التلاعب بالأمم والشعوب

إن القاعدة الذهبية لسياسات القوى الدولية هي: «إظهار النزاهة والاستقامة، وإضمار الغدر والخداع ونية التلاعب بالأمم والشعوب»... مايلز كوبلاند «لعبة الأمم، اللا أخلاقية في سياسات القوة» 1969 (The Game of Nations/ Immorality of Power Politics). 
في 9 أبريل 2003, يوم دخول القوات الأمريكية إلى بغداد واحتلال العراق، خرج الدكتور محمد الدوري (آخر سفير وممثل لحكومة العراق الوطنية في الأمم المتحدة) من مبنى الأمم المتحدة يلحقه الصحفيون بأسئلتهم؛ وعند باب سيارته واجههم معلنًا جملته الشهيرة «انتهت اللعبة (game over)» وغادر من غير عودة، ودخل العراق في مرحلة التدمير المنظم منذ تلك الساعة.


في الذكرى الثانية عشرة للاحتلال الأمريكي للعراق، وجه الإعلامي طاهر بركة في قناة العربية سؤاله إلى الدكتور الدوري قائلا «ذكرت جملتك الشهيرة ذلك اليوم وغادرت، واليوم نسألك ما هي تلك اللعبة التي أعلنت نهايتها؟، ومتى بدأت؟»، فذكر الدوري بكلمات بسيطة إن اللعبة بدأت يوم تأميم وتحرير النفط العراقي من سيطرة الشركات الغربية (1972)، واللعبة هي بإيجاز عبارة عن منظومة من العمليات السياسية والمؤامرات المخابراتية اللا أخلاقية، قام بها الغرب ضد العراق منذ ذلك التاريخ بهدف عودة سيطرتهم على النفط العراقي (والعربي)، وها قد نجحت اللعبة أخيرا.
كلمات بسيطة ومختصرة تلخص تاريخًا من الغدر والخداع، والأزمات التي تتالت على المنطقة منذ ذلك التاريخ، بما في ذلك خطة انشاء قوات التدخل السريع الأمريكية، التي بدأت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بموجب توصيات مركز راند للدراسات (Think Tank) حول أهمية تدريب القوات الأمريكية على حروب الصحراء العربية بهدف احتلال منابع النفط (كان أول تدريبات هذه القوات في صحراء نيفادا الأمريكية، وآخرها في الصحراء المصرية، قبل استخدامها مباشرة لأول مرة في حرب «عاصفة الصحراء» ضد العراق، يناير-فبراير 1991).
تحديث اللعبة الدولية...
إن ما حدث للعراق، رغم بشاعته التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، إلا أنه لم يكن أمرًا جديدًا في الشأن الدولي، بل هو حلقة من حلقات لعبة الأمم، التي سبق التعرف على جزء يسير منها عبر الكاتب، وضابط الاستخبارات الأمريكي مايلز كوبلاند، وكتابه الشهير «لعبة الأمم، The Game of Nations»، بما تضمن من سرد حول اللعبة الأمريكية الغربية اللا أخلاقية، واللا إنسانية ضد مصر خلال فترة رئاسة جمال عبدالناصر (1952-1969).
تعد اللعبة ضد العراق الحلقة الأكثر تطورًا في مسلسل لعبة الأمم، بحيث تم تحديث اللعبة القديمة بما يتناسب مع عصرنا هذا ذي القوة الأمريكية المفرطة والمستفردة بالبطش العسكري والسياسي والتكنولوجي، دون رادع، بينما كانت اللعبة الأممية القديمة، التي بدأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تدور في فترة الحرب الباردة، ووجود ردع القطب السوفييتي الاشتراكي الذي كان يملك بجانب قوته المادية والنووية، قوة آيديولوجية تهز عرش المعسكر الرأسمالي برمته.
إضافة إلى ذلك، بدأت لعبة الأمم القديمة تلك خلال فترة كانت الولايات المتحدة في بداية تأسيسها لسياساتها الخارجية، وقوتها العسكرية والاستخباراتية، بعد تسلمها للتركة الاستعمارية في شرق المتوسط من القارة العجوز عمومًا، وبريطانيا العظمى خصوصًا... فكانت مرحلة تجريب وتخبط ضرورية أسست القواعد الرئيسية للعبة.
ومع سبعينيات القرن العشرين تسارعت التطورات في السياسات الخارجية الأمريكية واللعبة الدولية مع التطور الرأسمالي في عناصر الإنتاج والاستهلاك، ثم الثورة التكنولوجية، التي كان لها جميعًا دور رئيسي في تنميط عقول الأجيال المتعاقبة، وثقافاتهم في مواجهة القوة الرأسمالية الإمبريالية المنبثقة... ومع عقد التسعينيات بدأت ثمار كل هذه العناصر تبدو واضحة في ضمور الأفكار الثورية، والروح الوطنية وفكر العدالة الاجتماعية القومية واليسارية، لصالح انتشار وامتداد الحركات الأصولية والعقائدية الدينية وأحزاب الإسلام السياسي بمختلف توجهاتها، التي اتفقت على استبدال الوطن بالدين، والهوية بالعقيدة، حتى تغولت هذه الحركات بدعم أطراف مختلفة، على رأسها الحكومات المحلية.
قديمًا كان هناك الكثير من التساؤلات في خواطر الكثير منا عمّن كان وراء العديد من الأزمات والحروب في الشرق الأوسط، والعديد من الخلافات العربية، والأحداث والانقلابات وحركات العنف والتطرف؛ كانت تساؤلات لا تلقى الإجابة، حيث «المؤرخون عندما يؤرخون الحوادث، يهملون الجواب على مثل هذه التساؤلات، ويمتنعون عن القاء الأضواء عليها لأنهم نادرًا ما يعلمون عن خفاياها شيئًا. وكذلك يهملها الدبلوماسيون في مذكراتهم مدفوعين باعتبارات الأمن تارة، وبالرغبة في عدم الإيقاع بين الحكومات وشعوبها تارة أخرى. وهكذا تبقى حقيقة الأحداث مدفونة لا تعرف منها خافية، ولا ينكشف للجماهير منها سر، إلا ما كان بمحض الصدفة....» (لعبة الأمم، 1969).
ولكن اليوم، لم تعد للصدفة أو أحاديث الدبلوماسيين وتقارير المؤرخين أهمية، حيث فهم العالم نظرية لعبة السياسات الدولية اللا أخلاقية التي جسدها مايلز كوبلاند في كتابه الوثائقي الهام؛ وتطورت وسائل المعرفة، فبات من السهل قراءة الحدث وما وراءه للحصول على الإجابات المضمونة للكثير من التساؤلات التي لا يؤرخها المؤرخون ولا يقبل الدبلوماسيون الحديث عنها، حتى صار للدراسات المستقبلية شأن وأهمية قصوى في رسم السياسات الاستراتيجية لدقة مضامينها.
هذه هي اللعبة (لعبة الأمم) التي تحدث عنها الدكتور محمد الدوري في ذلك اليوم، وتمكن اللاعبون من استكمالها بعد احتلال العراق بمنهجية واستراتيجية تضمن نجاح مشروع الاحتلال على المدى الطويل.
لعبة التحالفات بالباطن...
وبناءً على مبدأ اللا أخلاقية في تلك اللعبة، يمكننا التأكيد على أن تدمير العراق، وتحويله من دولة ذات سيادة وجيش واقتصاد قويين، إلى دولة ممزقة منزوعة السيادة، فقيرة، من دون جيش وطني، وموئل للإرهاب والفساد والمليشيات والعصابات الإجرامية المسلحة، كان في قمة اولويات وأهداف مشروع الاحتلال الأمريكي-البريطاني، وحلفائها بالباطن... ولأجل ذلك، ولعدم ترك أي فرصة لفشل المشروع، خصوصًا بعد تصاعد المأزق الأمريكي أمام المقاومة العراقية الشرسة، نفّذ الاحتلال الخطة البديلة (Plan B)، كما يسميها الاستراتيجيون، والتي تتلخص في استثمار الحقد الإيراني-الإسرائيلي على العرب، فتم علنًا إهداء كل العراق وشعبه إلى إيران لتستبيحهما تدميرًا وتقطيعًا وقتلاً وتشويهًا وترهيبًا؛ وتم سرًا إطلاق يد إسرائيل للعبث بما تبقى من تاريخ ومستقبل العراق.
إذن المخطط الأمريكي-الإيراني لم يكن من نتائج اللحظة، بل كان ضمن استراتيجية الاحتلال، والاتفاق المسبق؛ ولولا الدور الإيراني الدموي في تحطيم الشعب العراقي ومقاومته، لما تمكنت شركات النفط الأمريكية من الهيمنة على نفط العراق، من منابعه إلى موانئه، ولما نجح المحتل في تحويل العراق من أقوى وأغنى دولة نفطية إلى واحدة من أفقر دول العالم، حتى صار يستورد الغاز والمواد الغذائية من إيران... ولما نجح في تحويل هذا العراق من دولة متقدمة علميًا، تزخر بالعلماء، خالية من الفساد، إلى دولة متخلفة، يتفشى فيها الجهل والأمية والأمراض وتحكمه الشعوذة، وتتصدر قائمة الدول الفاسدة... ومن دولة فريدة في خلوها من المخدرات والاتجار بالبشر، إلى دولة تعيش كل تفاصيل مؤامرة حرب الأفيون التي يلجأ لها الغرب دائما لتحطيم الشعوب الرافضة للاحتلال والاستعمار الغربي.
ولربما نحن اليوم بأمس الحاجة للتذكير بهذه اللعبة الخطيرة للحلف الأنجلوأمريكي- الإيراني-الإسرائيلي. ورغم ما يشوب هذا الحلف من تجاذب وتنافر في المصالح إلا أنه يعد أهم أركان مشروع القرن الأمريكي الجديد في المنطقة... وإنه لم، ولا، ولن، يتغير لصالح العرب، في ظل حالة الهزال التي تعيشها دولنا العربية عمومًا؛
ولن يتغير ما دامت البوصلة العربية معطلة ولا تميّز اتجاهات المستقبل؛ ولن يتغير حتى لو قَبَلَ العرب إسرائيل عضوًا في الجامعة العربية، أو تم التطبيع العربي الجماعي مع إسرائيل، سواء في معاهدة أمنية عربية إسرائيلية أو أي معاهدة أخرى؛ ولن يتغير مهما قدّم العرب من ضمانات وتضحيات لإسرائيل؛
فمن يعتقد أن الولايات المتحدة ستدخل في حرب ضد إيران، بينما تتحالف مع إيران في العراق، فهو يعيش في وهم كبير (ونطلب من الله أن لا تقع بلداننا الخليجية في كمين الزج بها في اتون حرب كارثية جديدة لن نجني منها سوى الدمار)؛ ومَن يعتقد عكس ذلك فهو غير ملم بالتاريخ، ولم يأخذ من الواقع العربي المدمر أية عبرة.
ولأولئك الذين يستهزؤون بأهمية قراءة التاريخ وفهمه لتجنب إعادة تجاربه المريرة يقول ابن خلدون «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق»، فالشعوب التي لا تقرأ التاريخ تبقى أبد الدهر تابعة ومُهدّدة، لا تعي من حقيقة الواقع إلا الظاهر، ولا تتمكن من بناء المستقبل.
ولأولئك الذين يعتقدون بأن الإدارة الأمريكية الحالية أكثر رأفة بالعرب من إدارة السيد أوباما، السابقة، نعيد ما قاله الزعيم البريطاني الشهير، ونستون تشرشل، عن نهج الولايات المتحدة أن «الأمريكيون ينتهجون الخطوة الصحيحة بعد تجريب كل الخطوات والأساليب الخاطئة»، بمعنى أن الاستراتيجية الأمريكية فيما يتعلق بالمنطقة ثابتة، والتغيير يتم فقط في أنماط التعامل وفقًا لنوع الحدث وظروفه وطبيعته.
ولكي لا نقع ضحية سياسة الاستغفال، التي لطالما مارستها وتمارسها الإدارات الغربية ضد العرب، وقبل أن نكتشف بأننا أهدرنا المزيد من مصالحنا وثرواتنا المهدورة في «لعبة الأمم» الجديدة، لربما نحن بحاجة للتأكيد، وبقوة، على أن الغرب لم يكن، ولن يكون، حليفا للعرب، حكومات وشعوبا، ما لم يفهم العرب عقيدة هذه اللعبة وسبل مواجهتها، وما لم يفهم العرب حقيقة الدولة الأمريكية العميقة، الصانعة للقرارات الاستراتيجية طويلة الأمد، والتي تتوارث تنفيذها الأجيال والإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبأدق الأدوات التي لا تستثني منها الدبلوماسية، ولا أولئك الدبلوماسيون المبعوثون إلى مناطقنا لتمرير الإملاءات التي عادة ما تكون عبارة عن مشورة لا تزيد على جملة، أو رأي أو ابتسامة.
ما بعد العراق...
هناك فاصل استراتيجي في تاريخ عالمنا العربي بين ما قبل احتلال العراق وما بعده؛ هذا الفاصل الذي يتجاهله العرب كي لا يعترفوا بخطيئتهم الكبرى عندما سمحوا للجيوش الغازية بدخول المنطقة واحتلال العراق، كدولة استراتيجية كانت على مدار التاريخ عاملا رئيسيا في التوازن الأمني والسياسي الاستراتيجي العربي القومي، سواء أمام جيوش الغزاة، أو أمام الغزوات الفكرية والآيديولوجية التي كانت ولاتزال تستهدف الهوية العربية، منذ الحروب الصليبية حتى يومنا هذا.
عند ذلك التاريخ، ما بعد العراق، انتهت اللعبة القديمة، وبدأت لعبة الأمم الجديدة بأدواتها وأهدافها، ومصطلحاتها، فبدأت مرحلة: التغيير الجيو-استراتيجي، الحرب الاستباقية، الحرب الوقائية، الحرب بالوكالة، مبادرة الشراكة المجتمعية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الإرهاب، الطائفية، الربيع العربي، الإسلام المعتدل، نظرية المؤامرة، وسائل التواصل، القوة الناعمة... وغيرها من مصطلحات نستقبلها في المنطقة دون عمق فكري أو وضوح سياسي، ونستخدمها كما نستخدم التكنولوجيا، بعيدًا عن امتلاك القوة المعرفية التي تؤمّن لنا سبل صناعتها والحماية من مخاطرها الشرسة.
في خضم ذلك التغيير العميق في استراتيجيات اللعبة الدولية الجديدة، بدت واضحة مؤشرات تدني الوعي والفكر الاستراتيجي العربي في مواجهتها، وأهم تلك المؤشرات كان الدور العربي الخطير الذي لم يتوقف عند تدمير العراق، بل استمر في المشاركة بتدمير دول أخرى من ليبيا إلى سوريا وغيرها من الأحداث الراهنة... والنموذج الساطع أمامنا اليوم هو الحدث السوري الذي دخله العرب بإرادتهم، وتوغلوا فيه، حتى فقدوا بوصلة الخروج، بل فقدوا إرادة الخروج منه، حتى بدا ذلك فاضحًا عند توقفهم المفاجئ عن فتح سفاراتهم في دمشق وتراجعهم عن التصريحات الانفتاحية التي استبشروا فيها ببداية دور جديد لتصحيح ذلك الوضع المأساوي في سوريا... متناسين أن الأمر بيد مَن يقود تلك اللعبة اللعينة.
بوصلة العلاقات العربية...
إننا في القرن الواحد والعشرين، نعيش عصرًا بات فيه البيت الأبيض يمارس اللعبة بالعصا الغليظة، فلا يعرف غير لغة القوة والبطش والابتزاز والإملاءات سبيلاً لتحقيق مصالحه... عصر باتت المصالح الأمريكية أولاً وبعدها الطوفان... عصر فيه المصالح الأمريكية تستبيح قتل زعماء الدول علنًا، بعد أن كانت تفعل ذلك عبر منظماتها السرية... وتستبيح تدمير الدول وتشريد وتجويع وتعذيب الشعوب علنًا ليصبحوا عِبرة ووسيلة ترهيب امام الدول الأخرى... عصر يتميز بالتهديد الأمريكي العلني للدول والملوك والرؤساء والشعوب، بمصير العراق وقادته وشعبه، فصنعت من جريمتها في العراق نموذجًا للترهيب والابتزاز... وبذلك النموذج، الذي صنعت نسخته الثانية في ليبيا، تعمل على مواجهة كل من تسوّل له نفسه معارضة القرار الأمريكي مهما كان نوعه... عصر بات من أهم متطلباته إيجاد القوة الرادعة للبطش الأمريكي العسكري والإرهابي والاقتصادي والاستخباراتي والتكنولوجي.
ويبدو واضحًا بأن هناك خللاً في علاقاتنا العربية الدولية، وفي بوصلة اتجاهنا نحو الأقطاب العالمية... فالبوصلة التي توقف اتجاهها على علاقات نظام الحرب الباردة القديمة، غير قادرة على تصحيح اتجاهها نحو بناء قوة نوعية ذاتية داخلية وخارجية يهابها الغرب، وتوجهنا نحو قوة معرفية وعلمية وصناعية تحمينا، شعوبًا وأنظمة، من الاستغلال والابتزاز الذي أصبح علنيًا.
وأخيرا لن تستقيم علاقاتنا العربية مع الأمم الأخرى، بالندية وتبادل المصالح، ما لم نمتلك العلم والمعرفة والذكاء السياسي والبراجماتي الذي يضع مصلحة الكتلة العربية، القومية والقطرية، في قمة أولويات صانع القرار السياسي العربي؛ وما لم نملك أمر شأننا الاقتصادي والعلمي والتعليمي؛ وما لم نتمكن من استثمار ثروات وموارد المنطقة واقتصاداتها استثمارا رشيدًا لصالح الأمن القومي العربي، في مشروع تنموي يصنع القوة العربية... وبخلاف ذلك فإن كل السياسات العربية الفردية لن تجلب للمنطقة ولكل بلاد العرب سوى الدمار الذي يتم تنفيذه بمنهجية عالية الدقة، ولقد ثبتت صحة هذه الشهادة منذ أحداث «ربيع» 2011، واحتلال العراق 2003، وكارثة ما بعد 11 سبتمبر 2001... والشواهد لا تعد ولا تحصى.