تكافؤ الفرص ومعيار الوطنية أمام الطائفية..

كشفت الأزمة الأخيرة في البحرين عن خطر الثقافة الطائفية وصورتها البشعة، بل كل أخطارها التي تنخر في الوطن وأجهزنه ومؤسساته وكوادره المثقفة (وليس فقط البسطاء من الناس)، حتى باتت الطائفية خطراً يوازي خطر الإختراق الاستخباراتي الأجنبي الذي يستهدف مؤسسات الدولة بأكملها.
إن أسوأ ما في الطائفية الجديدة في البحرين هو تفشيها في العلاقات الاجتماعية، وأخطر ما فيها هو أنها باتت جزءاً أصيلاً من العمل السياسي وثوابت المعارضة، حتى صارت (الطائفية) من أخطر الأدوات السياسية التي تهدد الأمة بالمزيد من التفتيت الجغرافي والسياسي.. وخطر الطائفية المذهبية والدينية يكمن في أنها كالسم الساري في العقول والقلوب ليظهر في الأداء والسلوك وبهذا المستوى نجحت الطائفية في البحرين حتى أزاحت كل القيم والمعايير الوطنية لتحل محلها الفزعة المذهبية المزيفة والاقتتال الطائفي المدمر.


نعم، هذا هو حال المجتمع البحريني بعد أزمة فبراير مارس ۲۰۱۱، مع تأكيد أمرين هامين، الأول : أن هذه الحالة البحرينية ليست وليدة الأزمة الأخيرة ولا من داخل النسيج البحريني الأصيل ؛ وثانيا : أن كل ما يقال عن الطائفية المذهبية وجذورها القديمة المستنبتة في البحرين ما هو إلا افتراء يُراد به تأجيج الطوائف وشحذ الأحقاد بين أبناء الشعب البحريني الواحد وصولاً إلى إضعاف بُني الدولة وسقوطها في نظام المحاصصة الطائفية.
فليس للبحرين تاريخ سياسي أو اجتماعي طائفي قبل ثمانينيات القرن الماضي، أما ما بثه البريطانيون من حالة طائفية أيام الاستعمار فقد تنبه أهل البحرين إلى ذلك في ذلك العصر الذي اتسم بالتخلف وتدني مستويات التعليم والمعرفة، كما اتسم بالبساطة وبالوحدة الوطنية في مواجهة المستعمر، فكان البحرينيون بتعدد أديانهم ومذاهبهم وأصولهم شعباً متجانساً مما جعل اكتشافهم لذلك المخطط الاستعماري القبيح سهلاً..
أما الحالة الطائفية التي يعيشها البحرينيون خلال العقود الثلاثة الأخيرة فما هي غطاء للشعوبية الفارسية ضد العرب والعروبة استعرت نارها منذ أن نجح نظام الملالي الإيراني في مشروع الاستيطان الثقافي ببلادنا وتمكنوا من غزو عقول أبنائنا الصغار حتى صاروا قنابل طائفية موقوتة يصعب التفاهم أو الحوار معهم.. هي الحرب الشعوبية الفارسية ضد الأمة العربية، ممتدة جذورها في عمق التاريخ العربي والخلافة الإسلامية.. ونكتفي هنا بالإشارة إليها والدعوة إلى الرجوع إلى أمهات الكتب للتعرف عليها.
ولكن أخطر ما في هذا الأمر المقيت هو سقوط بعض المثقفين وكوادر الدولة (من الطائفتين) خلال الأزمة الأخيرة في مستنقع الطائفية، في سلوك لا تفسير إلا أنه خيانة للأمانة الوطنية من جهة، وانتهازية سياسية من جهة أخرى.. وأمانتنا الوطنية تحتم علينا عدم نشر عن تلك المواقف والفضائح الطائفية الخطيرة على صفحات الجرائد، ولكننا نتلمس في كتاباتنا هذه أن تلفت الانتباه إلى مدى الخطر الذي يهدد كيان الدولة عندما تكون البراجماتية الانتهازية ثقافة سائدة وطاغية على كل القيم الوطنية والمبادئ الأخلاقية، وعندما تختفي المعايير الوطنية من سلة تكافؤ الفرص، ويعلو الانتهازيون إلى مناصب إدارة مؤسسات الدولة ويقصي الوطنيون من الشأن العام برمته.
والسؤال الذي نكرره دائماً في ظل انتشار الأخطار في شوارعنا وبيوتنا ومؤسساتنا ومدارسنا، هو كيف ولماذا حدث ما حدث ؟.. ومن أجل الوصول إلى الإجابة عن هذا التساؤل سنحفر الأذهان ونسلط الأضواء على الأخطاء التي ينسبها كل طرف إلى الطرف الآخر.
أحداث تمر علينا، وظواهر غريبة نعيشها، ومشاريع تنموية تفشل، وتبقى مجتمعاتنا قابعة في قائمة التخلف، وكثيرا ما نتساءل يا ترى كيف ولماذا ؟. .
نرى الأخطاء، ونشخص كل مظاهر الخلاف والتخلف بوضوح شديد، ولكن تبقى الحلول مستعصية علينا، نتساءل كيف ولماذا ؟. .
لماذا مشاكلنا المعيشية تزيد ولا تنقص ؟.. لماذا تواجهنا الصعوبات في كل مشاريعنا الحضارية. . رغم ارتفاع نسبة المتعلمين وحملة الشهادات العليا، في جميع التخصصات، ورغم ما تزخر به بلداننا من تشريعات عصرية تغطي كل مجالات الحياة ومتطلبات المجتمع ؟ !. .
يا ترى ما الذي يستنزف مواردنا ويشل عقولنا ويحيّد تشريعاتنا ليستمر التخلف في بلادنا وتستشري المشاكل في مجتمعاتنا وترفع معدلات الإحباط واليأس بين شعوبنا حتى بات الأمل في التغيير متدنيا إن لم يكن معدوما؟
صديق أجنبي أجاب عن هذه التساؤلات ببساطة شديدة قائلاً: "إن العلة ببساطة تكمن في سياساتكم الغريبة، وفي إصراركم الشديد على وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب على عكس الحكمة العربية المعروفة بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب"، إذن هي علة المعرفة والكفاءة والقدرة والإخلاص، عندما نفقدها نخسر التقدم والنجاح ويكون الفشل والتخلف والفساد الدائم مصيرنا، ونفقد الحصانة المطلوبة أمام آفة الطائفية وغيرها من التدخلات الخارجية في شئوننا الداخلية.
الدكتور غازي إبراهيم رحو، كاتب عراقي، كتب مقالاً يفسر هذه الحالة بقصة تاريخية حدثت في جمهورية يوغسلافيا في القرن الماضي، قبل أن تتفتت إلى دويلات طائفية ضعيفة، فارتأيت نشر المقال هنا لربما تتفتح الأذهان والأبصار، ولأبعث برسالة، لعل وعسى، تعلق الجرس قبل سقوط بلادنا في المصير الذي وصلت إليه تلك الجمهورية المسكينة..
يقول د. رحو إن "الرئيس اليوغسلافي الراحل تيتو قيل له من قبل رجال مخابراته إن هنالك احد الوزراء المهمين في الدولة اليوغسلافية تحوم حوله الشكوك في انه يعمل في تخريب الدولة اليوغسلافية لأنه مرتبط بالغربال يعمل جاسوساً للغرب، ولكن الأجهزة الأمنية ليس لديها أي إثبات ضده، ولكنهم متأكدون من عمالته وخيانته للوطن من دون وجود إثبات. . وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الرئيس تيتو أكد على الأجهزة الأمنية ضرورة مراقبة ومتابعة ذلك الوزير وإعلامه بالنتائج.. وبالرغم من كل تلك المراقبات والمتابعات فإنه لم يتم تثبيت أي شيء يشير إلى أن الوزير المعني هذا يعمل لصالح الغرب!! فما كان من الرئيس تيتو إلا أن طلبه للمقابلة وجلس معه وفتح الحديث حول تلك الشكوك، وأخبره أنه سيعطيه الأمان والسلام والمحافظة عليه إذا اعترف كيف وأين وماذا يفعل لتخريب الدولة اليوغسلافية وسيكون في مأمن من أي عقوبة إن اعترف بذلك؟! وبعد أن وثق الوزير أن الرئيس تيتو صادق فيما يقول أجابه بكل بساطة (أنا لا أعطي معلومات ولا أتجسس على الدولة ولا أي شيء من هذا القبيل، ولكن فقط أقوم بوضع الشخص المناسب في أماكن غير مناسبة لكل منهم في المناصب المهمة!! وهذا سيؤدي بالضرورة إلى عدم قيام الشخص المناسب الذي وضعته في مكان غير مناسب بأعماله بصورة صحيحة بل العكس، سيدمر تلك المؤسسة أو الهيئة، وبذلك أكون قد خدمت الغرب في تدمير الدولة اليوغسلافية، وأشعت حالة عدم رضى من الشعب الذي سيحمل الدولة ومؤسساتها المسؤولية وستسقط الدولة بعدها)!!".
لربما تؤكد هذه الرواية النظرية القائلة أن ليست هناك ظواهر بدون أسباب. . وبمقارنة الظواهر التي نعيشها في بلادنا خلال السنوات الأخيرة بهذه القصة المعبرة لربما نصل إلى اقناعات تنقذ مستقبلنا. . فمازال الطائفيون والانتهازيون متربعين في مواقعهم، بل صارت ازدواجية أدوارهم مفضوحة بعد الأزمة الأخيرة في قصص حية تثبت صحة الرواية اليوغسلافية في بلادنا.
ليحمي الله البحرين من كل شر.


كلمات دالة: