الفكر العربي المعاصر وثقافة العولمة . . الانفتاح على الآخر

من المؤكد أن الفكر العربي بات بحاجة إلى مراجعة ذاتية شاملة وتحديثا لآلياته على جميع المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها، نظراً للتحولات والأحداث الكبرى التي تمر بها منطقتنا منذ ما يزيد على ربع قرن حتى يومنا هذا . . إذ إن بقاء هذا الفكر في قوالبه النمطية المعهودة والمحصورة بآليات قديمة لا تناسب ما تعيشه المنطقة من أحداث جسام، يعني إن هذه الأمة سوف تبقي في منزلتها الحالية القائمة في مؤخرة الركب العالمي، وفي موقعها تابعا يعيش على نتاجات وإبداعات الأمم الأخرى من دون أن تتمكن من التحكم في مستقبلها الذي نراه اليوم ضبابياً غير واضح المعالم، إن لم يكن أكثر هشاشة من حاضرها المضطرب والعاصف...

وضمن هذه المراجعة الشاملة بات مطلوباً من الفكر العربي التمعّن بشكل أكثر تفصيلاً في أسباب تخلف الأمة عن النهوض الحضاري أسوة بنهضة أمم كثيرة صعدت في العالم خلال قرن واحد حتى صار موقعها في آخر القائمة المعنية بتقييم تقدّم الشعوب بمعيار التنمية الإنسانية . . وبشكل أكثر عمقاً في أسباب تخلفها بدءاً من فترات الاستشراق السابقة للاستعمار الغربي، وامتداداً إلى فترة ما بعد الاستعمار حتى يومنا هذا بما مر على المنطقة من اضطرابات وحروب وصراعات داخلية وخارجية . . لما لتلك المراجعة المعمقة من تأثير في كشف أو تشخيص مخابئ الأمراض المزمنة التي لازالت تتحكم في إضعاف الأمة، وتعصف بأوردتها الرئيسية لإبقائها في حالة عجز وتبعية دائمة لأسباب كثيرة، وأهم تلك الأسباب هو ثراء وحيوية هذه المنطقة التي تعد عصباً رئيسياً في مسيرة التقدم والنهضة الغربية بشكل عام، ومحط أطماع الاستقطابات الدولية.
وضمن هذه المراجعة الشاملة التي نطالب بها، نضع هنا رؤيتنا في مفهوم العولمة للوصول إلى شيء من جدلية العلاقة بين الفكر العربي المعاصر وثقافة العولمة، وجدلية العلاقة بين الانفتاح على ثقافة الآخر وثقافة العولمة . .

ثقافة العولمة
حاولت القوى الاقتصادية المستفيدة من العولمة (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية)، منذ ثمانينيات القرن العشرين، أن تعطي تعريفات أو مفاهيم متعددة لمصطلح العولمة . . إذ كان تعدد المفاهيم من متطلبات تلك المرحلة التي شهدت بداية نهاية الحرب الباردة وما تبعها من تغييرات دولية مازالت غير منتهية . . إلا إن كل تلك المفاهيم اتفقت على صورة وردية واحدة حاولت بها أن تقنع شعوب العالم إن هذه العولمة جعلت العالم قرية كونية صغيرة تربطها وسائل وتكنولوجيا التواصل والاتصال الحديثة والمتقدّمة والسريعة جداً، وستحقق لهذه الشعوب رفاهاً لم تتوافر لها في أي من العصور السابقة . . ولربما كانت المنطقة العربية الأكثر تأثراً واستجابة لهذا المفهوم غير الواقعي للعولمة التي كانت قد بدأت ترمي بظلالها الثقافية والاقتصادية الثقيلة على العالم وتلقى معارضة في مجتمعات كثيرة رأت فيها غزواً ثقافياً أمريكياً ضد خصوصياتها وتراثها وأمنها الوطني . . وما أن بدأ الترديد الببغائي لمفهوم العولمة الأمريكية بتخدير الشعوب الفقيرة حتى هبّت هذه الشعوب مستيقظة فجأة على صراخ أولئك المناهضين والرافضين لها (العولمة) من داخل المجتمعات المروجة لثقافتها والمعروفة بالرفاهية والتقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي، وهي التي كان من الأولى أن تنعم بمزايا تلك العولمة الوردية . . فكان صراخ أولئك الأفراد والمنظمات مُدَوّياً مما دفع بالشعوب الأخرى للبحث في أسبابه . . فياترى هل حقاً للعولمة وجه وردي كما يروج لها أصحابها!!؟؟ . .

