الحرية المسؤولة .. وثقافة الحوار والانتخابات

يقترب المجتمع البحريني، بخطوات جديدة نحو نهاية العشرية الأولى في بدر المشروع الإسلامي الذي جاء به جلالة الملك بمبادرة تحمل معاني ودلالات كثيرة .. أهمها هو تفعيل الإرادة السياسية لوضع مملكة البحرين من الأطر الدولية والقانونية السليمة على المستوى الخارجي، والخروج بالهيكل السياسي الداخلي من دائرة النظم السياسية، التي لم تعد تناسب العصر في الألفية الثالثة بعد الميلاد، إلى مصاف الديمقراطيات والمشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي ..

فجاءت المبادرة الإصلاحية بميثاق العمل الوطني والدستور البحريني كأهم عقدين تم الاتفاق عليهما بين الشعب وقيادته للسير معاً في مسيرة التحول الديمقراطي وصولاً للأهداف المنشودة . . ولتكونا معاً المرجعية التي تحتكم لها الوحدة الوطنية لحماية مصالح الشعب والوطن . . وفي سعينا المستمر لنجاح، وإنجاح، تجربتنا الديمقراطية، نرى ضرورة فتح حوارات دائمة لتقييم المشروع الاصلاحي المتمثل في عملية التحول الديمقراطي، والتعرف على آليات وغايات كل مرحلة، وما تحقق من أهدافه المرحلية خلال الفترة المعمول بها، وتشخيص سلبيات المرحلة وإيجابياتها، والخروج بخلاصات فكرية تدعم المراحل اللاحقة لترسيخ دعائم الديمقراطية من جهة، ورفع الوعي الثقافي المطلوب لكل مرحلة من جهة أخرى .

ثنائية الثورة والإصلاح
ومن هذا المنظور نرى من الأهمية البدء بتعريف أبجديات التغيير والانقلاب الذي حصل في مجتمعنا منذ ما يقارب عشرة أعوام، والتذكير به لنبقى على تواصل فكري مع الخيارات التي أجمعنا عليها، وبدأنا مسيرتها . . ولنواصل العمل بها على أسس سليمة.
أولى الأبجديات تقول، إن طريق التغيير في النظم السياسية محصور في أحدى الوسيلتين، الثورة أو الإصلاح.
وتتشابه كلتاهما في تحقيق الانقلاب والتغيير في نظام الدولة عموماً . . ولكن تختلفان في الآليات والنتائج.
آليات الثورة في الغالب تكون دموية، مما يؤدي إلى الصراعات الفئوية وعدم الاستقرار، لفترة قد تطول أو تقصر، ولكن من شأنها أن تقلب شأن الأمة من حال إلى حال بشكل قسري يدفع ثمنها الأبرياء . . والمهم إن الغالبية العظمى من هذه الثورات الانقلابية، تنتهي إلى نتيجة حتمية، وهي إهمال الديمقراطية والحريات العامة بدعوى الحفاظ على الثورة ومنجزاتها.
ويمكن الإشارة إلى عدد من التجارب الثورية في عالمنا، شرقاً وغرباً، والنتائج التي وصلت لها مما يشكل نموذجاً سلبياً لا يشجع على الاقتداء بآلية الثورة في تحقيق التغيير في عصرنا هذا ... وهناك ثورات تدعي الديمقراطية في السلطة بدعوى ممارستها الانتخابات، بينما هي تمارس أبشع الأدوار الفئوية والإقصائية، التي تصل إلى حد القمع الدموي، لأي رأي أو فئة معارضة أو مخالفة لرؤى واتجاهات وانتماءات أصحاب الثورة . .
أما الإصلاح، وهو وسيلة انقلابية أيضاً، وتحقق التغيير المنشود في المضمون السياسي والوضع السائد، فإن أهم عناصر اختلافه عن الثورة هو، أولاً: إن نتائجه تظهر على مراحل، وفي فترة زمنية طويلة نسبياً . . وثانياً: إنه يتم بالاتفاق ما بين جميع فئات وقطاعات المجتمع، من القمة للقاعدة، ثالثاً: يحقق تحولأ سلمياً هادئاً يحفظ حقوق الوطن والمواطن، من دون تعطيل خطط وبرامج الدولة في مسيرتها التنموية. وأهم مميزات التغيير عبر آليات الإصلاح هو أن نتائجها إيجابية ومضمونة، عندما تتوفر الإرادة الصادقة والنوايا الحسنة بين أطراف المعادلة السياسية، ويتوفر الاتفاق حوله تحت مظلة الوحدة الوطنية، وبوعي سياسي مسؤول يستوعب الوطن بمجمل فئاته وقادر على حماية مصالحه السيادية والتنموية، خارجياً وداخليا.
وكان هذا هو الخيار الذي اتفق عليه الشعب البحريني مع قيادته في مارس 2001 بعد حوار شامل بين رأس السلطة، وكل قطاعات الشعب . . وكانت محصلة هذا الحوار هو الاستفتاء الشعبي الذي أجمع فيه الشعب على جميع بنود ميثاق العمل الوطني، وما تبعه من العمل بالدستور وتعديلاته، والذي فتح آفاق النشاط السياسي والحريات العامة، والممارسات الحقوقية، والآليات الديمقراطية المتمثلة في فصل السلطات الثلاث، وانفتاح الاعلام وحرية التعبير عن الرأي، والمراقبة والمساءلة عبر السلطة التشريعية، والمحاسبة عبر ديوان الرقابة المالية، وتأسيس المحكمة الدستورية للحفاظ على سلامة الدستور والنصوص الدستورية . . وغيرها من المؤسسات والتشريعات.
البحرين أمام تجربتها
إذن ونحن نقيّم تجربتنا اليوم، وقبل الانتقال للعقد الثاني من عمرها، علينا أن نؤكد الثوابت والأسس المعمول بها في بناء ركائز الاستقرار المطلوب لنجاح هذا النوع من تجارب الشعوب والأوطان . . ومن أهم الثوابت هو الاستمرار والتقدم للأمام، وتصحيح الأخطاء التي تبرز خلال المسيرة والانتقال من مرحلة إلى أخرى، بما تم تأسيسه من آليات لضمان نجاح التجربة.
على المستوى الرسمي، فقد نجحت عملية التحول الديمقراطي البحرينية، في مرحلتها الأولى المتمثلة في السنوات المنصرمة، نجحت في تأسيس أهم الآليات المؤسساتية، والقواعد القانونية المطلوبة للمراجعة والمساءلة والتصحيح، وتقدمت هذه العملية في خطوات واسعة على المستوى الرسمي، مما يثبت صدق النوايا والإرادة الملكية في الاستمرار بهذه العملية حتى النهاية على أسس ومعايير ممنهجة ومدروسة.
وفي المقابل، كان على المجتمع المدني القيام بدوره في تأسيس قاعدة ثابتة من المفاهيم والقيم المطلوبة لمواكبة المسيرة بإرادة ونوايا صادقة، بما يفتح آفاق المجتمع في التعرف على هذا التغيير ومتطلبات نجاحه، والمتمثلة في قيم الحرية المسؤولة وثقافة الحوار والمحاسبة من خلال صناديق الانتخاب، بهدف مأسسة واستمرارية التقييم والتصحيح لضمان التقدم بالعملية الديمقراطية للأمام، وليس التراجع للخلف. ومن هذا المنطلق يمكننا تأكيد أن البحرين قطعت شوطاً كبيراً في تجربتها الإصلاحية . . وفي فترة قصيرة نسبيا، حققت الكثير في مسيرة التحول الديمقراطي، بما لا يمكن التغاضي عنه والرجوع للخلف . . قطعت شوطاً عصبيا في الحوار الوطني الشامل، وعاشت أحلى وأنزه تجربة استفتائية شعبية، أجمع فيها الشعب والقيادة حول الاتفاق على انفراج سياسي يفصح عن صدق النوايا والإرادة في نسيان وطي صفحة الماضي . . وخلال عقد من الزمان تم بناء المؤسسات والممارسات والسلطات والحريات . .
فيا ترى، بعد كل هذا، هل يمكن الرجوع للخلف مرة أخرى، والمطالبة بحوار وطني بين ذات الاطراف التي انتهت للتو من الحوار واتفقت على اختيار الإصلاح وسيلة للتغيير؟!. أم على الجميع الالتزام بالاتفاق والسير قدماً للأمام، ومتابعة ما تم البدء به لما فيه من مصلحة وطنية عامة. .؟
دولة المؤسسات والقانون أم الفوضى
إذن ونحن نقترب من نهاية العقد الأول من عمر العملية الإصلاحية .. ومع وقوفنا على أعتاب العقد الثاني منه، وبعد كل ما يشاع حول مطالبات الرجوع للحوار الوطني، والغموض الذي يلف هذه المطالبة في الشكل والمضمون، نرى ضرورة للتذكير أن مجرد الاتفاق على التغيير عبر آلية الإصلاح، وهي مرحلة انتهينا منها، يعني أن هناك مبادئ أساسية ملزمة لطرفي المعادلة السياسية (القيادة والشعب) . . تتلخص في التالي:
أولاً: تأسيس دولة المؤسسات والقانون.
ثانيا: الفصل بين السلطات، وتفعيل عمل المؤسسات الدستورية في حل جميع القضايا الداخلية والخارجية.
ثالثاً: تبني العمل المؤسسي لترسيخ مبادئ وأسس الديمقراطية في المساءلة والمحاسبة وتحقيق مصالح الوطن والمواطن، بما يحقق مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
رابعا: تجنب، بل نبذ، العنف.
خامسا: نشر ثقافة الحرية المسؤولة في كل الممارسات الحوارية والانتخابية.
سادسا: الانفتاح الإعلامي وحرية التعبير عن الرأي.
سابعا: المواطنة والوحدة الوطنية.
هذه المبادئ، التي كانت مطلباً وطنياً ملحاً منذ منتصف القرن الماضي التي تحقق مجملها من خلال العملية الإصلاحية، ومازالت العملية مستمرة، هذه المبادئ، نحن اليوم، قيادة وشعباً، ملزمون بها فكراً وممارسة، لأنها القواعد الأساسية في التحول نحو المملكة الدستورية والديمقراطية المنشودة والكفيلة بالحفاظ على مصالح الوطن، وتحقيق مصالح المواطن، وتصحيح الأخطاء والمشاكل التي من شأنها أن تعرقل أداء المؤسسات والأفراد وتأزيم مصالح الوطن والمواطن، ومن هذه المبادئ الأولية تنبثق وتتشكل الآليات والممارسات السليمة والمطلوبة للاستمرار بتطوير العملية السياسية والتنموية بما يحقق أفضل معدلات الرفاه لكل المواطنين. وفي حال الإخلال بهذه المبادئ والالتزامات، سيبدأ العد التنازلي نحو الفوضى، واستبدال دولة المؤسسات والقانون بدولة الطوائف والعشائر والأحزاب.
ثقافة الانتخاب والحرية المسؤولة
والآن ونحن نمارس حقنا ودورنا في تقييم مرحلة العقد الأول من عمر عملية الإصلاح، الآن يمكننا أن نقول إن أهم سلبيات المبادرة الإصلاحية هو افتقادها الخطاب الإعلامي الذي يعد أحد أهم مستلزمات التواصل الفكري ونشر الثقافات والممارسات المطلوبة في المجتمع الديمقراطي المنشود . . فجاءت المبادرة الإصلاحية من دون خطاب إعلامي يدعمها ويساعد على تنشيط وتعزيز الذاكرة الجماعية حولها، ويعمل على نشر ثقافة الحرية المسؤولة في ممارسة الحوار والانتخاب . . ويمكننا أيضاً تأكيد أن هذا الفراغ الاعلامي والثقافي يعد أحد العوامل الرئيسية التي جعلت مجتمعنا مرهوناً لخطابات أطراف ذات مصالح فئوية وأيديولوجيات سياسية عملت على ملء الفراغ بإعلام وثقافة التطرف والعنف والفئوية، مما خلق بيئة خصبة للتوتر السياسي وافتعال وتصعيد الأزمات وصولا إلى سقف جديد من المطالبات، والدعوة للرجوع إلى البداية من خلال حوار وطني جديد. لذا بات هناك ضرورة قصوى للتذكير بالمبادئ الرئيسية وتأكيد أن المجتمع الرشيد، الذي نطمح إلى تحقيقه، هو المجتمع الذي يعتمد على آلياته المجتمعية ومؤسساته الدستورية في تطوير أوضاعه وتطوير أحواله المعيشية وتصحيح السلوك السياسي وصون مصالحه الوطنية والسيادية والدولية . . والمجتمع لكي يكون رشيداً وقادراً على تحقيق مصالحه عموماً، عليه أن يتحلى بمستوى عال الوعي والمسؤولية . . فبالوعي السياسي والثقافي السليم، يتعرف المواطن على ماهية حقوقه وواجباته، ويتعلّم كيف يمارس دوره في تحقيق مصالحه عبر الأطر والقنوات السليمة، والتي يمكن أن توصله إلى أهدافه من دون أن يعرّض مصالح الوطن والمجتمع للخطر.
في دولة المؤسسات والقانون، التي بدأنا بتأسيس بُناها الأساسية، يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات، ولا مكان لتفضيل مصالح فئة على حساب أخرى، ولا مكان للحوارات الجانبية، ولا دور للزعامات الفئوية، أو لوساطة أفراد وزعامات الطوائف والعشائر لتحقيق مصالح أتباعهم . . ففي دولة المؤسسات والقانون، القانون هو الحُكم والحَكّم . . ولنحافظ على حقوقنا كمواطنين، علينا التمسك بأعلى درجات المسؤولية في حرية المحاسبة والمساءلة، وأعلى درجات الوعي في ممارسة ثقافة الحوار والانتخاب . . فإن كان القانون هو الذي يحمي حقوق المواطن والمجتمع، فعلينا أن نقيّم دورنا في انتخاب ممثلينا في السلطة التشريعية، لإيصال الأمينين على حقوقنا إلى قبة البرلمان و عموم المجالس المنتخبة . . وبذلك تقع المسؤولية الأولى في صياغة وبناء منظومتنا القانونية التي تلبي طموحاتنا ومصالحنا، على الناخبين وصناديق الاقتراع . . وعندما نجيد ثقافة الانتخاب، وفهم قيمة الصوت الانتخابي لكل فرد في المجتمع، حينها نكون قد وصلنا إلى مراتب فكرية وثقافية قادرة على إدارة شئوننا ومصالحنا . . وما دون ذلك فإننا نعمل على إيصال ممثلين غير قادرين على تحقيق مصالح المجتمع إلى كرسي البرلمان، ونكون قد أسأنا إلى أنفسنا بقدر إساءتنا إلى الوطن والمجتمع بأكمله . . إذن، ومنذ أن اجمعنا على ميثاق العمل الوطني، واتفقنا على هذه المرجعية المؤسسة للوحدة الوطنية والتغيير السياسي، ووافقنا على أن نمارس دورنا بالمشاركة الشعبية في صنع القرار عبر المؤسسات الدستورية، فإننا نكون قد دخلنا في مرحلة سياسية لا يمكن التراجع عنها أو الانتقاص منها، أو تحريفها لصالح أطراف أو فئات على حساب مصلحة الوطن والمجتمع بأكمله . . ومع التحريف والانتهاك الأول لمبادئ هذا الميثاق ستتتالى كرات السبحة، وسينفتح الباب على مصراعيه للمزيد من الانتهاكات والمطالبات الفئوية، وغير الدستورية . . ونختم بسؤال يجب أن يبقى أمامنا ونحن نمارس حقوقنا السياسية والمواطنية في مسيرة لن تكون قصيرة، وصولاً لبناء مملكتنا الدستورية، ومؤسساتنا الديمقراطية، التي هي بحاجة إلى درجات متطورة من الوعي السياسي والاتفاق على ثقافة الوطن أولاً . . والسؤال يقول: ياترى هل يطمح الشعب البحريني للعيش في دولة المؤسسات والقانون، أم في دولة الطوائف والعشائر؟؟.