التاريخ يعيد نفسه...

يذكر المفكر العربي الدكتور رغيد الصلح في كتابه المرجعي المهم «حربا بريطانيا والعراق/ 1941-1991»، ان «النظام الدولي سعى دائماً لخلق قوة توازن مُدَبَّر في المنطقة العربية، وإن قوة التوازن، عندما تَستَولِد وضعاً راهناً، أو تُدبِر توازناً جديداً» تستفيد من عنصرين، وهما: 1- «تناقضات مناطقية ودينية ومذهبية وقبلية وسلالية موجودة في المنطقة ومتجذرة فيها، كما هي موجودة ومتأصلة في المجتمعات البشرية الأخرى...»، 2- «البيروقراطيات الحاكمة التي تنشأ في أحضان الدول الجديدة....» (بيروت 1994).

مع هذه المقدمة سأبدأ بتسليط الضوء على بعض من أحداث التاريخ الحديث الذي يعيد نفسه في منطقتنا العربية لتفسير بعض من الظواهر الجديدة التي «تَستَولد وضعاً راهناً وتُدبِر توازناً جديداً» بالمنطقة، لذات الأهداف القديمة وبذات الفكر القديم ولكن بوسائل وأدوات جديدة، وبحجم مضاعف من التدمير والدماء والضحايا.

في النصف الأول من القرن العشرين عاشت المنطقة العربية وشعبها ظروف حربين عالميتين مدمرتين (الجيل الأول من الحروب) تشبه كثيراً في أحداثها ودمويتها وخدعها ظروف الحرب التي تعيشها المنطقة منذ بداية القرن الواحد والعشرين مع اختلاف المسميات والواجهات والأدوات (الجيل الرابع من الحروب).
بدأت الحرب الأولى في 28 يوليو 1914، واقتنع العالم حينها بأنها كانت نتيجة أزمة دبلوماسية وقعت على إثر قيام طالب صربي يدعى «غافريلو برينسيب» باغتيال ولي عهد النمسا وزوجته في 28 يونيو 1914 أثناء زياتهما لسراييفو عاصمة صربيا.
ورغم أن الحرب كانت بين دول أوروبية بعيدة عن منطقتنا العربية فإنه في نوفمبر 1914 نزلت القوات البريطانية في البصرة (احتلال)، وفُرِض على العراق حكم إداري لتصبح مركز السيطرة للعمليات الحربية في المنطقة العربية. وهي عملية تشبه تماماً احتلال العراق في عام 2003 بعد إعلان الحرب على الإرهاب بسبب التفجيرين الإرهابيين لبرجي نيويورك في 2001.
ولأن الهدف من الحرب كان إسقاط الدولة العثمانية التي وصلت في غزوها إلى شمال أوروبا، يمكن القول إن هذه الحرب فُرضت على العرب بالإكراه، ولكن بدبلوماسية شديدة، حيث أقنعت الدولة البريطانية، في بداية الحرب، الزعماء العرب بالتحالف معها بوعد حصول بلدانهم على الاستقلال من الدولة العثمانية في نهايتها... و«ببراءة الأطفال» اقتنع العرب بالكذبة ودخلوا الحرب كحلفاء مع الدول الأوروبية التي كانت تملك خططا واتفاقيات غير معلنة.
أُعلن انتهاء الحرب في نوفمبر 1918، وكان أحد أهم الأسباب وراء ذلك هو نجاح الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وبزوغ النظام الاشتراكي (الشيوعي)، الذي كان انذاراً بصعود قوة جديدة تشكل تهديداً لموازين القوى الدولية السائدة حينها؛ وانتهت تلك الحرب بنتائج مدمرة.
على المستوى البشري سقط ما يزيد على 9 ملايين قتيل، ومعدلات أعلى جداً من الإصابات؛ أما على المستوى السياسي فأدت الحرب إلى نتائج خطيرة جداً، من أهمها: أ- سقوط ثلاث إمبراطوريات، الألمانية والروسية والنمساوية، إضافة إلى الدولة العثمانية، ب- صعود نظام دولي قائم على تحالفات دولية وانتشار القوى الكبرى في جميع أنحاء العالم عملا على تغييرات سياسية كبرى، ج- تشكيل عصبة الأمم بهدف منع تكرار مثل هذه الحروب.
ومع انتهاء الحرب تمكنت الدول المنتصرة من إرساء نظام دولي يتمثل في سيادة دول المركز «المتقدمة» (أوروبا) على دول الأطراف «المتخلفة» التي صارت تدور في فلكها (دول العالم الثالث)، وهو نظام يعتمد على «التوسع الاستعماري»، الذي تبين انه كان هو الهدف الحقيقي لنشوب تلك الحرب المدمرة، بعيداً عن ادعاءات الأزمة الدبلوماسية المزعومة.
أما المنطقة العربية، بكل ثرواتها وأهميتها الجيوسياسية، فكانت الجائزة الكبرى التي توزعت على المنتصرين في الحرب العالمية الأولى... فتحول العرب من حلفاء إلى تابعين مصنفين في نهاية قائمة الدول الأطراف، بعد أن قسمتهم اتفاقية سايكس بيكو إلى أجزاء صغيرة ومتصارعة مع بعضها البعض، ليبدأ عصر جديد من الهيمنة.
اتفاقية سايكس بيكو كانت وثيقة تفاهم سرية بدأ التفاوض عليها بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية في عام 1914، وتم توقيعها عام 1916، أي قبل انتهاء الحرب. وتحدد الاتفاقية اقتسام مناطق النفوذ في المنطقة العربية، بعد سقوط الدولة العثمانية.
مع بداية الحرب كانت هذه الاتفاقية سرية، وكشفتها الحكومة الشيوعية في روسيا التي نجحت في الوصول إلى سدة الحكم بعد اسقاط الإمبراطورية الروسية عام 1917، فأثارت ردة فعل العرب، إلا أنهم لم يتراجعوا عن تحالفهم مع بريطانيا وفرنسا في الحرب، مقتنعين بأن حلفاءهم سيوفون بوعد الاستقلال.
وكالعادة لم يبالِ المنتصرون بأمر غير مصالحهم، ونجح النظام الدولي في تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو بتدبير قوة توازن جديدة في المنطقة، ونجحت استراتيجيات الاتفاقية في استنهاض «تناقضات مناطقية ودينية وعرقية وقبائلية وسلالية» أدخلت البلاد العربية في إرهاصات كبرى لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا... ونجحت تلك الاتفاقية أيضاً في خلق «بيروقراطيات حاكمة في أحضان الدول الجديدة».
فكانت أخطر نتائج تلك الحرب العالمية على العرب:
1- تقسيم المنطقة العربية الى دول متفرقة تحمل بذور الخلافات في أحشائها.
2- توزيع الدول العربية المقسمة على القوى المنتصرة في الحرب ما بين استعمار وانتداب وحماية.
3- إهداء أجزاء من الأرض العربية لدول إقليمية مجاورة، لمراضاتها والتحالف معها لاحقاً لتكون شرطة المنطقة بهدف صدّ التمدد الشيوعي، على حساب العرب.
ومع حلول عام 1925 كانت للمنطقة العربية خريطة جديدة، وواقع جديد وخطير. ونجحت استراتيجيات سايكس بيكو فيما بعد حتى في مسح الذاكرة القديمة من ثقافة الشعب العربي ومناهجه التعليمية، فتعاقبت الأجيال العربية وهي لا تعرف كنه تلك التغييرات وأسبابها وضحاياها ومضاعفاتها الخطيرة على مستقبل المنطقة وأبنائها. لا بل عملت تلك الاستراتيجيات طوال القرن العشرين على إعداد الأجيال العربية لقبول مشاريع جديدة أخطر من الاتفاقية المشؤومة، تحت مسميات وشعارات جديدة.
تعدّ سايكس بيكو اتفاقية القرن العشرين التي حققت أكثر مما يُدعى بالنجاح، جغرافياً وسياسياً وثقافياً... فقد حققت نجاحاً منقطع النظير. ولهذا النجاح أسباب كثيرة، ولكن أهمها هو الفكر الاستراتيجي الطويل المدى الذي رُسمت به الاتفاقية وتفاصيل تنفيذها التي بدأت مع تلك الحرب المدمرة واستمرت عملياتها، من دون توقف، رغم تعاقب الحكومات واختلاف الأحزاب الحاكمة في البلدان المخططة والمنفذة... بلدان السيدين مارك سايكس وفرانسوا بيكو. وما يقابل هذا الفكر الاستراتيجي من قصور فكري مستفحل في الواقع العربي... فنجح النظام الدولي في استنهاض أنواع من التناقضات الطائفية والقبلية والعشائرية والإثنية في المجتمع العربي وخلق بها «قوة توازن مُدبّر» في ظل الدول التي نشأت بموجب الاتفاقية.
إن هذا الموجز التاريخي، الذي بات مهمّاً التذكير به في الظروف الراهنة التي تمر بها منطقتنا العربية، إنما هدفه: المقارنة بين تلك الحرب في بداية القرن الماضي (20)، الجيل الأول من الحروب، والتي تم التخطيط لها مسبقاً، والحرب الجديدة التي تعيشها المنطقة منذ بداية القرن الجديد (21)، الجيل الرابع من الحروب، والحربين بدأئتا باحتلال العراق، وتم التخطيط لهما مسبقاً...
والمقارنة بين كل الذرائع الكاذبة لنشوب الحرب الأولى (الأزمة الدبلوماسية)، والاسباب البالية التي تقف وراء الحرب الحالية (إسقاط الدكتاتوريات ونشر الديمقراطية)، والتي من أجلها يتم تدمير وتفكيك دولنا وإسقاطها واحدة تلو الأخرى...
والمقارنة بين مشروع سايكس بيكو وبين مشروع الشرق الأوسط الجديد، حيث الاول قسّم الوطن العربي الواحد إلى دول متنازعة، والثاني يعمل على تفكيك الدول المقسمة إلى دويلات متصارعة.
وفي هذا يقول الدكتور عبدالمنعم سعيد إن «من يظنون أن عملية التفكيك للدول العربية قد توقفت عند الدول التي جرى تفكيكها واهمون. لقد انطلق «الفيروس» في المنطقة، وأمامه لا توجد مناعة دائمة، اللهم من وقت قد يعطي فرصة للمواجهة، ولكنه لا يجعل الانتصار حتمياً. الانتصار لا يكون إلا إذا جرى التخطيط له، وقام على استراتيجية شاملة تحشد وتعبئ وتتجه نحو تحقيق أهدافها بشجاعة» (مقال «كيف يعود النظام الإقليمي»، الشرق الأوسط 23/6/2015...، www.rcssmideast.org).
ويذكر الدكتور عبدالمنعم (رئيس مجلس إدارة ومدير المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية) في بداية مقاله المهم ان هناك «ثلاث مهام لكي تقوم الأحوال في الشرق الأوسط على قدر من الاستقرار: استعادة الدولة، استعادة الدين، واستعادة النظام الإقليمي»، وإني إذ اعيد هنا بعض مما جاء في ذلك المقال فإنه تعبير عن اتفاقي التام مع هذا الرأي والتحليل القيّم الذي استخلصه الدكتور عبدالمنعم من موقعه البحثي المهم ومعاصرته القريبة جداً لأحداث المنطقة، وقد لخّص بإيجاز شديد سبل إيقاف السيل الجارف والدامي الذي يجتاح دولنا ضمن مشاريع دولية لا ناقة لنا فيها ولا بعير.


كلمات دالة: