الـــكــذب والابـــتـزاز فــي لــعــبــة الأمــم

لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل، وصفٌ دبلوماسيٌّ للكذب في العرف الغربي بقوله إن «خلال الحرب تتطلب الحقيقة بعض الأكاذيب المساندة»، وفي موقع آخر يفسِّر ذلك بقوله إن «في وقت الحرب تكون الحقيقة ثمينة جدًا، الأمر الذي يتطلب حمايتها بحرسٍ شخصيٍّ من الأكاذيب»... ومن المؤسف قوله «إنه لطالما نجحت سياسات الكذب الغربية في إقناع العرب بأكاذيب تصيبهم بالعمى الذي شلَّ ويشلُّ قدراتِهم على صناعة القرار السليم...

ومما لا شك فيه أن العرب الذين كانوا حلقة من الحلقات الضعيفة في لعبة الأمم القديمة، قد دخلوا في لعبة الأمم الجديدة، بعد الحرب الباردة، وهم في أضعف حالاتهم، فأصبحوا لقمةً سائغة في مسلسل الأكاذيب والابتزاز الغربي الجديد...أي أن العرب وحدهم، من دون الأمم الأخرى، هم فقط من لم يتعلموا من دروس التاريخ، القديم والحديث، ومازالوا يستمرئون العيش في ظل الكذب والابتزاز الغربي، ولأسباب غير خافيةٍ على العقول الواعية.
في حديث مع مركز كارنيجي- الشرق الأوسط (http://carnegie-mec.org/diwan/75627) انتقد السيد روبرت فورد (أحد أعمدة الدبلوماسية الأمريكية في العراق منذ عام 2003. والسفير الأمريكي لدى سوريا بين عامي 2010 و2014. ولدى الجزائر بعد ذلك، وباحث أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن حاليًا)، انتقد الحكومة السورية لأن هذه الحكومة وحلفاءها يتفقون «على أنه لا ينبغي للدول الأجنبية أن تدعم الثورات الشعبية ضد الحكومات القائمة، وعلى أن القانون الدولي يبرِّر بشكلٍ حازمٍ طلب الحكومة السورية ذات السيادة الحصول على مساعدة عسكرية من دولة أجنبية، في حين يفتقد طلب المعارضة الحصول على دعم أجنبي إلى أي شرعية دولية» (انتهى الاقتباس)... ولتوضيح الكذب الخطير في هذا التصريح، ننوه بأن ما يُدعى بالدعم الخارجي للثورات الشعبية، الذي أشار إليه السيد فورد، يعد في القانون الدولي تدخلا أجنبيًا في الشؤون الداخلية للدول، ولا تعريف آخر لهذا الدعم المزعوم، وتعاني بلادي، مملكة البحرين، من هذا النوع من التدخل الفج من أطراف خارجية في شؤونها الداخلية، بذريعة دعم ما يطلق عليه السيد فورد، كذبًا وافتراء، «الثورة الشعبية»، وما هي إلا إرهابٌ دموي فاحش.
ونظرًا إلى الظروف المأساوية التي تمر بها بلادنا العربية، من المحيط إلى الخليج، منذ مطلع القرن الجديد، بذريعة مشروع التغيير الجيوسياسي القسري الذي سيرسم خريطة الشرق الأوسط «الديمقراطي» الجديد بحسب النظرية الأنجلوأمريكية، والتي حتى اليوم لم تجلب للمنطقة سوى الدمار الشامل والكاسح على جميع الأصعدة، نظرًا إلى هذه الظروف وجدتُ في تصريحات السيد فورد فرصة للحديث حول المتغيرات الجديدة في لعبة الأمم المتمثلة في مزيد من الكذب والابتزاز، العلنيين، والتدخل في الشؤون الداخلية لبلادنا العربية، بالإرهاب المذهبي تارة وبالغزو والقصف تارة أخرى.
وهنا نسأل السيد فورد: يا تُرى هل ستوقع الولايات المتحدة على أي اتفاقية دولية تعطي الشرعية لحصول المعارضات، أو الثورات الشعبية المزعومة، على دعم أجنبي؟!... وهل تسمح السلطات الأمريكية، لدولة أجنبية، كروسيا أو الصين أو الهند على سبيل المثال، أن تدعم المعارضة، أو الثورات الشعبية الأمريكية؟!... مع رجاء عقلاني ألا يُحاول السيد فورد، أو آخرين، تسفيه هذا السؤال باعتبار أن الولايات المتحدة، تعدُّ جنة الديمقراطية، ولا يوجد بها ثورات شعبية، أو معارضات مقموعة، إذ إن جمر ثورات الفقر والبطالة والعنصرية، ضد السود والأقليات، والتمييز ضد المرأة، وملايين المشردين الذين لا مأوى لهم، المتأجج فوق الرماد الأمريكي المتراكم لهو أكثر مما تحت الرماد... ورغم القهر والعهر الإعلامي الذي تمارسه كل السلطات الإعلامية في الغرب للتعتيم على هذه الحقائق، إلا أن حجم هذه الثورات يزيد ولا ينقص، وشَكلُ القمع الأمريكي العلني والسري لهذه الثورات أفقعُ من أن يغطيه التعتيم الإعلامي، منذ ما قبل المكارثية حتى اليوم.
قد توضح الإجابة على تساؤلاتنا هذه أمورا كثيرة، أولها هو حقيقة زيف كل الادعاءات الأخلاقية والمثاليات المزيفة التي نسمعها ليل نهار، منذ انهيار النظام الدولي القديم، من المحافل الأمريكية والغربية، ومن السيد فورد وزملائه الدبلوماسيين الذين يحاولون جاهدين تلميع صورة بلادهم الملطخة بدماء الأبرياء في كل بقاع العالم، وبفضيحة أبوغريب وجوانتنامو والسجون السرية، وبعار فيتنام وهيروشيما وناجازاكي وكثيرٍ من قضايا السي آي إيه (CIA) اللا أخلاقية واللا إنسانية التي لا حصر لها.
وقد توضح الإجابة أيضًا مدى زيف الأكاذيب المنسوبة إلى الديمقراطية التي تٌرسل إلى شعوبنا بصواريخ التوماهوك وتنزل على مدننا بقنابل الغارات الجوية المدمرة... الديمقراطية التي صدَّعوا بها رؤوسنا الصغيرة، التي استدركت، بل اقتنعت أخيرًا، بالأدلة والإثبات، بأنها مجرد مزاعم باطلة تخفي وراء صورتها الرومانسية أبغضَ قيم العنصرية والفقر والاحتلال، ومعسكرات التعذيب والاغتصاب... كما تخفي المعايير المزدوجة للمنظمة الدولية؛ ولمجلس حقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية، التي لا علاقة لها بحقوق الإنسان ولا بالعدالة البشرية.
وعلى مستوى آخر نتساءل أمام السيد فورد، وشعوب بلادنا العربية، الواقعة تحت سطوة الإعلام الغربي الخبيث، إعلام غزو وتأطير العقول، الذي نجح حتى الآن في نشر الدمار الشامل، وفوضى التدمير، في المنطقة العربية، نتساءل: يا ترى هل هناك مَن لايزال يصدِّق بأن الولايات المتحدة تدعم «الثورات الشعبية» المزعومة، وتحارب معها لمصلحة شعوبنا المسكينة؟!، ولمصلحة حقوق الإنسان والعدالة الإنسانية... وهل يحق لهذه «الثورات الشعبية» وداعميها تدمير البلاد على رأس العباد، بذريعة إسقاط النظام، أي نظام كان، باسم الديمقراطية؟؟!... وهل يعتقد السيد فورد بأن هناك مواطنا عربيا شريفا، من غير العملاء، وحثالة العرب، المجندين في الخارج، يتفق مع سياسات فرض الأمر الواقع الأمريكية، التي تعيشها المنطقة اليوم، تحت سطوة صراع الأقطاب حول مصالحها، وسطوة القصف والغارات الجوية!... هذا الصراع الذي لا علاقة له بتاتًا بمصالح بلادنا وشعوبنا، ولا بالديمقراطية المزعومة، ولا بحقوق الأقليات، ولا بأي شأنٍ إنساني عادل.
لا أعرف لماذا لا يتحدث السيد فورد، وزملاؤه الدبلوماسيون، عن الدمار الشامل الذي فعله الدعم الخارجي «للثورات الشعبية» المزعومة في بلاد مثل العراق وليبيا وسوريا واليمن؟!
في عصر النظام الدولي القديم، كانت للشعوب الواقعة في نطاق لعبة الأمم ثوابت أخلاقية محددة... كانت للوطنية وللخيانة مسمياتٌ ومواصفات ومعايير، وكان لكل مجتمع ثوابتٌ تميِّز هذا عن ذاك قبل أن يأتينا الغزاة الجدد بادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي فككت كل الثوابت الوطنية لصالح الابتزاز الاستعماري الجديد في نظامٍ دولي جديد.
كان طلب الدعم الخارجي ضد الوطن عارا وخيانة، مهما كان هذا الدعم وهذا الطرف الخارجي، ومهما كان شكل النظام الوطني وسياساته، فهو خيانة، وخيانة عظمى، وكل ادعاءات الديمقراطية والديكتاتورية لا تبرر هذه الخيانة. وكان الوطنيِّون يعملون على مقارعة أنظمة بلدانهم، بالحوار تارة والمعارضة تارة، وبالانقلابات الداخلية تارة أخرى، حيث كان الإيمان عميقًا بأن ما لا يتمكن المواطن الشريف من تغييره في سياسات وطنه، لن يغيِّره الخائنُ ولا الدعم الخارجي ولا الغوغاء... فالدعم الخارجي لهو أمرٌ سياسي بحت تقوم به الدول الأجنبية لمصالحها ولفرض هيمنتها وسطوتها ونفوذها فقط، وليس لأجل سواد عيون الشعوب، والأمثلة أمامنا ساطعة بقوة نور الشمس في بلادي.
في عصر الحرب الباردة كانت تعتمد لعبة الأمم على تحالف دول المعسكر الغربي مع أنظمة العالم الثالث، ضد شعوبها وشبح الشيوعية... وفي عصر حرب الإرهاب الذي نعيشه اليوم، تغيرت اللعبة وتحولت التحالفات إلى سلوكٍ ابتزازي علني بتهديد الأنظمة بشعوبها وبثورات شعبية مُدبَّرة وبشبح الإرهاب... وهكذا تُطحن أنظمتنا وشعوبنا معًا في طاحونة التحالفات الكاذبة، حتى إعلان ساعة الصفر.
وبحسب التاريخ، فللدبلوماسية الغربية خبرةٌ لا تُضاهى في الكذب والابتزاز، ولي عنق الحقيقة... ودبلوماسية الكذب تعد أحد أهم أدوات «القوة الناعمة» الذكية الغربية، ومن مبادئ الجيل الرابع من الحروب التي نعيشها، بحسب الخبير الأمريكي، البروفيسور ماكس مايوراينغ (13/8/2012) (youtube.com/watchv=jgWD8ljMFQc) بقوله: إن خلال هذه الصراعات الجديدة التي نعيشها اليوم يجب «العمل بدبلوماسية وعدم استفزاز الطرف الآخر» لضمان أن «يذهب العدو للنوم، ويستيقظ ميتًا».


كلمات دالة: