المنطقة العربية في مهب الريح القادمة من الغرب قبل الشرق

لقد أثبتت أحداث المنطقة منذ عام 2010 جميع التوقعات التي قمنا برصدها وتحليلها ونشرها في مقالات متتالية في صحيفتنا هذه (أخبار الخليج البحرينية) بدءًا من تاريخ احتلال العراق... هذا الاحتلال الذي أثبت بكل وضوح تفاصيل «مشروع الشرق الأوسط الجديد» القائم على مرتكزات الفوضى الدموية وسلاح الإرهاب والطائفية والحرب بالوكالة... وبناء عليه ارتأينا إعادة نشر بعض المقالات البحثية التحليلية التي سبق نشرها في ذلك الوقت، والتي تستحق التذكير بها لأهميتها وتطابقها مع الأحداث الراهنة.

ونبدأ بالمقال التالي الذي تم نشره في ذلك العام بالتحديد، لنؤكد دور الصحافة والإعلام في حماية الأمن القومي والوطني من خلال وضوح الرؤية وقوة التحليل واستشراف المستقبل.
أوراق كارنيغي حول إيران ودول الخليج1
مع الثاني من أغسطس من كل عام تعود ذكرى اجتياح القوات العراقية للكويت (1990)، وقد مضى على ذلك اليوم المشؤوم عشرين عاما، فكان خطأ جسيمًا تبعته أخطاء عربية عديدة، وكان موعدًا لانطلاق حال الأمة نحو التدهور السريع والمستمر حتى اليوم، وموعدًا لانطلاقة المشاريع الاستعمارية الجديدة التي مازالت تسير بخطى متسارعة في مراحلها الاستراتيجية، ما يؤكد علاقة أصحاب هذه المشاريع بجر المنطقة إلى تلك اللحظة التي أزّمت العلاقات العربية العربية لأسوأ درجاتها، وأفقد الزعماء العرب البصيرة وبُعد النظر في مواجهة الكارثة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وها قد أصبح ذلك اليوم تاريخًا، فماذا عن يومنا هذا؟!
تعيش المنطقة اليوم حالة حرب وعدم استقرار مع توجس اقتراب لحظات خطر ثان، وشعور تام بالعجز وبعدم القدرة على اتخاذ قرار عربي، أو خليجي، موحد في مواجهة الأعداء أو في التعامل مع الحلفاء، حيث التشابه شديد بين اليوم والأمس، بين أحداث الخليج اليوم وأحداث تلك الأيام التي سبقت ذلك الاجتياح، وما تبعه من مآسٍ.
هذا هو بالضبط ما يمكن توجسه بل ملامسته في التقرير الذي أعدته الباحثة الأمريكية مارينا أوتاوي، بعنوان «إيران والولايات المتحدة ودول الخليج/ السياسة الإقليمية المُحيّرة» (مركز كارنيغي الشرق الأوسط/ أوراق كارنيغي العدد 105، أكتوبر 2009)، وهو تقرير جدير بالاهتمام والتحليل والفحص والتدقيق، على المستوى الرسمي والشعبي، لما فيه من إسقاطات على قضايا سابقة ولاحقة تخص أهم وأكثر قضايا المنطقة حساسية وتوترًا، وأكثرها خطورة منذ ما بعد ذلك الاجتياح المشؤوم حتى يومنا هذا.
التقرير يتحدث عن تهديد البرنامج النووي الإيراني لأمن المنطقة، وفي مقدمتها إسرائيل، وأسلوب تعامل دول المنطقة مع هذا التهديد وسياساتها تجاه إيران. الهدف الرئيسي للتقرير هو الترويج للرؤية الأمريكية في حماية أمن الخليج، والتي حددتها الباحثة بأنها مرتكزة على نهج دبلوماسي وأمني «ينطوي على استراتيجية إقليمية» تعمل على إعادة دمج إيران في شبكة طبيعية من العلاقات الدولية من جهة، وتعمل على تشكيل تحالف (أمني عسكري) مناهض لإيران تدعمه أمريكا وتضم دول مجلس التعاون الخليجي+2 (مصر والأردن) وإسرائيل وتركيا لوضع ترتيبات أمنية إقليمية تزيل كل أشكال التهديد في المنطقة من جهة ثانية، مع التركيز على أهمية وضرورة انضمام إسرائيل إلى هذا التحالف، والذي تدعي الولايات المتحدة أن هناك مشكلة في ترويضها وفي طريقة التعاطي مع طهران.
تقول الباحثة إنه «من شأن وجود إسرائيل خارج اتفاق أمني إقليمي أن يقود إلى تقويضه لأنها حينذاك ستنتهج سياساتها الخاصة تجاه إيران»، وهذا بالتأكيد رأي أمريكي يحاول جاهدًا الضغط باتجاه تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل، وهذه المرة من خلال التحالف الأمني المزعوم في ظل التهديد الإيراني المتصاعد الذي يزعزع استقرار وأمن منطقتنا الحيوية، كما يدّعي التقرير.
إذن كلما زادت حدة التوتر الأمني والتهديد الإيراني لدول المنطق ازدادت الرؤية الأمريكية رواجًا، وازداد الضغط الأمريكي على قيام هذا التحالف الإقليمي مع إسرائيل قبولاً، هذا التحالف الذي تقول عنه الكاتبة «إن عدم استعداد الدول العربية للتعاون مع إسرائيل، طالما لم تُحل القضية الفلسطينية، يجعل الأمور أكثر صعوبة أيضًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة لتطوير منظومة أمنية جديدة للمنطقة»، ويواصل التقرير مؤكدا أنه إذا استُبعدت إسرائيل من هذا التحالف «يمكن أن يُقوّض أي جهد جماعي عبر اتخاذ إجراءات أحادية الجانب...».
وليس أوضح من هذه المقايضة الموجهة للعرب عمومًا، والخليج خصوصًا، بربط الحصول على حماية أمريكية لأمن المنطقة في مواجهة إيران، وبرنامجها النووي الخطير، بالموافقة على المشاركة الإسرائيلية في منظومة التحالف الأمني الإقليمي الشرق أوسطي، وإلا فإن الولايات المتحدة لا تضمن عواقب الفعل الإيراني، ولا تضمن رد الفعل الإسرائيلي ضد إيران، وصولاً إلى الرد الإيراني على الرد الإسرائيلي، وانعكاس كل ذلك على دولنا الخليجية (الضحية).
لتفادي كل ذلك، تعرض أوراق كارنيغي الرؤية الأمريكية التي تشدد على ضرورة تحالف دول الخليج مع إسرائيل لتتمكن الولايات المتحدة من تطوير منظومة أمنية جديدة وفاعلة لحماية أمن واستقرار المنطقة.
لربما كانت تلك الأوراق بمثابة التقرير الأول الذي يعلن بوضوحٍ شديد الضغوط الغربية للتطبيع المباشر مع إسرائيل، ويكشف عن الإلحاح الأمريكي في ظل تردد وخوف عربي من هذه المجازفة المهددة لمستقبل النظام العربي الرسمي أمام شعوبه من جهة، والتي يمكن أن تكون سببًا لدخول المنطقة في حرب جديدة ضد إيران من جهة أخرى.
تضمنت تلك الأوراق التلويح بالقوة الإيرانية «باعتبارها قوة إقليمية واضحة» لا تقابلها قوة في الضفة الأخرى من الخليج، ويسهب التقرير في الحديث عن قوة إيران كالتالي:
أولاً: القوة الطبيعية، المتمثلة في حجمها (المساحة والسكان)، وموقعها الممتد على طول الشاطئ الشرقي من الخليج.
ثانيًا: القوة السياسية، كدولة «حقيقية ذات نظام راسخ ومرن في منطقة معظم بلدانها صغيرة جدًا كالكويت، وغير مستقرة كالعراق، وذات طابع مؤسسي ضعيف كالمملكة العربية السعودية»2، وكنظام ديمقراطي (نسبة للانتخابات) وشعب متجانس مذهبيًّا.
ثالثًا: القوة العلمية، المتمثلة في البرنامج النووي الطموح والقادر على انتاج الوقود النووي، وامتلاك المعرفة التكنولوجية التي «يمكن أن تمتد إلى تطوير أسلحة نووية»3. ولم ينس التقرير استخدام لغة الترهيب بالإشارة إلى أنه «ربما تنوي إيران، أو لا تنوي، إنتاج مثل هذه الأسلحة في المدى القصير، لكن لديها القدرة على القيام بذلك...».
ورابعًا: قوة الامتداد السياسي الإيراني إلى خارج حدود إيران، بحسب نص التقرير الذي يقول إن إيران «طورت علاقات وثيقة مع سوريا، وتسيطر على حزب الله في لبنان، وتؤيد بقوة حركة حماس في فلسطين»4 (مع تفادي التقرير لذكر قوة إيران في العراق).
