العرب على مفترق طرق: المتغيرات في السياسة الدولية وانعكاساتها على الأمن القومي العربي

اعتقدنا بأننا كعرب، بعد كل سنوات الاستعمار الطويلة، منذ ما قبل وبعد اتفاقية سايكس بيكو، واحتلال فلسطين، اعتقدنا بأننا «خير أمة» فهمت الاستعمار الغربي وعقليته المراوغة، وخطابه الكاذب، وقوانينه المجحفة، وسياساته الظالمة في بلادنا وفي مختلف بلاد العالم الثالث؛ إلا أنه يجب أن نعترف بأن أحداث القرن الواحد والعشرين، ونحن لا نزال في عقده الثاني، تثبت كل يوم بأننا مازلنا لم نفهم هذا الاستعمار الذي يتطور توحشًا في ممارساته وخبثًا في خطابه... هذا الاستعمار الذي نجح في شيطنتنا حتى أصبحنا نقول عن أنفسنا «نعم نحن إرهابيون ونستحق العقاب»، فاستسلم الغالبية منا لمشروع التقسيم والتفتيت للخلاص من العقاب والبطش الدموي.

واليوم ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من هذا القرن يمكننا التأكيد على أن بلادنا العربية دخلت في مرحلة جديدة من الاستعمار المتوحش عبر بوابة الإرهاب، الذي بات وجوده من ضرورات الوجود الاحتلالي والاستعماري، ليمنح المحتل والمستعمر الجديد إعفاءً من مسؤولية جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والثقافي الدموي المستمرة على امتداد مساحة الوطن العربي منذ سقوط جدار برلين، وبدء الغارات الانجلوأمريكية على العراق بالقنابل الانشطارية والعنقودية، واليورانيوم المنضب، وقصف المدارس ومصانع حليب الأطفال والجسور ومنظومة الاتصالات، وغيرها، لقطع وريد الحياة على الشعب العراقي، في حرب قال عنها جيمس بيكر بأنها ستُرجع العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، بمعنى تحويلنا مجددًا إلى أمة قابلة للاستعمار.
تلك الجرائم بدأت عام 1991 ولم تنته في حرب عام 2003، ولن تنتهي بسحق مدينتي الموصل والفلوجة، ولا بتدمير الرقة ومدن عربية عديدة من المشرق إلى المغرب العربي... فالحرب المزعومة على الإرهاب لا تزال مستمرة.
ومن جانب آخر صار الوجود الاستعماري في بلادنا من ضروريات الحرب على الإرهاب، إلى أجل غير مسمى، في جبهة حرب مفتوحة لامتماثلة، وحروب بالوكالة، لا تحقق سوى أهداف السيطرة والهيمنة الاستعمارية الجديدة من دون أن يتكبد فيها المستعمر خسائر مادية أو معنوية، بل ندفع نحن، شعوب المنطقة، أثمانها وتكلفتها من ثرواتنا، ومن أرواح أبنائنا، ومستقبلهم الضبابي الذي يزداد قتامة كل يوم.
العرب في القرن الأمريكي الجديد...
لربما تذكرون ذلك التقرير الشيطاني الرائع الذي خَطّهُ زبعنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، «رقعة الشطرنج الكبرى، السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيوستراتيجيًا»، والذي صدر في نهاية تسعينيات القرن العشرين، أي بعد عقد واحد من انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط النظام الدولي القديم، والذي عبّر فيه عن الرؤية الأمريكية البراغماتية الواقعية الملزمة حول ضرورة استمرار التفوق الأمريكي في القرن الواحد والعشرين بالسيطرة على أوراسيا... تلك الاستراتيجية الأمريكية للبقاء كقوة أولى وأخيرة من دون منافس في العالم.
في ذلك التقرير يذكر راسم السياسات الخارجية الأمريكية بأن هذا الحلم كي يتحقق لا بد من السيطرة على منطقة أوراسيا (أوروبا-آسيا) التي تمثل قلب العالم، وموئل معظم شعوب العالم والموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي والقوة النووية.... نعم هذه هي المنطقة التي صارت ساحة الإرهاب بشكل عام، بعد أحداث البرجين في نيويورك عام 2001.
حلم الإمبراطورية الأمريكية...
باختصار يعرض المفكر الاستراتيجي الأمريكي في تقريره المذكور كيف يجب العمل على بناء الإمبراطورية الأمريكية كقوة تحكم العالم عبر المثالية الأمريكية وثقافاتها الموجهة من جهة، والقوة الأمريكية بأبعادها المتنوعة من جهة أخرى.
يتحدث أيضًا عن الدور الأمريكي في إدارة النزاعات والصراعات في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط على نحو لا تصعد معه أي دولة عظمى منافسة تهدد المصالح الأمريكية، بل لمواجهة جميع المنافسين الجدد، الحقيقيين والمحتملين، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
باختصار وضع بريجنسكي في تقريره البنود الرئيسية التي تفسر لنا ما وراء العاصفة الأمريكية التي لاتزال تهب بالكوارث المدمرة على العالم عمومًا ومنطقتنا العربية خصوصًا، من أجل تأسيس الإمبراطورية الأمريكية التي يجب ألا تغرب عنها الشمس أبدًا.
تمارس الولايات المتحدة اليوم دورًا فريدًا، لتحقيق مصالحها في مواجهة المنافسين الاستراتيجيين على المستوى الجيوبولتيكي في منطقة أوراسيا، والتي تقع منطقتنا العربية في قلبها، جغرافيًا واقتصاديًا... أن أوراسيا كما تراها الولايات المتحدة هي المركز الحيوي للنمو الاقتصادي والنفوذ السياسي المتعاظم عالميًا، بما تشكله كل هذه العوامل من قوة معقدة يجب السيطرة عليها لمنع ظهور قوة معادية للسيادة الأمريكية.
ونجحت الولايات المتحدة في تطوير سياساتها العسكرية والخارجية وقوتها التكنولوجية والاتصالاتية والمعلوماتية والمالية والتجارية بما يحقق لها السيطرة على البعد الجيوبولتيكي الذي يحقق مشروعها. فهي تستخدم القوة العسكرية والأمنية المتوحشة، مع قوة ثقافية متمثلة في مجموعة من المثاليات في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والأصولية الدينية، ورغم التناقض بين القوتين المستخدمتين إلا أنها نجحت في تحقيق أهدافها حتى الآن في منطقتنا العربية على أقل تقدير.
ولم ينس أن يذَكّرنا بريجنسكي بأن المشروع الأمريكي يتطلب التفكير في تهميش قضايا الحدود والبعد القومي لبعض الدول المشمولة في استراتيجية الهيمنة الأمريكية... مع التلميح لوجود العصبيات الدينية والعرقية التي يمكن أن تُستخدم لتبقى أمريكا الحارس الأمين على بوابة العالم... ويذكر بأنه في الحرب الباردة الأمريكية السوفييتية «استخدم كل طرف آيديولوجيته لتعزيز سيطرته على أتباعه ومؤيديه بطريقة تذكرنا إلى حد ما بعصر الحروب الدينية»... إذ لتفادي الصدام النووي استخدم الأمريكان الوسائل غير العسكرية ضد السوفييت «وهي وسائل الحيوية السياسية، والمرونة الآيديولوجية، والدينامية الاقتصادية، والإغراء الثقافي التي أصبحت كلها ذات أبعاد حاسمة للصراع»، كما جاء نصًا في التقرير المذكور.
مشروع التغيير الجيواستراتيجي القسري، الشرق الأوسط الجديد...
كان لا بد من الرجوع إلى تقرير بريجنسكي لنتفهم بعضًا من دوافع المشروع الذي يُدعى بالتغيير الجيواستراتيجي في منطقتنا، والذي يدّعي أصحابه بأنه يهدف إلى تصحيح أخطاء مشروع السيدين سايكس وبيكو الذي مر على تنفيذه مائة عام... مشروع استعماري دموي قسري آخر سيخلف المشروع الاستعماري القسري الذي سبقه... لأننا أمة يعتبرونها قاصرة في تحديد وتطوير مصيرها، بل هي بحاجة إلى من يصحح لها واقعها على مدار التاريخ.
وإن كان ذلك التقرير يفسر بعضًا من أسباب ومظاهر الانتشار الأمريكي واهدافه في المنطقة الأكثر حيوية في العالم، فهو أيضًا يؤكد بأن الحرب على الإرهاب تعد أحد أهم أدوات نجاح مشروع التغيير الجيواستراتيجي المزعوم في الشرق الأوسط. ولا شك أن 11 سبتمبر 2001 كان مفصلاً تاريخيًا لانطلاق تلك الحرب، أو أنه نُظّمَ ليكون كذلك.
وتكفي قراءة خريطة الانتشار الأمريكي في العالم بعد هذا التاريخ المفصلي مع أخذ كل الإجراءات الاستخبارية والامنية والمالية التي اتخذتها أمريكا في الاعتبار، ليتبين ان عدة الحرب التي أعلنتها أمريكا على الإرهاب أقرب إلى أن تكون عدة حرب عالمية ركيزتها الاساسية هذا الانتشار الذي لا مثيل له.
ونكرر هنا بأن الحرب على الإرهاب أعطت المبرر الضروري للتغيير الجيوستراتيجي القسري، مهما كان دمويًا وكارثيًا ومزلزلاً، ذلك المشروع الذي أطلقت عليه جونداليزا رايس في عام 2006 اسم «مشروع الشرق الأوسط الجديد»... المشروع المنقذ الذي سيحول المنطقة إلى جنة ديمقراطية، ويجتث الإرهاب والفكر الإرهابي بحسب ادعاءاتهم، بعد تصحيح أخطاء خريطة سايكس بيكو الغبية.
تدمير العراق والحرب على الإرهاب...
بإيجاز شديد، بات في حكم الأكيد أن المشروع بدأ بالعراق ليُكتب له النجاح في باقي المنطقة... لقد كان العراق العائق الأكبر أمام هذا المشروع الشيطاني، فتم احتلاله لتسهيل نشر الإرهاب بكل مذاهبه على كامل مساحته... إرهاب دموي مذهبي في الجنوب وآخر في الشمال وعلى كامل الحدود شرقًا وغربًا، وهذا الإرهاب كفيل بإلغاء حدود ورسم حدود خريطة طائفية لتحل محل خريطة سايكس بيكو... لذلك كان ولا يزال دور إيران مهمًا جدًا لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي عملت على رسم المشروع وتنفيذه على مدار العقود الأربعة الماضية...
فبعد أن كانت أسلحة الدمار الشامل ذريعة غزو واحتلال العراق، أصبح اليوم الإرهاب ذريعة استمرار ذلك الوجود الاحتلالي المتعدد الأطراف على هذه الأرض الفاقدة للسيادة والقوة الدفاعية بكل معنى الكلمة، وذريعة لانتشار قوى عسكرية متعددة في مختلف انحاء الأرض العربية التي باتت مفتوحة أمام جحافل الإرهاب القادم من كل اتجاه.
تعاني المنطقة العربية اليوم، من انتشار عمليات تدفق السلاح والمال الأمريكي، المتوازي مع انتشار الإرهابيين المجندين من كل الجنسيات وفي كل اتجاه. لقد بدأ ذلك الانتشار ولا يزال ما بين المناطق الحدودية، وبين المناطق النفطية المستهدفة جميعها في مشروع التغيير المذكور، لتثبيت قواعد جديدة وترسيخ السيطرة ونشر النفوذ والتحكم في مصادر الطاقة.
وبعد أحداث «الربيع العربي» بات في حكم المؤكد أن النموذج العراقي هو الذي من المقرر تعميمه بشكل وبآخر في باقي مناطق النفط العربية، إن لم تتدخل عوامل دولية أو إقليمية أخرى في إفشال هذا المشروع... وهذا موضوع آخر بحاجة إلى صفحات وحوارات طويلة.
وهكذا يستمر الدمار الشامل في المنطقة، وتستمر مسيرة الموت والتهجير والعنف والتطرف والتفقير والتجهيل حتى الوصول إلى لحظة الاستسلام الكامل... لحظة قبول المشروع حلاً لوقف النزيف.
وأخيرًا...
إن الأمة العربية جمعاء، من المحيط إلى الخليج، تواجه مصيرا واحد في مشروع أمريكي واحد، وهو مشروع معلن يتم تنفيذه بأعلى درجات الخبث والدهاء الاستعماري...
والتدمير لا يزال مستمرًا ومتصاعدًا في ظل صمت أو استغفال عربي خطير...
صارت الفوضى حقيقة وواقعًا، والإرهاب المدمر الوحشي جزءًا من الحياة العربية اليومية...
ألا يؤكد لنا كل ذلك بأننا مازلنا لم نفهم ذلك الاستعمار، الذي يمسك بخناق حاضرنا ومستقبلنا؟؟
ليس سؤالاً مبطنًا، ولا استصغارًا للقدرات العربية، ولكنه سؤال مصيري، بعد أن ثبت أننا كأمة جمعاء لم نتعامل مع هذا الشأن الاستعماري الجديد بموجب مقتضيات العصر الذي بدأ مع سقوط الاتحاد السوفييتي كقطب رئيسي في النظام الدولي، وما تبع ذلك من الدخول في صراع دولي من نوع آخر لتأسيس نظام جديد.
وأخيرًا لا يسعنا إلا أن نؤكد بأننا إن لم نفهم هذا العدو الظاهر الخفي، المدمر، فإننا بكل تأكيد سنبقى جاهلين سبل مواجهته ومقاومته، سياسيًا ومعرفيًا، قبل أي نوع آخر من المقاومات؟؟