الحرب القادمة... من بحر الصين الجنوبي إلى الخليج العربي

لهذا المقال جزء سابق نشرته في صحيفة أخبار الخليج البحرينية بعنوان: «الحرب القادمة» (4/6/2017)، أشرت فيه نصًا إلى أن المراقبين الاستراتيجيين، والمتخصصين في الدراسات المستقبلية، يؤكدون على «أن المؤشرات التي بدأت تتراكم خلال الفترة الماضية تشبه كثيرًا ما مر به العالم قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورغم سيادة الاعتقاد أن الدول النووية لا يمكن أن تدخل في مواجهة عسكرية جديدة، خوفًا من استخدام القوة المدمرة التي لم تكن متوافرة في الحربين العالميتين السابقتين، فإن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في مؤشرات قيام حرب عسكرية، مباشرة و/أو بالوكالة، بين أقطاب كبرى....».

وبعد مرور عام على ذلك المقال، أعود للكتابة مرة أخرى حول ذات الموضوع، وهو الحرب القادمة، لتحديث المعلومات وقد تبلورت صناعة أسبابها ومبرراتها وسيناريوهاتها، وباتت قاب قوسين أو أدنى زمنيًا وجغرافيًا من منطقتنا العربية عمومًا، والخليجية خصوصًا.
وأبدأ مقالي هذا بالتأكيد على أن المؤشرات الإقليمية الجديدة التي بدأت تتراكم خلال الفترة الماضية تشبه كثيرًا ما مرت به منطقتنا قبل حربي السنوات الثماني الأفغانية السوفيتية، والإيرانية العراقية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي... فإن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في مؤشرات قيام حرب عسكرية مباشرة و/أو بالوكالة بين أقطاب دوليين وإقليميين.
تحت عنوان: «أمريكا تتجه إلى حرب مع الصين رغم معرفتها بنتائجها» نقل موقع قناة روسيا اليوم (RT 22/6/2018) تصريحات جديدة لميخائيل ديلياغين، الأستاذ في العلوم الاقتصادية ومدير معهد مشكلات العولمة في موسكو، يقول فيها إن الخبراء الصينيين يحللون «على محمل الجد إمكانية اشتباك عسكري محتمل بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي في عام 2020-2021»، وجاء هذا التصريح في معرض حديثه عن ازدياد حدة الصراع حول «مَن هو سيد العالم»، بعد أن تمكن الصينيون من أن يثبتوا أن «الأمريكيين لم يعودوا أسيادًا في المناطق المهمة للصين».
وفي الموقع الإعلامي نفسه يؤكد الكاتب الروسي سيرغي غولوفتشينكو أن أمريكا بدأت «حربها التجارية مع الصين... والبيت الأبيض، بالمعنى الحرفي، مستعد لاستهداف الصينيين لأي سبب ومن دون أي سبب. وتسبب قواعد الصين العسكرية في جزر بحر الصين الجنوبي سُعارًا لدى واشنطن...»؛ وبجانب هذه الجزر العملاقة التي تعد كل واحدة منها عبارة عن حاملة طائرات غير قابلة للغرق، ووظيفتها «حماية الاتصالات العالمية الجديدة بشكل موثوق من أي هجوم معتد، خاصة الأمريكي...»، هناك مشروع صيني أكبر سبب للولايات المتحدة سُعارًا أشد وقعًا، وهو مشروع «حزام واحد-طريق واحد»، الذي بدأ مبكرًا بمسمى «طريق الحرير»، ليتحول إلى أكبر مشروع مواصلاتي في التاريخ، يربط الشرق بالغرب، الصين بالعالم، بحرًا وبرًا، وتم العمل به بجهد استراتيجي فكري واقتصادي ولوجستي جبار، حتى بات واقعًا وحقيقة.
يقول الصينيون عن مشروع «الطريق الحزام» أنه يهدف «لإصلاح المشهد السياسي والاقتصادي المعاصر على قاعدتين جديدتين، العدالة والعقلانية»، في مواجهة ادعاءات العولمة التي أطلقها الأمريكان منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، والتي كان هدفها الرئيسي تهميش الأقطاب الصاعدة (الصين، روسيا والهند).
وقد تزامنت هذه التصريحات مع بداية حرب تجارية فعلية تشنها الولايات المتحدة ضد الصين، بفرض رسوم جمركية تزيد على 25% من قيمة صادرات صينية تزيد على 34 مليار دولارا كدفعة أولى، في نظام جمركي جديد يشمل مزيدا من الضرائب على صادرات صينية أخرى تقدر بمليارات من الدولارات... وجاء الرد الصيني للمعاملة بالمثل.
لم يعد هناك شك بأن الصين تمكنت باستراتيجية مُحكَمَة من إلغاء السيادة الأمريكية على العالم، بقوتها الاقتصادية وتكتلاتها الاستراتيجية القوية التي باتت تتعامل مع الغرب بتفوق يتجاوز الندية، بدءًا بمنظمة شنغهاي للتعاون، ثم مجموعة «بريكس»، ثم البنك الآسيوي للتنمية، الذي يقوم بدور المنافس للبنك الدولي، على قاعدة «العدالة والعقلانية»... القاعدة التي لا يؤمن بها الغربيون بالإطلاق... والقاعدة التي حولها الأمريكيون إلى مجموعة شعارات هجينة وممسوخة وكاذبة متمثلة في ادعاءات حقوق الإنسان، ومواثيقها، لتكون سلاحًا جديدًا لعودة الاستعمار القديم إلى عنجهيته.
من المهم جدًا التعرف على الاحتمالات، التي تزداد تأكيدًا كل يوم، حول نشوب حرب في أقصى شرق آسيا، لما لها من انعكاسات مباشرة على منطقتنا العربية، في أقصى غرب آسيا، والتي تزداد أحداثها تصعيدًا باتجاه حرب جديدة قادمة في منطقة الخليج، ستكون أشد تدميرًا من الحروب السابقة... حرب، لا مصلحة لنا فيها، بل تحتاج إليها الولايات المتحدة لإبقاء سيطرتها على المنطقة ومواردها وبحارها ومضائقها، إضافة إلى تحييد الموقف العربي لصالحها على المستوى الدولي والأممي، في حروبها القادمة ضد الصين أو أي قطب آخر.
ولمعرفة علاقة الحربين ببعضهما، بات من المهم العودة لقراءة ذلك التاريخ القريب لحرب السنوات الثماني السوفيتية الأفغانية، وحرب السنوات الثماني العراقية الإيرانية الموازية لها (1980-1988)، وقراءة فترة ما سبق اندلاع الحربين بدءًا بالحرب الإعلامية، والهجمات الإيرانية على الحدود العراقية، وصولاً إلى الغارات الإيرانية على بغداد... من المهم قراءة ذلك التاريخ لمعرفة مدى تشابه أحداثه مع الأحداث الراهنة، التي ترمي إلى زج العرب في حرب مباشرة و/أو بالوكالة مع إيران، بموازاة حرب أمريكية ضد الصين.
ومن دون الدخول في التفاصيل التي عشناها يومًا بيوم، بات أكيدًا أن حربي السنوات الثماني تلك كانتا حربين بالوكالة بامتياز، وكانت الولايات المتحدة الرابح الأكبر فيهما، من دون أن تكون أرضها ساحة للمعارك، أو قواتها وجنودها وقودًا لها، بينما خرجت الدول الأربع من الحربين مدمرة ومهزومة بملايين الضحايا من أبنائها وأرقام فلكية من مواردها واقتصاداتها.
تمكنت الإدارة الأمريكية من أن تشحن وتمول الحربين بأبناء واموال الخليج، عبر مقايضات غبية توزعت بين وعد الخلاص من الشبح الشيوعي «الكافر» من جهة، ووعد توفير الدعم الأمريكي للمنطقة في مواجهة إيران التي بدأت حينها بتصدير ثورتها المشؤومة لمنطقتنا من جهة أخرى، بينما استمر الأمريكان في توفير الدعم الاستخباراتي (بالأقمار الصناعية)، والدعم العسكري وكل أنواع الأسلحة إلى إيران عبر بوابة إسرائيل (إيران جيت Iran Gate) طوال فترة الحرب، لضمان استمرارها حتى النهاية المرسومة لها.
والأكثر إجحافًا أن الحربين لم تنتهيا بانتهاء المعارك، بإعلان سقوط الاتحاد السوفيتي وانتصار الولايات المتحدة، بل استمرت المخابرات الأمريكية بعد ذلك في استثمار كل القوى الدينية المتطرفة، التي صنعتها للحرب الأفغانية، في معارك لاحقة بدأت بحرب البلقان في التسعينيات، ولم تنته حتى يومنا هذا بحروب الإرهاب التي تجتاح وطننا العربي، والتي بات واضحًا أنها أخطر الأسلحة دموية وتدميرًا في مشروع التغيير الجيوسياسي الأمريكي السيئ الصيت.
ونتوقف هنا عن سرد المزيد من التفاصيل حول ذلك التاريخ الذي نحن في أمسّ الحاجة إلى استرجاعه واستيعابه اليوم لدراسة بعض الظواهر السياسية الإيرانية والأمريكية الجديدة، والشبيهة لما حدث في تلك الفترة، والتي تدفع بقوة في اتجاه توريط دول الخليج في حرب جديدة، مباشرة، وبالوكالة، أمام إيران وأذرعها وعصاباتها الإرهابية والمليشياوية المنتشرة في المنطقة.
ونتساءل هل يمكن أن تمر الأكاذيب الأمريكية مرة أخرى على صانع القرار في الخليج، وهل سيُلدغ الخليجيون من ذات الجحر مرة أخرى؟؟؟
بعد احتلال العراق (2003) نجح الأمريكان في كسر ميزان القوى الأمنية في الخليج العربي بإهداء العراق إلى إيران على طبق من الفضة (بعد هزيمتها أمام العراق في حرب السنوات الثماني)؛ وبعد ما يُدعى بـ«الربيع العربي» نجح المشروع الأمريكي في زعزعة النظام الرسمي العربي، ونشر الفوضى السياسية التي مازال غبارها يعمي الأبصار عن رؤية الواقع والمستقبل المرسوم لبلادنا.
وتعيش اليوم المنطقة العربية حالة حرب إعلامية، تتلاعب بالعقول والقلوب، لدفع بلادنا إلى أتون حرب قذرة جديدة لا يعلم غير الله كم سيطول أمدها... فالدور الذي يلعبه الأمريكان مع إيران ما هو إلا لعبة جديدة-قديمة، يجيدها الطرفان، وهدفها الرئيسي هو إشعال حرب ستأكل الأخضر واليابس على أرضنا العربية، بعيدًا عن الأرض الأمريكية أو حتى عن ساحة إيران الداخلية.
وبتحليل بسيط لحرب التصريحات الإعلامية الأمريكية، الإسرائيلية والإيرانية، يمكن لأي محلل استراتيجي على علم ودراية معرفية وافية بتاريخ منطقتنا أن يستنتج أن هناك اتفاقا أمريكيا إيرانيا إسرائيليا على زج منطقة الخليج العربي في أتون حرب ستحوّل منطقتنا إلى رهينة يتم استثمارها لصالح حرب أخرى في بحر الصين الجنوبي، أو ضد أي قطب دولي آخر... حرب ستحرق أرضنا وشعبنا العربي، ولا مصلحة لنا بها.
إن أي حرب قادمة في منطقة الخليج العربي ستكون نزيفًا بشريًا واقتصاديًا طويل المدى، ولن تكون نتائجها أقل تدميرًا من الدمار الجاري في العراق وسوريا وليبيا، وستقلب كل موازين القوة في الإقليم، كما ستُمحي حدود «سايكس بيكو» لتحل محلها خريطة جديدة بمجموعة من الدويلات الطائفية على النموذج العراقي الذي صنعه الاحتلال الأمريكي مع العدو الإيراني، لتنبثق من هذه الحرب خريطة الشرق الأوسط الجديد، والمنزوع من كل مصادر القوة... ورغم بساطة كتابة هذه الكلمات، فإن الحرب القادمة ستكون بشعة ومدمرة، على جميع المستويات... من دون أن ننسى مرة أخرى أن نؤكد بأن الحروب لا تحل المشكلات، والخلافات، أبدًا، وإنما فقط ترحّلها إلى حروب قادمة.
تعاني منطقتنا العربية عمومًا، والخليجية خصوصًا، من غياب (أو تغييب) ذاكرتها التاريخية، ومن عدم استيعاب المفهوم الاستراتيجي للعبة المصالح الغربية، الخالية تمامًا من «العدالة والعقلانية». ويبدو أن هناك من لا يزال يعيش على أحلام واعتقادات قديمة بأن الغرب مازال وسيبقى حليفًا لن يقبل بإسقاط دول الخليج العربي (النفط)... ومن المؤسف عدم استيعاب مدى خطأ هذا الاعتقاد، وأن هذه القراءة التي خلقتها ورسختها اتفاقية سايكس بيكو في باطن العقل الخليجي انتهت صلاحيتها، ولم تعد تناسب خطط واستراتيجيات الغرب للمنطقة منذ انتهاء الحرب الباردة في 1989... لذلك من المؤسف أن يكون هناك من يعتقد أن أي رئيس للولايات المتحدة، يجيد التلاعب بالألفاظ، والعقول والقلوب، ويجيد الخدع السحرية (جلا جلا)، سيدعم منطقتنا في مواجهة إيران، المدعومة بالسياسات الأنجلوأمريكية، والمتأهبة للانقضاض على المنطقة في اللحظة التاريخية التي تناسب مصالحها لتلتقي مع المصالح الأمريكية في الصراع حول «مَن هو سيد العالم»... والنموذج العراقي لهو أبشع من أن يتم تجاهله.
ومن منطلق التحالفات الخفية، الأنجلوأمريكية-الإيرانية، يجب ألا يغيب عن بال العرب أن إيران تلعب اليوم أخطر أدوارها في سوريا واليمن، ولم يعد خافيًا حجم الخلافات التي بدأت تتشكل في الساحة السورية بين روسيا وسوريا من جهة، وإيران من جهة أخرى، والتي زادتها حدة الغارات الإسرائيلية المستمرة، التي يقال بأنها لضرب أهداف إيرانية في دمشق، والتي جاءت بعد «تفاهم جديد تم إبرامه بين روسيا وإسرائيل مؤخرًا»... وهو ما يدل بوضوح على مدى الخطر الذي تشكله إيران «على استراتيجية روسيا في سوريا على المستويين العسكري والسياسي، ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا لإنجاز تسوية في سوريا في إطار دولة علمانية وفيدرالية مع الاحتفاظ بقواعدها العسكرية الساحلية، تتطلع إيران لإنجاز تسوية في سوريا تؤكد دورها الإقليمي في إطار مشروع آيديولوجي قومي فارسي ودولة طائفية» (عمر الرداد، عميد سابق في المخابرات العامة الأردنية، ومحاضر في الأمن الاستراتيجي الإقليمي، منتدى فكرة 25/6/2018).
وهناك في سوريا واليمن، اللتين باتتا منطقتين كفيلتين «بتوريط الدول الإقليمية والدولية فيهما»، كما جاء في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، هناك يتم حاليًا تجنيد إيران ورسم دورها القادم، لزج المنطقة في حرب جديدة، باتفاق إسرائيلي أمريكي إيراني، كما تم تجنيدها سابقًا لحرب السنوات الثماني ضد العراق... أما ساعة الصفر فهي من الأسرار القومية للأقطاب الدولية التي تتنازع على سيادة العالم.
لذلك نضع هنا أصعب سؤال أمام من يعتقد أن أي رئيس أمريكي خلال القرن الواحد والعشرين يمكن أن يكون حليفًا وعونًا للعرب... يا ترى لماذا لا يُخرج الأمريكان إيران من العراق، لتحييد قوة إيران المزعومة، التي يتم ترهيبنا بها؟؟!!، عوضًا عن التهديدات الإعلامية الجوفاء التي لم تحقق حتى الآن أي فعل رادع ضد إيران؟؟؟... أليس الموقف الدولي مع حوثيي إيران من صعدة إلى صنعاء، ثم الحٌديدة، دليلا حيا ونموذجا آخر للتواطؤ الأنجلوأمريكي مع إيران ضد العرب؟؟؟... قد تفتح الإجابة عن هذين السؤالين أبواب المعرفة المغلقة أمام الشعوب والقيادات الخليجية، من دون أن ندفن رؤوسنا في الرمال خوفًا من مواجهة الحقيقة.
وختامًا، وبكلمات بسيطة نعيد مأثورة الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، والتي أطلقها من منفاه بعد فوات الأوان، «المتغطي بالأمريكان عريان» يا جماعة... فلن تخرج هذه الأمة من عنق الزجاجة إلا بقوة عربية مؤمنة، وفكر عربي استراتيجي، خاليين تمامًا من النكهة الأجنبية.
وفي ظل شح المعلومات، ستبقى الأحداث مرشدنا لفهم وتحليل الأجندات والمشاريع والاستراتيجيات الدولية التي يزداد سعيرها مع ازدياد قوة المواجهة بين الاقطاب الدولية... آملين أن تحدد بلادنا العربية موقفًا قويًا وداعمًا بجانب العدالة والعقلانية الشرقية، ضد الظلم والابتزاز الغربي.