من التشريع إلى الرقابة، بحيث أصبحت الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية أهم الصلاحيات الموكولة إلى البرلمان، بعد أن كان على مدى أكثر من قرنين من الزمن يستمد مشروعيته من كونه سلطة التشريع الرئيسية أي المعبّر الرئيسي عن الإرر ادة العامة.
وعليه فقد راعت أغلب الدول ذات البرلمان المزدوج (أو الثنائية المجلسية) تعزيز المهام الرقابية للغرفة الأولى المنتخبة بالاقتراع المباشر مقارنة بصلاحيات الرقابة المخولة للغرفة الثانية . . وقد اتجه مشرع الدستور البحريني نفس الوجهة حيث قصر سلطات الرقابة على مجلس النواب من تحقيق وطرح للثقة ولم يخوّل مجلس الشورى إلا صلاحيات محدودة في هذا المجال مقتصرة على طرح الأسئلة فقط، حماية للاختصاص الرقابي الأصيل لمجلس النواب.

الغرفة الثانية . . مجالس الشورى . . مجالس الشيوخ
الغرفة الثانية في السلطة التشريعية، التي تنوعت تسمياتها في الوطن العربي، ما بين مجلس الشورى ومجلس المستشارين ومجلس الأعيان (مجلس اللوردات في بريطانيا، ومجلس الشيوخ في فرنسا ... غيرها)، وتعددت أساليب تشكلها ما بين التعيين الكامل، أو التعيين والانتخاب بالمناصفة وغيرها، هذه الغرفة الثانية إجمالاً يكون دورها تكاملياً مع المجلس المنتخب انتخاباً مباشراً من جانب، وتمتلك مميزات تنفرد بها على مستوى دورها وأدائها، من حيث الشكل والموضوع، مما يدفع بالارتقاء في العملية التشريعية بالجانب الآخر.
أهم مميزات الغرفة الثانية في مجالس التشريع هي أنها تسد ثغرات الغرفة الأولى التي تظهر في أداء النواب المنتخبين ومناقشاتهم لمشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة، بسبب وقوعهم تحت ضغط الشارع الانتخابي من جهة وضغط التوجهات الحزبية والمناطقية من جهة أخرى (ولا تخفي الضغوط الطائفية في مجتمعاتنا)، وهذا ما يظهر دائماً وبشكل جلي في مناقشاتهم التي تصطبغ بالأهداف السياسية الصرفة أكثر من أهداف الصالح العام التي يجب أن تُغطي مساحة المجتمع أفقياً ومداه الزمني عمودياً . . فتنعكس نتائج هذا الأداء في بعض القوانين المبتورة أو المُفَصَلة لمصالح الجماعات الانتخابية والدورة الانتخابية بشكل أو بأخر . .
وفي هذا تتميّز الغرفة الثانية دائماً برؤية شمولية مُنَرُهّة عن الأغراض المسيّسة والمُبَيّتَة، ورؤية تمس الجوهر والعمق في اقتراحاتها للقوانين ومناقشاتها النوعية للتشريعات بما يحقق في النهاية الصالح العام بشكل شامل وبرؤية متجردة . .

قوى المجتمع والتمثيل المؤسسي (المجتمع الفعلي والمجتمع المُمَثَل)
اتجهت أغلب الأنظمة الدستورية المعاصرة إلى اعتماد نظام المجلسين بهدف تجاوز الخلل الناجم عن الاقتصار على اعتماد طريقة الانتخاب المباشر لأعضاء الهيئة التشريعية وما ينجم عنه من تغليب تمثيلية القوى السياسية، أي الفعاليات المنظمة سياسيا والمنتظمة هيكليا، على سائر القوى الفاعلة في المجتمع، وخصوصا في الدول التي تشهد عزوفا عن العمل السياسي المنظم أو التي تغلب على أحزابها النزعة الإقصائية أيديولوجيا أو عرقيا أو طائفيا.
ولئن كان الانتخاب المباشر هو الوسيلة الأكثر انتشارا على الصعيد المقارن لتشكيل الغرفة الأولى في البرلمانات، فإن طرق تشكيل الغرفة الثانية تختلف باختلاف واقع الدول بين انتخاب غير مباشر وتعيين. على أن الغاية تظل واحدة وهي: ضمان تمثيلية مختلف أطياف المجتمع وقواه الحية وعدم الاقتصار على تلك القوى المنظمة سياسيا فقط، حتى لا يكون التفاوت كبيرا ما بين حقيقة التكوين المجتمعي ببنياته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتشكيل المؤسسي، أي بين قوى المجتمع كما هو فعليا وأطياف المؤسسات التمثيلية كما هي رسميا.
ولهذا تسد الغرفة الثانية نقص الغرفة الأولى في تمثيلها لمختلف قطاعات وفئات المجتمع، سواء الفئات العضوية مثل قطاع المرأة والأقليات الإثنية المختلفة، أو الفئات المهنية مثل قطاع الفلاحين والعمال والأكاديميين والعسكريين وغيرهم . .
إضافة إلى ذلك تعوّض العناصر النوعية المعينة في الغرفة الثانية بشكل عام النقص الذي يعتري المجالس المنتخبة الخالية من الخبرات المجتمعية المختلفة، بالاستفادة من هذه الخبرات التراكمية التي يحتاج إليها المجتمع والتي عادة لا تصل إلى قبة البرلمان لأسباب كثيرة أهمها ان هذه العناصر النوعية عادة لا تتعني الدخول في المعترك الانتخابي لعدم ولوجها العمل الحزبي أساساً . . وعلى هذا الأساس تتميّز الغرفة الثانية بمساهمة هذه الكفاءات والخبرات النوعية المهمة والضرورية في التشريع . .
وبهذه المميزات عادة ما تتصف مناقشات لجان ومجالس الغرفة الثانية بالدقة تفسير القوانين والشمولية في مضامينها والقوة في وضعها الدستوري مع العناية التامة بسرعة البت لما يتمتع به أعضاؤها من تنوع في الخبرات والمؤهلات والكفاءات من جهة، ولعملهم خارج إطار الضغوط والمصالح الانتخابية والمعتقدات الأيديولوجية الضيقة، وتمتعهم بسعة في الوقت للبحث والتقصي من جهة أخرى . .

مجلس الشورى في البحرين
وأخيراً، رغم كل الحقائق الإيجابية الواردة عن هذا النظام التشريعي المتمثل في الثنائية المجلسية في ممارسة التشريع، إلا أنه لايزال هناك تدن في شعبية نظام الغرفة الثانية . . ويرجع ذلك أساساً إلى ما يروجه المعارضون من أفكار حول أهمية وجدوى وديمقراطية وجودها . . حيث كثيراً ما يرددون بأن الغرفة الثانية في المجالس التشريعية تساهم في تضييع الوقت وتأخير صدور التشريعات، وتبذير في الجهد العملي وزيادة في التكاليف والأعباء المالية وان التشريع من صلاحية ممثلي الشعب المنتخبون انتخاباً مباشراً.
ويعد هذا السبب، أي ترويجات المعارضة وثقافتها، أساسياً في تدني شعبية مجلس الشورى في البحرين، مما أدى إلى تدني اهتمام الناس بهذا المجلس وبالتالي عدم الالتفاف حوله بما يخدم تحقيق مصالحهم والاستفادة مما يملك من صلاحيات وكفاءات وإمكانيات . . وإذا أضفنا إلى تلك اللامبالاة والانتقائية التي يتعامل بهما الإعلام البحريني عموماً في تغطية أخبار مجلس الشورى وتهميش الدور الذي يقوم به إجمالاً، وتسليطه الأضواء على مجلس النواب بما يتفاعل به من مظاهر ساخنة وإثارة في الحوار، فإننا نكتشف أن هناك مساهمة إعلامية كبيرة في التعتيم على إنجازات مجلس الشورى ودوره وأدائه المتميّز، وبالتالي في عدم تكوين ثقافة في المجتمع حول أهمية هذا المجلس في التشريع ودوره في خدمة أهداف ومصالح الناس اليومية والحياتية والمستقبلية . .
ولهذا ندعو البحرينيين للتعرف على مجلسهم هذا والاقتراب منه وإفادته والاستفادة منه بما يصب في النهاية في تحقيق مصالحهم وترسيخ سيادة القانون، وفتح آفاق ثقافة إيجابية في التعامل مع مجلس الشورى الذي نطمح إلى أن يتقدّم في بنيته المؤسسية مع مرور الوقت ومع تطور بُنّى العملية التشريعية التي هي بحاجة دائمة للخبرة والمعرفة التي تُستمد من الممارسة والتجربة.