الحرب القادمة

مقدمة...
«إن منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو المزيد من الفوضى، والحروب بالوكالة، والحرب المباشرة»، كان هذا طرح أكاديمي أوروبي متخصص في العلاقات الدولية، أثناء نقاش دار بيننا، في منتصف مايو 2017، حول الحالة التي تمر بها منطقتنا... لم يفاجئني رأيه، إذ إنه أحد أقرب السيناريوهات المتوقعة في الحال العربي-الدولي الراهن يؤكد العديد من المراقبين الاستراتيجيين، المتخصصين في الدراسات المستقبلية، أن المؤشرات التي بدأت تتراكم خلال الفترة القصيرة الماضية تشبه كثيراً ما مرّ به العالم قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية. ورغم سيادة الاعتقاد بأن الدول النووية لا يمكن أن تدخل في مواجهة عسكرية جديدة، خوفاً من استخدام القوة المدمرة التي لم تكن متوافرة في الحربين العالميتين السابقتين، فإن هناك ارتفاعا ملحوظا في مؤشرات قيام حرب عسكرية، مباشرة أو بالوكالة، بين أقطاب كبرى، قد لا تصل إلى حد المواجهة النووية، ولكن لا يُستبعد استخدام هذا السلاح التدميري الشامل الذي استخدمه الجيش الأمريكي ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية، كما استخدَمَ أنواعا تكتيكية منه ضد العراق في حربي 1991 و2003.

وإشارة إلى السلاح النووي، فمن المعروف أن هناك أنواعا حديثة وتكتيكية تتناسب مع مختلف أنواع الحروب... وقد يكون الرادع أمام استخدامه اليوم هو تساوي الأقطاب في امتلاكهم للقوة على خلاف الحروب السابقة، أي الخوف من الاستخدام المتبادل للسلاح النووي، إلا إذا قامت الحرب على أراض بعيدة عن حدودهم.
ولكي لا نقع في فخ التفسيرات الخطية والخشبية لهذه التنبؤات المستقبلية، نُذكّر بتصريح السيد «هارولد جيمس»، المؤرخ في جامعة برينستون الأمريكية، لتلفزيون سكاي نيوز في فبراير 2017، الذي قال فيه «إن الأيام القادمة ربما تشهد اندلاع حرب عالمية جديدة... وإن الفترة التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت مليئة بالاضطرابات والانقسامات مثل الآن..». وأشار الى أن انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيخلقان حالة كبيرة من الفوضى.
ما يهمنا هنا هو معرفة أين تقف دولنا وشعوبنا من هذه التطورات الجديدة والصراعات المتصاعدة، التي انتقلت إلى مرحلة متقدمة في مشروع إعادة بناء النظام الدولي الجديد؟!!. وخصوصاً أن الأحداث التي تتالت على المنطقة منذ سقوط جدار برلين، ونجحت في نشر الفوضى والإرهاب، وهز أركان النظام العربي الرسمي، قد أثبتت مدى القصور الذي تعاني منه بلداننا في مجال الدراسات المستقبلية، التي من شأنها التنوير بسيناريوهات تطورات الأوضاع في إقليمنا الساخن.
من منظور العلوم والنظريات السياسية التي تولي اهتماماً متساوياً لأسوأ السيناريوهات وأحسنها، وبعد أن أكدت لنا أحداث ما بعد الحرب الباردة أن منطقتنا العربية، ذات الموارد النفطية والجيوستراتيجية المهمة، هي المنطقة الأهم في الصراع الدائر، نتساءل: يا ترى ماذا سيكون حال المنطقة؟ وأين سيكون موقعها وموقفها في خريطة الأحداث والحروب القادمة؟!!، سواء كانت حرباً عسكرية مباشرة، أو حرباً باردة جديدة بين الشرق والغرب، دموية طويلة المدى، تُدعى حرباً بالوكالة في القاموس السياسي الجديد؟؟.
تأتي تساؤلاتنا في سياق ظروف دولية قاسية ومعقدة، وفي ظل متغيرات كبرى بمعايير العلاقات الدولية الجديدة، وبدء نشوء نظام اقتصادي دولي جديد، وتزايد مؤشرات انهيار منظومات الاقتصاد والتكتلات والتحالفات القديمة، بما يتناسب مع العصر الجديد.
أهم مبادئ العلاقات الدولية...
في هذه المرحلة المتقدمة من الصراع الدولي وبعد أن كشفت الدول الكبرى عن مواقعها في مواجهة بعضها بعضاً، في عالم جديد يتعامل بمنطق القوة، ولا اعتبار فيه للضعيف، من المهم أن نتذكر أهم المبادئ المعتمدة في العلاقات الدولية عموماً...
أولاً: إن واقع العلاقات الدولية غير ثابت، بل هو متغير، ويرتكز على منطق القوة والتنافس على المصالح، مما يدعو الأطراف المتحكمة في هذه العلاقات إلى امتلاك القوة والنفوذ باستمرار. وهذا هو التعريف السياسي لمقولات الساسة الأمريكان: «لا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل المصالح هي الدائمة»... فهذا المنطق اللاأخلاقي المتوحش هو الذي يجب أن تعمل له بلداننا ألف حساب.
ثانياً: إن الأطراف الفاعلة في العلاقات الدولية تعمل على تحقيق التوازن، أو التفوق، عبر الحفاظ على أوضاعها وقدراتها التنافسية... وعند سقوط أحد الأطراف يعمل الآخرون على بناء توازن جديد بموجب واقع المستجدات والتحولات الدولية، في ظل الصراع والتنافس على القوة والنفوذ.
ثالثاً: في الدول الكبرى، تستمد الإدارات المتعاقبة على الحكم قوتها من العمل الاستراتيجي ذي الرؤية والأهداف الطويلة المدى، ولا تُدار بحكم وإرادة الأفراد المتعاقبين على قيادة الإدارة... ومن المؤسف أننا كعرب ننسى هذا المبدأ مع كل انتخابات جديدة في الإدارات الغربية عموماً، وننساق وراء ما يُوحى لنا عبر آليات واستراتيجيات التحكم الغربية ذاتها.
رابعاً: إن استراتيجيات الدول «العظمى» ثابتة لا تتغير بتبدل إداراتها، وأي تغيير جزئي في هذه الاستراتيجيات لا يبتعد عن سياقاتها.
خامساً: إن الثوابت والقواعد المذكورة أعلاه ذات علاقة مباشرة بتراتبية القوى العظمى، التي تتحكم فيها متغيرات الواقع الدولي بحكم مرتكزات القوة في مرحلتها الزمنية.
سادساً: إن المبادئ المذكورة يجب أن تكون في حسابات كل دول العالم لقياس التغيير في سياسات الدول الفاعلة في العلاقات الدولية إزاء حلفائها أو منافسيها أو التابعين والخاضعين لإرادتها.
علامات استفهام...
يؤكد الباحثون في الشؤون الدولية أن «البيئة الاستراتيجية العالمية غير الثابتة آخذة بالتغير والتبدل، مما يتطلب الموازنة بين الأولويات المتنوعة، وعدم إيلاء الأهمية لتهديد وحيد أو منطقة منفردة».
وبموجب هذا المبدأ، ودخول أكثر من قطب دولي على خط التغيير، وإصرار جميع الأقطاب على إعادة نشر نفوذها في العالم، لم يعد هناك شك في أن منطقتنا الشرق أوسطية المشتعلة هي الأكثر تأهيلاً للتغييرات القادمة، وأن هناك ترتيبات لإشعال جبهات جديدة في المنطقة قابلة للاشتعال في ظل الحرب على الإرهاب ومواجهة التطرف.
وبناء عليه نضع هنا عددا من علامات الاستفهام على بعض الأحداث الدولية الأكثر جدلية في عامي 2016-2017، وعلاقتها المباشرة بطبيعة عمليات التغيير القادمة على المدى القصير. وهذا الاستفهام هدفه البحث والدراسة لاستيعاب ما يتم رسمه والتخطيط له في كواليس الأحداث... لذلك نتساءل: يا ترى ماذا وراء: خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أولاً؟ وعودتها إلى قواعدها العسكرية القديمة في الشرق الأوسط ثانياً؟ ووصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض من خارج المنظومة الإمبريالية الأمريكية ثالثاً؟ والتغيير المفاجئ في الخطاب الإعلامي الأمريكي الجديد في قضايا أمننا الإقليمي الخليجي والعربي رابعاً؟
حروب قادمة...
في 2 فبراير 2017 ذكّرتنا صحيفة «الجارديان» البريطانية بتصريحات لـلسيد ستيف بانون (Steve Bannon) في عام 2016، توقع فيها نشوب حربين: واحدة في بحر الصين الجنوبي، وأخرى كبيرة في الشرق الأوسط (ضد الإسلام)، بحسب قوله. وبانون يعد من اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية الجديدة... تم عزله مؤخراً (قيل بسبب خلافه مع صهر الرئيس) من منصبه ككبير مستشاري البيت الأبيض، وعضوية مجلس الأمن القومي الأمريكي.
وبحسب «الجارديان»، فإن بانون صرّح أيضاً بأنه «قد لا يعجب الجميع ذلك، لكن من الجلي أننا في حرب. إننا نتجه نحو حرب كبيرة في الشرق الأوسط».
في مقابلة إذاعية في فبراير/شباط 2016 قال بانون: «نحن نتجه نحو حرب في بحر الصين الجنوبي، ستندلع بعد 5 أو 10 سنوات، ولا يوجد أي شك في هذا الأمر».
وقال: «لدينا مشكلة مع التوسع الإسلامي وتوسع الصينيين.. هم مزودون بدوافع قوية، ووقحون ومتغطرسون..».
وذكرت الجارديان في نفس السياق أيضاً أن الصين تقوم بإنشاء الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي التي تمكنها من إقامة قواعد صواريخ واستعدادات عسكرية تهدد أمريكا وحلفاءها. ورغم وجود عدد من الدول ذات السيادة على هذا البحر الصين فإن الصين استطاعت إقامة سلسلة من الجزر الصناعية على الشعب المرجانية والصخور لتأكيد سيطرتها على البحر، وأكملت الأمر بنشر قوة عسكرية تضم وسائل دفاعية متقدمة.
وربطت «الجارديان» صحة الخوف من تصريحات ستيف بانون بتصريحات وزير الخارجية الأمريكي ريكس تليرسون، في إشارته إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تحاول إعاقة وصول الصين إلى تلك الجزر، فيما اعتبر الخبراء أن إقدام واشنطن على هذه العملية سيكون الشرارة الأولى للحرب.
وجدير بالذكر هنا -كما جاء في تقارير بحثية أخرى- أن الصين، كدولة كبرى مستهدفة، تحاول السيطرة على بحرها الجنوبي الذي يعدّ منفذها الوحيد إلى المحيط الهادي، في عملية دفاعية لتسهيل وصول غواصاتها النووية إلى مياه المحيط في حالة المواجهة النووية تحت البحر.
ومن دون الدخول في سرد وقائع نشر منصات أنواع الصواريخ البعيدة المدى والعابرة للقارات، ونشر الجيوش والعتاد الذي مازال مستمرا منذ عدد من السنوات على طول الجبهات والحدود المتواجهة بين الأقطاب المتصارعة في العالم، من المفيد هنا معرفة رأي الطرف الروسي، كما جاء على قناة «روسيا اليوم»، في 21/5/2017، نقلاً عن صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية، حول إمكانية نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين:

1. ‭‬أن الولايات المتحدة متفوقة تقنيا والصين متفوقة بشرياً.
2. ‭‬ بحسب سيناريو إدارة أوباما حول حرب محتملة مع الصين، أنه إذا نشبت «اليوم» أي قبل (2020)، فإن الخسائر الأمريكية ستكون ضئيلة نسبيا... وإذا نشبت الحرب بعد 10 سنوات (2025) فستدفع الولايات المتحدة ثمناً غالياً.
3. ‭‬ مع مراعاة العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، فإنهما لا يرغبان في المواجهة، وإن على واشنطن وبكين السعي للتسوية سلميا، رغم أن «القادة العسكريين يخططون لمساراتها».
4. ‭‬ ووفقاً لتقرير أعدته مؤسسة «راند» الأمريكية بطلب من وزارة الدفاع الأمريكية، فإن احتمال نشوب مواجهة حربية بين الولايات المتحدة والصين يزداد.

لعدم الإطالة، نتوقف هنا لإيجاز النقاط التالية رغم استمرار توارد المزيد من الدراسات والأخبار والتأكيدات والتحليلات الإخبارية التي تؤكد عدم إمكانية استبعاد خيار الحرب التي قد تنشب في بحر الصين الجنوبي، وأخرى في منطقة الشرق الأوسط التي تتزايد وتتصاعد بداخلها بؤر الصراعات والمعارك والمواجهة الدولية والإقليمية.
الصين، التحدي الأكبر...
يعتبر الخبراء الأمريكيون المتخصصون في الشؤون الصينية أن الصين تُشكّل التحدي الأصعب أمام زعامة الولايات المتحدة في أي نظام دولي قادم في القرن الجديد، لما تملكه هذه القوة العظمى من مميزات فريدة في العالم الجديد الذي يتم رسم خريطته.
من أهم مميزات الصين اليوم أنها دولة ذات قوة بشرية كبيرة، واقتصاد قوي، يصنعان قوة عسكرية مؤثرة... وهذه القوة بدأت بتنحية القطب الأمريكي عن عرشه القيادي في العالم. وفي الجانب الآخر تعد الصين دولة ذات نفوذ سلمي (غير استعماري) في آسيا والعالم، تنشر نفوذها عبر التنمية والبناء وليس الحروب والتدمير، وتعتمد في خريطة تحالفاتها على خصوم الغرب عموماً، ورافضي الحروب خصوصاً.
وأخيراً...
يعد إعطاء الولايات المتحدة أهمية متميزة لمسرح العمليات في آسيا تغييراً جذرياً في سياساتها الدفاعية، التي ظلت تركز منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على مواجهة الاتحاد السوفييتي في أوروبا أثناء الحرب الباردة. ويستند هذا التحول على عدد من التحديات التي تواجه واشنطن في تلك المنطقة، أهمها: النفوذ المتزايد للصين والهند.
وعلى الرغم من أن هناك فئة كبيرة من الباحثين ترى أن نشوب حرب بين الأقطاب أمر بعيد الاحتمال، فإن هناك باحثين استراتيجيين يؤكدون أنه إذا خرجت الأوضاع عن السيطرة فإن احتمال قيام الحرب لن يكون بالأمر المستبعد. وبالتوازي، من المتوقع إقحام منطقتنا العربية في حرب حول الإسلام تكون الطوائف وقودها.
إن الدمار الذي ستسببه هذه الحرب وتأثيرها في الاقتصاد العالمي سيصنع تحولا استراتيجيا في الخريطة النهائية للنظام الدولي الجديد.