جرد سياسي عربي في نهاية العام

يُقال إن العرب يقرأون السياسة بقلوبهم وليس بعقولهم.. ولأن السياسة لا عاطفة فيها، تكون الهزيمة دائمًا من نصيب أمتنا.. وآخر هذه القراءات السياسية العاطفية وغير العقلانية نجدها في ردود الأفعال المُعلنة لدولنا الخليجية حول نتائج الجولة الأولى من المفاوضات بين طرفي الأزمة اليمنية، والتي انعقدت في ستوكهولم منتصف ديسمبر 2018. و«بتحفظ» وإيجاز شديدين، أضع هنا قراءة أولية لهذه المفاوضات كمدخل لموضوع هذا المقال:

لم يقبل الحوثيون المفاوضات إلا بعد التأكد من أن الظروف الإقليمية والدولية تسير لصالحهم، ولهذا الأمر حيثيات جديرة بالقراءة والفهم، لن نتطرق إليها في مقالنا هذا.
بالمفاوضات اكتسب الحوثيون شرعية توازي شرعية الحكومة اليمنية الشرعية، وبذلك توفر لهم الشرط الأول والأهم كطرف يملك الحق في مناقشة ما اكتسبه وما حصل عليه بوضع اليد منذ الانقلاب على الرئيس علي عبدالله صالح، رحمه الله، (2014).
إن القراءة السياسية لمسيرة المبعوثين الأمميين في اليمن تؤكد أن الدور الأممي في هذه القضية ما هو إلا مُنَفِّذ للأجندة الغربية الأورو-أمريكية، لصالح الحوثي - الإيراني، ولم يعد الأمر خافيًا على الطرف الثاني في القضية، اليمني-العربي.
بعد أربع سنوات من الحرب بات واضحًا أن الدور الأممي-الأمريكي نجح في توظيف أدواته الذكية (الدبلوماسية والعسكرية واللوجستية) لإطالة أمد الحرب والمأساة اليمنية، تمامًا كما كان الحال في حرب السنوات الثماني العراقية الإيرانية (1980-1988).
المتابع للملف اليمني يرى بوضوح مدى قوة تنظيم الطرف الحوثي-الإيراني المتمثلة في العمل كفريق واحد، متكتل، متفاوض بارع، ومحاور إعلامي جيد.. مدعوم بفِرَق من الخبراء الممتدة صفوفهم من المقاعد الخلفية في قاعة المفاوضات مرورًا بالميادين العسكرية، انتهاءً في طهران، ومن هذا العمل المنظم استمد المحاور الحوثي المراوغ قوته.. وسنتجاوز هنا الحديث عن الفريق اليمني-العربي لكي لا نقع في المحظور.
للوهلة الأولى بعد إعلان الاتفاق ومسرحية المصافحات بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، ومن منطلق معرفتنا بالأسلوب الإيراني الفريد في التفاوض والذي يستلهم منه المفاوض الحوثي قدراته التفاوضية، وأيضًا لثقتنا بالدور الأممي غير المحايد، والمربوط قسرًا بمصالح دولية لها شأن رئيسي في صناعة الأزمات في منطقتنا، من هذه المنطلقات يمكن التأكيد أن بنود اتفاقية الجولة الأولى من المفاوضات اليمنية تصب لصالح الحوثي-الإيراني، ولا تبنى قاعدة إيجابية لصالح الطرفين اليمنيين، بل لن يكسب الطرف اليمني-الخليجي-العربي من تلك الاتفاقية وما ستليها من اتفاقيات الكثير من حقوقه، بقدر ما يمكن أن يشكل خطرًا على مصالح المنطقة عمومًا، ودول الخليج العربي خصوصًا.. وهذا ما استشفه أيضًا وزير الداخلية اليمني أحمد المسيري في أول تصريح له بعد تلك الجولة التفاوضية، بحسب صحيفة «عدن الغد» اليمنية (14 ديسمبر 2018)، الذي ذكر فيه أن «الاتفاقيات تمنح مليشيات الحوثي انتصارًا بعد أن كانت على وشك الهزيمة والقضاء عليها في الحديدة»، معربًا عن أسفه الشديد لقبول التحالف بمثل هذا الاتفاق الذي وصفه بـ«الانتكاسة التي سيندم عليها الجميع».. وإن صح هذا القول فإنه يدل على أن الطرف اليمني-العربي يتفاوض بمعطيات ضعيفة، ستنعكس على مجمل الجلسات التفاوضية القادمة، والتي ستبدأ جولتها الثانية في يناير 2019.
تعد الأزمة اليمنية واحدة من أزمات المنطقة العربية العديدة؛ إذ دأبت بلادنا العربية على الانتقال من أزمة إلى أخرى بالتتابع، ما أدخل بلادنا في حالة من الفوضى القاسية، أسقطت بعض العروش العربية، وتهدد بزعزعة عروش أخرى... أزمات وفوضى تعد بمزيد من الأزمات والفوضى... فهل حقًّا لدى العرب قدرة على القراءة السياسية السليمة لواقعهم السوداوي الراهن، ومستقبلهم الضبابي المبهم؟؟ أم أنهم مازالوا لم يتعلموا الدرس من كل ما حل بالأمة خلال العقود الخمسة الأخيرة؟؟!
هناك الكثير مما يمكن أن يسرده الكاتب العربي، المفكر، الوطني، في شأن ما حل بالأمة العربية خلال الفترة منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم، ليس من باب التشفي في النظام العربي الرسمي، وإنما بهدف تسليط الضوء على الأخطاء المتكررة، والقرارات الخاطئة التي يستلهمها الزعماء العرب، وبتعاقب القيادات، القديمة والحديثة، من دون أن يقرأ صانع القرار العربي الجديد أي جزء من تاريخ قرارات سابقيه، وما ترتب على تلك القرارات من انهيارات نرى نتائجها اليوم بكل وضوح، ويمكن استشراف مستقبلها.
السرد يمكن أن يبدأ باليمن، ولن ينتهي بالشأن العراقي أو السوري، ولا الليبي ولا التونسي، ففي كل تلك البلاد العربية التي يجتاحها الدمار اليوم كان لصانع القرار العربي دور، أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه عوضًا عن أن يسهم في الاعتراض على نوايا الأطراف الدولية التي صنعت هذا الدمار بسبق الإصرار والتخطيط، عوضًا عن ذلك فضلت أن تنضم مع الوحوش الكاسرة في هذه الحروب البشعة، على أمل ألا تنالها نيران الأصدقاء الغربيين. نسي القادة العرب أن يقرأوا بتمعن مصير من سبقهم في علاقات الصداقة مع الغرب، من إمبراطور الحبشة هيلاسي لاسي، إلى إمبراطور إيران محمد رضا بهلوي، ووالده الذي سبقه إلى المنفى الإنجليزي في أقاصي إفريقيا، وغيرهم من أدنى الشرق إلى أقصى أمريكا اللاتينية.. فهذا الغرب الذي نقع تحت هيمنته، اليوم وأمس، لا يعرف صديقا دائما، بدليل أنه بدأ بتوجيه نيرانه على عروش بلادنا الآمنة، بعد أن فقد العرب مظلاتهم القوية من المشرق إلى المغرب العربي... فهل يا ترى توفي كلماتي هذه حق كل من سقط ضحية الحروب الإجرامية في العراق، وتوفي العرب اليتامى والثكالى والمدمرة بيوتهم ومدنهم ومستقبلهم حقهم بعد أن بدأ غبار الحروب بالانقشاع ليكشف عن أنياب المجرمين، الذين تذرعوا بكل القيم الإنسانية للقضاء على الإنسانية في منطقتنا العربية.
لن نسترسل في تفاصيل مآسٍ عربية تحدثنا عنها كثيرًا على مدار سنوات طويلة، ولكن ما يهمنا هنا حقًّا هو معرفة مدى اقتناع الجالسين على سدة الحكم، في بلادنا العربية، بأخطائهم التي أشعلت النيران في بلدان شقيقة، على مدار سنوات، حتى انتشرت تلك النيران ووصلت إلى مضاربهم، وأثبتت أن «المتغطي بالأمريكان عريان» كما جاء على لسان رئيس عربي سابق، كان من أوائل من أحرقته النيران الأمريكية الصديقة رغم كل ما قدمه لهم من خدمات أسهمت في إحراق وتدمير دول عربية أخرى.. فهل نحن بحاجة إلى شهادات أكثر.
نقول كل هذا والعرب يقفون اليوم على مفترق طرق خطيرة... طرق أدت إلى المفاوضات اليمنية، وأخرى إلى عودة العلاقات العربية السورية إلى بعض مساراتها السليمة بعد سنوات من الحرب التي لم تحقق غير الدمار والدمار والدمار... وطرق تشهد بتلاعب إيراني سافر في سيادة دول وعواصم عربية كبرى، ومحاولات تركية لقضم وابتلاع المزيد من الأراضي العربية.
نقول كل هذا والعرب يقفون عند مفصل تاريخي يزداد خطرًا في مسيرة الصراع الدولي على القوة والنفوذ في العالم.
نقوله بحثًا عن إجابة واقعية لسؤال يشغل بال كل عربي مهموم بمستقبله ومستقبل وطنه وأبنائه وأجياله، يا ترى هل هناك حقًّا بداية لوضع معالجات استراتيجية تحمي ما تبقى من سلام في المنطقة؟؟!! أم أن التبعية العربية للقرار الغربي الأمريكي بات سيفًا مسلطًا على رقاب الأمة؟؟!!
لتبرير مدى الإلحاح الذي يساورنا حول السؤال الأخير نستشهد بدارسة قصيرة حول تونس صدرت مؤخرًا للباحث الأمريكي البروفيسور مايكل شودوفسكي، يؤكد فيها قائلًا إن «بن علي لم يكن دكتاتورا. الدكتاتور يقرّر ويملي، في حين كان بن علي موظفا في خدمة المصالح الاقتصادية الغربية، دمية مخلصة تطيع الأوامر، بدعم فعال من المجتمع الدولي.
لم يُذكر التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية في تونس في تقارير وسائل الإعلام الغربية. وارتفاع أسعار المواد الغذائية الصارخ لم يكن يُملى من قبل حكومة بن علي. لقد فُرض من قبل وول ستريت وصندوق النقد الدولي.
كان دور حكومة بن علي هو فرض العلاج الاقتصادي القاتل لصندوق النقد الدولي، والذي عمل على مدى أكثر من عشرين عاما على زعزعة استقرار الاقتصاد الوطني وإفقار الشعب التونسي»، والذي أدى في النهاية إلى الإطاحة بعرشه في أحداث ما يدعى ثورة الياسمين عام 2011.
نتوقف هنا لنتمنى كل الخير والصلاح لأمتنا العربية جمعاء بكل تنوعها وتعددها الرائع الذي بقي قرونا طويلة تعبيرًا عن أخلاقيات وقيم العرب وأديانهم السماوية التي هبطت على هذه الأرض المباركة.


كلمات دالة: