الفراغ العلمي والمعرفي والتغيير الجيوسياسي

يذكر الدكتور سعيد شبار، أستاذ الفكر الإسلامي وتاريخ الأديان في جامعة المولى سليمان في المغرب أن «التوقف عن إنتاج العلم والفكر والمعرفة في عالمنا العربي الإسلامي، هو إعلان وفاة حضارية للذات، وهو ما يستدعي استئناف النظر من جديد قصد الإحياء»!

وفي مكان آخر يشرح المفكر رأيه هذا قائلاً «أعتقد أن... هذه المعادلة سليمة، وهي أن التوقف عن الإنتاج العلمي والمعرفي لا يعني شيئاً غير إعلان الوفاة الحضارية، ولك أن تقارن بين عالمية الإسلام الأولى في إنجازها العلمي والحضاري والمعرفي والفلسفي، حين كانت تقود العالم، وحين كانت لغتها العربية هي لغة العلم العالمي، لا بدَّ من تعلمها لطالب العلوم والمعارف الدقيقة، وبين عالمهم اليوم من التبعية والانسحاب من عالم الإسهام الحضاري والاكتفاء بالنسخ والتقليد بدلاً من الإبداع والتجديد، وبالاستعارة والنقل للناجز والجاهز في عالم الأفكار كما في عالم الأشياء، بدلاً من الاجتهاد في توليد وبناء الحاجات الضرورية للحياة على الأقل». مستشهداً بمقولة فيلسوف الحضارة مالك بن نبي في مقولته المشهورة «الأمة التي لا تلد منتجاتها ليست بأمة»!.
وإن كان حديث المفكر العربي سعيد شبار يدور في فلك نقد قضايا الفلاسفة والدينيين والأدوار التاريخية المتوترة التي حكمت علاقة الاثنين بوجودهما السليم في الحياة الفكرية العربية عموماً، إلا أنه، من مداخل علمية، يصف الحالة الجوهرية التي تمر بها الأمة العربية اليوم نتيجة تراكمات تلك العلاقة التي تم استثمارها جيداً لإنتاج حالة الفراغ العلمي والبحثي والفكري التي يعيشها العرب في عصرنا الحاضر، وتداعيات هذا الفراغ المتمثلة في السقوط الحضاري وتكالب الأمم «الغالبة والشرسة» على الوجود العربي عموماً... كما يصر المفكر بشكل أساسي على ما وصل إليه حال العرب اليوم من تدنٍ مؤلم في الفكر وأدواته ومنهجيته، على جميع المستويات بأنه مثال قد يتحول قريباً إلى مادة يتم تدريسها في مناهج التاريخ بما يمثله من نموذج صارخ في شأن السقوط الحضاري الناتج عن التخلف العلمي والتعليمي والمعرفي.
يتفق العرب عموماً على أن الحالة التي تعيشها الأمة حالياً هي الأسوأ عبر تاريخها المديد... ولا يختلف أي مفكر على الرؤية التي تناولها الدكتور شبار، وعلى أن هذا الوضع لم يبدأ اليوم، وإنما كانت هناك مراحل طويلة قبل بلوغه ونضجه بالسوء الذي هو عليه اليوم... وكانت البداية هناك عبر استراتيجيات محكمة بدأت بتفريغ العقل العربي من قيم المعرفة عبر سياسات تعليمية جوفاء، حتى بات عاجزا عن رؤية تطورات العصر والتحولات الجارية على قواعد وأعراف اللعبة الدولية التي رسمتها الأمم «الغالبة» لتبقى غالبة أبدا.
هذا الفراغ الفكري خلق أجيالا عربية على درجة من الضعف المعرفي حتى في القيم والثوابت والمبادئ الفكرية الأساسية التي لا تغيب عن أي مجتمع، ففقدوا القدرة على إدراك واستيعاب أصول المتغيرات الدولية وأسبابها، لذلك غاب على الجميع ضرورات الإعداد والاستعداد لما هو قادم لا محالة.
في علوم السياسة -سواء الأكاديمية أو الثقافية- هناك مبادئ معروفة بالسياسات الدولية التي تتحكم في تشكيل وإدارة النظام الدولي. وكما هو معروف في أبجديات تلك العلوم أن النظام الدولي يتغير بعد انتهاء كل حرب كونية، أو بعد سقوط قطب من أقطابه. وبعد حربين عالميتين وحشيتين كان واضحاً كل التغييرات والمتغيرات التي يتم رسمها بواسطة المنتصرين والأقوياء لإخضاع باقي العالم لسيطرتها.. رغم اختلاف النماذج في كل حالة.
بعد الحرب الأولى تشكّل النظام الدولي الاستعماري بخطوطه الواضحة، وأصبح المستعمِر محور العالم لتدور في فلكه باقي الدول العالم المستعمَرة.
وبعد الحرب الكونية الثانية فقد رسمت قنابل الدمار الشامل النووية والهيدروجينية الأمريكية، على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان، خطوط عصر ما بعد الحرب... فتشكل نظام دولي جديد يديره أعضاء النادي النووي في العالم، منقسمين في معسكرين متصارعين يبحثان عن حلفاء ومناطق نفوذ، فكان هذا التوازن الدولي صمام أمان يحفظ حقوق المغلوبين شيئاً ما.
حينذاك تيقنت مختلف الأمم بأنها بحاجة إلى بناء الذات، بدءاً بالإنسان على قاعدة متينة من التعليم والفكر والمعرفة، لتحصين نفسها في مواجهة التوقعات المستقبلية... فظهرت على سبيل المثال القوى الأسيوية الصاعدة بعد سنوات من العمل الجاد، من كوريا حتى الهند، وبينهما اليابان والصين وسنغافورة وماليزيا وغيرها، كشاهد على دور العلم والتعليم في بناء الإنسان، وكنموذج على قدرات هذا الإنسان على بناء الأوطان. فكان التعليم أول الأولويات خلال القرن العشرين لبناء بلدان مدمرة بشراً وحجراً في الشرق الأدنى والجنوب الآسيوي.
لا بل شمل هذا التحدي شعوب دول أخرى طحنتها الحروب سنوات طويلة، مثل فيتنام، تلك الدولة الصغيرة التي خاضت حرب وحشية فُرضت عليها (1955-1975)، وقاومت كل سياسات الهيمنة والتفتيت، مستفيدة من أهم أدوات ذلك العصر ونظامه الدولي، وهو وجود القطب الآخر... فانتصرت، وانتقلت إلى حرب بناء الإنسان ومواجهة تحدي البناء... فتحولت إلى «أمة تلد منتجاتها»، على خطى نمور آسيا.
كان القرن العشرين زاخراً بمختلف النماذج السياسية والتنموية التاريخية التي يجب أن تُدرّس في المعاهد والجامعات لمعرفة عظمة الإنسان وقدراته في البناء عندما يملك ناصية العلم والمعرفة، في حين كانت مسيرة التعليم في المنطقة العربية تتجه نحو الانحدار السريع، وتدمير ما تبقى من الكيان العلمي والمعرفي الذي وضع بعض الرواد العرب الأولين قواعده في العصور السابقة.
وفي منظومة دولنا الخليجية العربية، وفي ظل نظام العالم ما بعد الحرب الكونية الثانية، لم يكن بناء الإنسان فكراً ومعرفةً يتصدر الأولويات السياسية، رغم انتشار التعليم والتعليم العالي، فوقع القادة والحكومات ضحية الاستغلال الفكري، ووقعت شعوبنا ضحية الغزو الثقافي الموجه من خارج الحدود... وكانت النتيجة هي دمار معرفي، أنتج جيلا غير قابل، وغير قادر على الحوار، أو استيعاب المنطق اللغوي في التفكير... جيل يسهل اختراقه وتجنيده في أية عملية من شأنها «خيانة الوطن».
لذلك، لم يستوعب العرب حجم أخطار سقوط القطب السوفييتي عند هدم جدار برلين عام 1989,.. ولم يستوعبوا خلال ربع قرن مؤشرات انطلاق مشروع التغيير الجيوسياسي المدمر، الذي بدأ منذ ذلك التاريخ في نسج شبكات من الأحقاد الطائفية والأثنية، والحقوقية، في بلداننا، كما بدأ العمل على صناعة قيادات من العقول الصغيرة المهمشة الفارغة علمياً ومعرفياً من أبنائنا ليكونوا وقود حرب طويلة الأمد، سُمّيَت من قِبَل صانعيها بالجيل الرابع من الحروب لتمييزها عما سبقها.
وإن كان هناك ضرورة لجلد الذات أحياناً بهدف رفع درجة اليقظة، إن وُجدت، فإنه لا بد أن نعترف بأن المشهد العربي الذي نعيشه، في الدول المتساقطة تلو الأخرى، وشلالات الدم التي لم تتوقف منذ ربع قرن، وملايين القتلى واللاجئين الفارين طلباً للنجاة من جحيم الاقتتال، والألوف المؤلفة من المنخرطين في القتال ما بين مدافع عن نفسه وعرضه أمام جيوش ومليشيات احتلالية شرسة ومتوحشة أو في مشاريع الحروب غير المتماثلة عبر ما يدعى بالإرهاب تارة والحروب المذهبية تارة أخرى، هذا المشهد القاتم ما كان يمكن أن نعيشه لو لم يتوقف إنتاج العلم والفكر والمعرفة.
إنه ذلك الفراغ الفكري والمعرفي والعلمي الخطير الذي لم يسعفنا لنعرف بأن السياسات الدولية (المؤامرات) هي لعبة الدول المتقدمة «الغالبة»، وهذه الدول تخطط لإبقاء الدول «المغلوبة» لقمة سائغة وسهلة البلع، لذلك لم تستقر منطقتنا العربية منذ ذلك اليوم، ولا نزال ندفع الأثمان الباهظة لتلك السياسات التعليمية الهابطة... حتى باتت عقولنا الفارغة، أو المُفرّغَة، لا تفهم بأنها لا تفهم، والبعض يعتقد جاداً بأنه يفهم إلى درجة التعالي على المعرفة.