من خلال هذا التلويح بالقوة الإيرانية العلمية والمعرفية، والتي لا يمكن التأكد من مدى صحتها من أي مصدر محايد آخر، وخصوصًا بعد اكتشاف الأكاذيب الشهيرة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، يبدو واضحًا أن هناك دورا أمريكيا فاعلا في استثمار دور وأطماع إيران في المنطقة، لخلق حالة خوف لدى الأنظمة العربية عمومًا، والخليجية خصوصًا، من جارتهم، التي من جانبها لا تألو جهدًا في ترسيخ هذه المخاوف، بالقول والفعل. بل إن إيران تعمل على الضغط في ذات الاتجاه، سواء بالتلويح ببرنامجها النووي، أو بتهديد دول المنطقة حول رد فعلها على أي عمل عسكري ضدها. ويبدو أن الطرفين (الأمريكي والإيراني) يمارسان أدوارا متوازية ومتزامنة لإنضاج الأحداث نحو أحد المصيرين، إما التحالف مع إسرائيل لتجنب أي عملية عسكرية ضد إيران، وإما الدخول في المواجهة، التي ستكون بلداننا ساحتها وضحيتها المباشرة... وأحلاهما مر.
وقد أكدت بعض التوجهات الإعلامية في الصحافة اللبنانية هذا التوجه الإيراني الفظ، مؤكدة أنه «للمرة الأولى منذ تصاعد حدة التهديدات المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل على خلفية الملف النووي ونفوذ الأذرع الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط ودورها في العديد من دوله، يجري الحديث وبشكل علني داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية، وبالتحديد بين قيادات الحرس الثوري، عن أهداف محددة في منطقة الخليج، قد تشكل أول هدف إيراني ردًّا على أي هجوم أمريكي أو إسرائيلي على منشآت طهران النووية»5، وفي ظل تزايد التهديدات الأمريكية الإسرائيلية ضد إيران، وتراجع «التعاطي الدبلوماسي مع الأزمة الإيرانية»، فإن القيادة العسكرية الإيرانية أعلنت أهداف الشعب الإيراني في الدفاع عن نفسه وحذرت الولايات المتحدة من أن «مياه الخليج وبحر عمان والمحيط الهندي ستتحول إلى مقبرة لقِطَع الأسطول الخامس الأمريكي الذي يتخذ من البحرين مقرًّا له»، ووصف المصدر الأداء الإسرائيلي ضد إيران بـ«الانتحار العسكري»6.
باختصار، لقد وصلت مراحل الضغط على دولنا إلى درجة التهديد المباشر، وتم وضع البحرين في مرمى الهدف الإيراني في مواجهة أي تحرك عسكري إسرائيلي أو أمريكي ضد إيران، بينما تتزايد التصريحات الأمريكية والإسرائيلية بتأهب قطاعاتها للهجوم على المفاعلات النووية الإيرانية.
وكما تم جر العراق إلى الكويت في أغسطس 1990، يتم اليوم دفع إيران لضرب البحرين، وشتان بين أهداف ونوايا وتحالفات الدولتين... فإلى أين تسير المنطقة هذه المرة؟؟!
إذن المنطقة اليوم تعيش ما بين سندان التهديد الإيراني ومطرقة الضغط الأمريكي في حالة شبيهة بتلك الحالة العراقية الخليجية عشية اجتياح الكويت. حينها أيضًا، كانت الأحداث تتسارع نحو التصعيد بين العراق والعرب عمومًا، والخليج خصوصًا، فكانت لحظة الاجتياح اشارة انطلاق الاستراتيجية الأمريكية للقرن الجديد.
أما التصعيد اليوم فيتجه نحو ضربة إيرانية للبحرين (أو إحدى دول الخليج)، لتبدأ الانطلاقة الجديدة نحو التحالف الأمني الإقليمي الخليجي الإسرائيلي، ليُطلَق عنان التطبيع وما يتبعه من خطط مرصودة ومؤجلة، مثل توطين الفلسطينيين في الأردن، وفصل غزة عن الضفة، وإسقاط حقوق العودة... إلخ.
ولكن ما هو دور الجارة المسلمة إيران في كل هذا؟؟!!
عند لحظة اجتياح الكويت انتهى دور العراق القومي، وما لحق بالبلدين من دمار وخراب كان درسًا لن تنساه دول المنطقة... في تلك اللحظات، من أغسطس 1990، حققت الإدارة الأمريكية أهم أهدافها المتزامنة مع انتهاء الحرب الباردة، لتحصل بعدها على الكارت بلانش لاكتساح المنطقة ونقل قواعدها وأساطيلها البحرية والبرية والجوية إلى بلداننا التي لا حول لها ولا قوة.
وفي مارس-أبريل 2003 قُطع شريان العراق وتم احتلاله، وهكذا نفذت الإدارة الأمريكية أهم وأخطر مراحل عودة الاستعمار الجديد للسيطرة على مواقع النفوذ والثروة في العالم.
وما بين 1990 و2003 كانت الإدارة الأمريكية تُعد للمراحل اللاحقة، فكانت جهودها السياسية والإعلامية واضحة في تأسيس المرتكزات الطائفية في المنطقة، وفي تعزيز دور الشيعة كطائفة مضطهدة في بلدانهم، استكمالاً للدور الإيراني في تصدير الثورة الخمينية القائم على الشحذ الطائفي المتشدد وتشطير الإسلام وإلغاء الهوية العربية في علاقاتها مع الشيعة في المنطقة... واستثمرت كل هذه الجهود في التعاون الأمريكي الإيراني (الأمني والسياسي والمذهبي) أثناء غزو واحتلال العراق، والذي تُوّج بإهداء هذا البلد العربي لإيران وخلق التهديد الأمني المباشر (قبل الخلاف حول البرنامج النووي) ضد دول المنطقة.
وسواء من محطة الدور الإيراني في احتلال العراق، أو غيرها من محطات عبر التاريخ، فإن العلاقات الإيرانية الأنجلوأمريكية حول منطقتنا تقوم على مبدأ براجماتي بحت، لا علاقة له لا بدين ولا بمذهب، وهذا المبدأ يعتمد على منطلقين أساسيين، وهما 1- «عدو عدوي صديقي»، و2-التقاء وتقاطع المصالح، ونجحت هذه المنطلقات الإيرانية عبر التاريخ في تعزيز دور إيران من خلال زيادة نفوذها الإقليمي بالمنطقة من جهة، وتوسيع دائرة قوتها الطبيعية والاقتصادية عبر ممارسات القضم الجيوبولوتيكي لأراضينا وضمها إلى الدولة الإيرانية دون رجعة، من جهة أخرى، ويطول الحديث في هذا الأمر. وإذا أخذنا مسحًا تاريخيا للعلاقات الإيرانية الإسرائيلية خلال الثلاثة عقود الماضية، مرورًا بالتعاون المنهجي بين الدولتين في هدم كيان الدولة العراقية الذي أدى إلى الإخلال العسير في توازن القوى الإقليمية لصالح إيران، فإنه يبدو واضحًا للعيان، قبل العقول، كم هناك تسطيح لعقولنا في موضوع الخلاف الأمريكي الإيراني والإسرائيلي الإيراني.
وللباحثة الأمريكية مارينا أوتاوي رأي في هذا الشأن أوجزته في «إن تطبيع العلاقات بين دول الخليج وإيران هو هدف أكثر محدودية لكنه أقرب منالاً، وهذا هو ما تسعى إليه بلدان مجلس التعاون الخليجي بشكل فردي، بيد أن هذا مشروع صعب المنال بالنسبة إليها جميعًا؛ فهي تخشى إيران ولا تثق بها، لكنها تخشى أيضًا السياسات الأمريكية في المنطقة ولا تثق بالولايات المتحدة»، وهو رأي يعكس مدى ضبابية وخطورة الوضع السياسي الإقليمي، وصعوبة التكهن بنتائج السياسات الخليجية الجديدة حول التعاون (الثنائي) مع إيران... ولكن، التقرير المذكور يحاول أن يوجه تفكيرنا إلى أن الترجيح الأكثر احتمالاً هو أن الوقت (الأمريكي) قد أزف لتوجيه ضربة عسكرية (إسرائيلية) ضد إيران لتبرير ردة فعلها ضد بلداننا، والتي ستحرك المياه الراكدة لدخول إسرائيل إلى المنطقة من بوابة التحالفات الأمنية الإقليمية.
وفي جزئية أخيرة ومهمة جدًا، وبناءً على كل هذه المعلومات التي تفسر الأهداف والاستراتيجيات الدولية والإقليمية في زيادة حدة التوتر الأمني بالمنطقة، من الجدير الانتباه إلى أن أحداث البحرين الداخلية، على المستوى الطائفي والأمني، قد تشكل إحدى حلقات الخطر التي ستكون نقطة ضعف ووهن في حال قيام أي عمل عسكري أو غير عسكري، ووسيلة من وسائل الضغط السلبي على الإرادة الوطنية في المراحل القادمة.

المراجع

1- مقال للكاتبة تم نشره في 11 أغسطس 2010 في صحيفة «أخبار الخليج» البحرينية.
2- أوراق كارنيغي العدد 105، أكتوبر 2009.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- «البحرين وإسرائيل، أول الأهداف الإيرانية عند وقوع الحرب»، صحيفة النهار اللبنانية، الاثنين 26 يوليو 2010، حسن فحص (مراسل صحيفة الحياة الأسبق في طهران).
6- المصدر السابق.