العولمة . . ومراحل تطور الرأسمالية!! . .
للإجابة على هذا التساؤل، ألتمس مدخلاً تاريخياً محدداً، بدءاً من هناك، من حيث كانت بدايات تطور الرأسمالية ونظرياتها . . هناك على سبيل المثال، في تلك البدايات المبكرة، لم تُذكر الإمبريالية في كتابات ماركس حول الرأسمالية، لأن كلا المُنَظّرين، ماركس وانجلز، لم يعيشا مرحلة تطور الرأسمالية إلى الإمبريالية، فلم تتضح لهما معالمها . . رغم ذلك، تم تعريف الإمبريالية على أنها نظام اقتصادي يتطور في المراحل المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالي، كما وصفها، فيما بعد، لينين في مجلده الشهير "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، واضعاً فيه أسس الإمبريالية التي ظهرت مع تَدَرّج تطور الرأسمالية في العالم، بدءاً من مراحلها الدنيا وهي مرحلة التنافس التجاري والاقتصادي ومبدأ السعر والربح، أي السلعة - المال - السلعة، مروراً بالمرحلة المتوسطة وهي مرحلة الاحتكار كأعلى درجات المنافسة، انتقالاً إلى المرحلة العليا وهي الإمبريالية التي اتسمت بتجمع الشركات الوطنية العملاقة في كارتلات، وتَجَمُع الشركات والمؤسسات الوطنية المتوسطة في اتحادات، ليتحول الاقتصاد إلى مبدأ المال - السلعة - المال، وبدايات اقتصاد تصدير المال (رأس المال المالي) . . وصعوداً إلى أعلى مراحل الإمبريالية المتمثلة في ظهور الاحتكارات العالمية، وخروج الشركات العملاقة وكارتلاتها من النطاق الوطني إلى العالمي لتتكوّن الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات، وصولاً إلى مرحلة عولمة الاقتصاد، وهي المرحلة التي بدأت فيها الآليات الاقتصادية للإمبريالية بالتبلور والانتشار، فظهرت السياسات المالية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي)، والاتفاقيات التجارية (الجات، اتفاقيات التجارة الحرة . . .)، والمعاهدات الدولية (معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، معاهدات الدفاع المشترك، معاهدات الأمم المتحدة . . .).
وهكذا مع مخاضات العالم في مراحل تطور هذا الفكر الرأسمالي، ومع بداية الثمانينيات من القرن الماضي دخلت الإمبريالية مرحلة مخاض عسير تمثلت في صراعات وحروب طويلة كانت وبالاً على منطقتنا العربية والإسلامية (الحرب الأفغانية، الحرب العراقية الإيرانية، الحرب الأهلية في لبنان، بزوغ الإسلام السياسي المتطرف) . . لتنتهي تلك المرحلة بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي، وولادة نظام دولي ينبئ بصعود القطب الأمريكي لقيادة العالم . . فكانت نهاية الإمبريالية وولادة العولمة التي انطلقت فيها الليبرالية الجديدة نحو ترسيخ أهداف ووسائل وآليات ومعايير رأسمالية تناسب حركة القوى الاقتصادية الكبرى للاستحواذ على موارد وأسواق العالم واحتكارها، وإزالة أي موانع حدودية أو دولية أو ثقافية تعيق هذا الاستحواذ . .
وفي تسعينيات القرن الماضي عملت تلك القوي على ترسيخ سياسات العولمة من خلال مؤسساتها الدولية ممثلة في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وانفردت القوى الإمبريالية المعولمة بنفوذ هائل على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم وقامت بتوظيف هذا النفوذ في صالح تحقيق أهدافها بلا عائق . . وبدأت بتطبيق سياسات مختلفة، منها الضغط على الدول النامية إما مباشرة بضغوط اقتصادية (اتفاقيات الجات) أو عسكرية (الحرب على العراق عام 1991) أو عن طريق مؤسسات عالمية (البنك الدولي) لفتح أسواقها وتغيير قوانينها وتسهيل عملية دمج اقتصادها في الاقتصاد العالمي، مما يضع اقتصاديات الدول النامية تحت سيطرة فئة محدودة من المستفيدين ويعصف بحقوق الشعوب . .

عسكرة العولمة
وإجمالاً، إن ذلك العقد التسعيني الذي بدأ بالحرب الأمريكية على العراق وحروب يوغسلافيا، كان عقد "عسكرة العولمة"، التي اقتضتها متطلبات كبت جموح التناقضات المتفاقمة الناتجة عن سياسات الليبرالية الجديدة . . وهذه الحروب سبقت أحداث 11 سبتمبر 2001 بعقد من الزمان، رغم إن تلك الأحداث مثّلت نقلة نوعية في هذا التطور . .
ومع بداية القرن الميلادي الجديد، بدأ العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً يعيش أياماً خطيرة بدا فيها واضحاً إن الليبرالية الجديدة قد اتخذت من أحداث 11 سبتمبر 2001 ذريعة لتكشف بعدها الولايات المتحدة وحلفاؤها عن الوجه الحقيقي لمرحلة عسكرة العولمة تحت شعار جديد جاء على لسان الرئيس الأمريكي (من ليس معنا فهو ضدنا)، وهو شعار ينفي بل يجتث جذور كل محاولات لقاء الحضارات أو مفاهيم الانفتاح على ثقافة الأخر، ويزرع مكانها بذور صراع الحضارات المعتمد على آليات الدمار الشامل الممثلة في العقائد العسكرية سيئة السمعة لهذه المرحلة الجديدة: الحرب الاستباقية، والحرب الوقائية، وتغيير العقيدة النووية من دفاعية إلى هجومية، ومبادئ الحرب الاستثنائية التي لا يحق لغير الولايات المتحدة اعتمادها . . فاستخدمتها جميعاً، مع حلفائها، ضد العرب والمنطقة العربية انطلاقاً من غزوها واحتلالها للعراق لتضع حداً فاصلاً بين انتهاء مرحلة الإمبريالية التي رافقت الحرب الباردة، وبدء مرحلة العولمة التي بدأت مع "الحرب على الإرهاب" . .
ولتغطية ذلك الوجه البشع للسياسات الرأسمالية الجديدة التي عملت، ومازالت تعمل، على زيادة بؤس شعوب العالم، وخاصة شعوب البلدان النامية، وبالأخص الشعب العربي، فإنها جاءت متزامنة، بل مترافقة مع حملات ترويجية شديدة التماسك لمفاهيم أكثر قرباً لتطلعات الشعوب في الديمقراطية وحقوق الإنسان وإشاعة ثقافة غامضة ومتماهية للعولمة بمفهومها النظري الوردي الأكثر قبولاً . .
ورغم قوة الحملات الترويحية الغربية حول أهمية الديمقراطية وضرورتها لمنطقتنا العربية للقضاء على الإرهاب في منابعه (حسب الادعاءات)، إلا إن كل تلك الحملات باءت بالفشل تحت وحشية الحروب والدمار والفوضى العارمة التي خلقتها ما تُدعى بسياسات العولمة في المنطقة . . وبعد كل تلك الجهد في التبشير الغربي بالديمقراطية على مدار عقد من الزمان، كانت المحصلة الراسخة في المخيلة العربية هي تلك الصور الرقمية لسجناء عراقيين عراة في سجن أبو غريب في أوضاع تجسد المهانة والذل، فيما ينظر سجّانوهم الأمريكيون إلى الكاميرا كما لو أنهم يعلنون تحديهم المفرط للعرب، وإهانتهم المتعمدة لكرامة وشرف الإنسان العربي، واستهزائهم بكل القيم والمشاعر الإنسانية العربية . . تلك الصور التي ستبقى تختزل سياسات العولمة الغربية في مخيلة الذاكرة العربية . .
إن تلك المخيلة العربية، التي انطبعت بمفاهيم الغل والعداء الغربيين ضد العرب، هي التي يجب محاكاتها حول أية مفاهيم لثقافة العولمة وثقافة الانفتاح على الآخر، وإلا فإن الصراع الثقافي سيبقى في حالة تصعيد مستمر، ولن يتوقف عند ما يدعى بـ "الإرهاب" فقط . .
هذا رغم إيماننا أن الإرهاب بدأ من هناك، من حيث نشأ الفكر الاستعماري والسياسات والممارسات الغربية الاستعمارية . . من هناك حيث تم تصدير بذور وثقافة الإرهاب لتُلَقّح بها الثقافة الإسلامية، استعداداً لعصر ما بعد الحرب الباردة بمتطلباتها من وسائل وآليات وضمانات لإبقاء هذه الأمة تحت الهيمنة المستمرة، مادامت تختزن الأرض العربية تلك الموارد الثرية . . فجاءوا بثقافة الإرهاب ليضربوا بها ثقافة المقاومة . . مقاومة الاحتلال ومقاومة ثقافة الغرب المتسيّد والمهيمن والمتغطرس . .

الخلاصة
ومن ذلك نستخلص ما مفاده أن هذا الفكر العربي الذي عاش خلال القرن الماضي مراوحاً في مكانه ما بين الانبهار بليبرالية وإمبريالية الغرب وبين الانجذاب الإنسانية وأصالة الشرق، لن يلقى في هذا القرن الدامي قبولاً أو انفتاحاً جماهيرياً إن لم يحدد دوره ومكانته ونديته في مواجهة الأفك القادم من الغرب لإنهاء الوجود العربي بسبق الإصرار والتعمد . . هذا الأفك الغربي القائم على مبادئ سيادة القوة والتعالي الحضاري . .
إن أحداث العراق وفلسطين والسودان والصومال المتجسدة أمامنا لحظة بلحظة، تثبت إن الآخر الذي نتطلع إلى الانفتاح عليه والحوار معه لا يعنيه هذا التطلع مادام قادراً على إذلالنا والاستحواذ على ثرواتنا . . إن الآخر هذا الذي يخاطبنا بأبشع وسائل العنف وأسلحة الدمار الشامل غير مبال بالحوار معنا ضمن أي منظور أو مفهوم . . فهذا الآخر لا شأن له بثقافتنا أو انفتاحنا، فهو يعمل ضدنا بمبدأ ميكافيللي القائل "من الأفضل أن تكون مرهوب الجانب على أن تحظى بالمحبة"، وبشعار ذلك الإمبراطور الغربي "ليكرهوني طالما أنهم يخشونني" (كاليغيولا) . . فأي رفاهية فكرية هذه التي تدعو إلى الحوار مع الآخر (الغربي) في هكذا ظرف لا إنساني بشع ومُذل؟ . .


كلمات دالة: