«كلمـــــاتٌ مـــن العقـــــل»

هـــل نحـــن عــلى مـــوعــدٍ مــع حــــربٍ قــادمــــة فـي نهـايـة العقـد الثـانـي مـن القــرن الجـديـد؟؟

يقوم الإعلام «العالمي» بدور ذكي وناجح في تعطيل قدرات دولٍ محددة على التنبؤ بما هو متوقع، رغم أنه، نظرًا إلى المتغيرات الدولية الكثيرة والمتسارعة، صارت الأمم المتقدمة تولي اهتماما بالغًا بالتنبؤ بما هو غير متوقع، فما بالك بما هو متوقع... لذلك كثيرًا ما يُوصف العرب بالسذاجة، والرومانسية، في تحليلهم للقضايا السياسية على جميع المستويات، حيث بات شائعًا تحليل قضايانا بحسٍ عاطفي ساذج أكثر مما هو فكرٌ واقعي يملك الأدوات العلمية السليمة.

فمن السذاجة أن نعيش كل هذا التغيير الجيوسياسي الخطير جدًا، الذي يجري في منطقتنا وبلداننا ومجتمعاتنا، دون تفعيل أدواتنا الذاتية (وليس أدوات الآخرين) للتنبؤ بما هو قادم، ومن دون الاعتماد على مراكزنا الفكرية (وليس مراكز الآخرين) للبحوث والدراسات المستقبلية، بهدف صناعة القرار السليم في مواجهة المستقبل المعتم، والحفاظ على مصالح الدولة والمجتمع، كما تفعل الدول التي أشعلت منطقتنا حربًا وتدميرًا، والتي تبتزنا بكل وقاحة ونحن مستسلمون.
والأكثر سذاجة هو رؤيتنا السطحية للقضايا الخطيرة التي عشناها بالأمس، ونعيشها اليوم، وسنعيشها على الأمد المنظور... وتفسيرنا لأحداث المنطقة بعيون وفكر (الآخرين) أصحاب المصالح الكبرى، المتصارعين على الكعكة العربية، الذين لا يسمح لهم تاريخهم الاستعماري اللا إنساني أن يكونوا موضع ثقتنا، حتى نهاية التاريخ.
وبينما طبول الحرب على سوريا تُقرع اليوم، بعد سبع سنوات من التدمير والتشريد والقتل في مدنها وقراها وشعبها، من السذاجة الساذجة أن نتجاهل الخطر القادم من هذه الحرب وما بعدها، وألا نفكر ونتساءل يا تُرى لصالح مَن هذه الحرب؟!، وماذا بعدها؟، وخصوصًا بعد أن تأكدنا من نتائج الحروب على العراق ثم ليبيا، وغيرها.
ومن الغباء، وليس السذاجة فقط، أن نُصدق بأن هذه الحرب المدمرة تدميرًا شاملا هدفها التخلص من نظامٍ ديكتاتوري، أو سلاحٍ كيماوي، أو سلاح دمار شامل.
والأكثر سذاجة، بل وجنونًا لم يشهد مثله تاريخُ أية أمة، هو الانجرار العربي وراء الأحداث التي يتم صناعتها تصنيعًا دون رؤيةٍ معمقة مبنيةٍ على أسسٍ واقعية وتجارب التاريخ البعيد والقريب... وأهم هذه الرؤى هي أحداث الحروب التي خاضتها أممُ الغربِ، سواء في الحربين العالميتين أو في حروبها الأهلية أو حروب القرون الوسطى التي قادها الكهنة والكهنوتيون، والتي من بعدها كلها قررتْ تلك الأمم عدم توريط شعوبهم في حروبٍ مدمرة كالتي تجري على أرضنا العربية اليوم... وتعلمتْ تلك الأممُ أن «الحرب دائمًا تلِدُ أخرى»، ولن تكون الحرب حلا لأي أمر مهما كان عصيًا على الحوار والتفاوض.
ورغم شدة حساسية الوضع الإقليمي العربي اليوم، ودقة الأحداث التي تمر بها المنطقة برمتها، إلا أن مشاهد التدمير والقتل والتشريد والجوع والفقر والأمراض وانتشار الجهل والأمية بمعدلاتٍ غير مسبوقة، وانتشار الأنظمة الكهنوتية الثيوقراطية البشعة في الأراضي التي حررتها الولايات المتحدة وقوات الأطلسي، باتت كلها ثقلا نفسيًا، وضغطًا عقليًا، لا يمكن تحمله، ولا يمكن السكوت عنه، وباتت خطرًا يدق ناقوسه دون توقف، ومؤشرًا على انتشار مساحة الخطر الذي مازال البعض يعتقد أنه في منأى عنه... فما يجري في سوريا بعد العراق وليبيا لهو من أخطر مما يصوره الإعلام الغربي، وتابعه العربي الساذج... والذي يقول إن قتل الشعوب وتدمير المدن والأوطان ونشر الأنظمة الدينية الطائفية، فيها فرص للديمقراطية وسعادة للشعوب ما هو إلا كاذبٌ (كي لا أصفه بما هو أبشعُ من هذه الكلمة).
إن قوة تسارع أحداث المنطقة، وقسوتها، تتسببُ في شلِّ قدرة المحللين على التنبؤ بما هو قادم... إلا أنه من المؤكد أن إستراتيجية مشروع التغيير الجيوسياسي القسري الذي يجري في منطقتنا، بمسمى تشكيل شرق أوسطٍ جديد، قد دخلت منعطفًا جديدًا بعد أحداث عام 2011 التي سُميت بـ«الربيع العربي»... منعطفٌ فتح أبواب جديدة للوصول الأسرع والأكثر ضمانًا إلى الهدف... مرحلة جديدة في الإستراتيجية المرسومة، لتذليل المعوقات التي واجهها المشروع في المرحلة السابقة، التي انتهت بتغيير نظام تونس وليبيا، وتغيير غير متوقعٍ في مصر، وبحروب لا يبدو لها نهاية واضحة في سوريا واليمن... مع فشلٍ ذريعٍ في البحرين لم يرق لأصحاب المشروع على ما يبدو.
فهل يا تُرى دخل مشروع التغيير الجيوسياسي القسري الذي يمزق بلداننا، عموديًا وأفقيًا، إلى حيز التنفيذ من داخل بيوت الحكم، بالذكاء الغربي الاستعماري المعهود؟
ونقف عند هذا الحد لنؤكد أن منطقتنا العربية التي عاشت أربع حروب في كل عقد من العقود الأربعة الأخيرة، منذ سبعينيات القرن الماضي، تتوجه اليوم، مع نهاية العقد العشري الثاني من هذا القرن، نحو حرب محتومةٍ قادمة تَعِد المنطقة بمزيد من الدمار... وليس هذا تنبؤًا بما هو غير متوقع، بل بما هو متوقع بشدة، رغم أننا ندعو الله ألا يتحقق.
وأملنا كبيرٌ في أن يعي أبناء الأمة، المُختطَفة عقولُهم، بأن الحروب ليست نزهة، وألا يتمنوها لأي شعب من شعوب العالم كما لا يتمنونها لأنفسهم، وأن يعي مَن يطلب التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، ويحاول أن يصور هذا التدخل بأنه النجاة والخلاص الذي سيحقق السعادة والأمان لشعبنا العربي السوري، أن يعي بأن الجيش الأمريكي لم يدخل بلدًا إلا وسحق الصخرَ والبشر، ولم يعمل هذا الجيش يومًا على إسعاد الشعوب وتنميتها، ولم يعمل يومًا على إعادة بناء ما دمر، وكلمة «لم» هنا مطلقة... فهو جيش مُدرَّب «فقط» على اغتصاب الأوطان والشعوب، وكلمة «فقط» هنا مطلقة.
ولشعبنا السوري المنكوب كل التقدير والمحبة، والدعاء بالخلاص من هذه الحروب التي نُكب بها.