في العراق.. بداية ونهاية الحلم الأمريكي

كان للدكتور مهدي المنجرة رأي في حروب القرن الماضي، التي بدأت في منطقتنا العربية بالتحديد منذ بداية «عهد ما بعد الاستعمار»، فأطلق عليها مسمى «الحرب الحضارية الأولى» ... أما حروب القرن الواحد والعشرين فوصفها بالحرب الحضارية الثانية وبأنها ستكون بداية نهاية هيمنة القطب الواحد على النظام الدولي. («الحرب الحضارية الأولى»، الدار البيضاء - المغرب 1991).
وأكد الدكتور المنجرة، عالم الدراسات المستقبلية، أن العالم الثالث سيكون مسرح تلك الحرب الحضارية، وأنها نتيجة حتمية لاختلال موازين العدالة والقيم الإنسانية ما بين الشمال والجنوب، ونتيجة لهيمنة منطق القوة عوضًا عن منطق الحوار بين الشعوب والأمم، ونتيجة حتمية لسياسات دول الشمال في الإصرار على أهدافها ومآربها «نظير امتصاص دماء الضعفاء» الذين يعانون ويلات الحروب بمختلف أشكالها، إضافة إلى الحرب الاقتصادية الشعواء التي تحاصر بها دول الشمال كل دول الجنوب.

لا يحتاج الأمر اليوم إلى الكثير من المعرفة والذكاء لإثبات صحة تلك الدراسة الاستشرافية التي وضعها الدكتور المنجرة مباشرة بعد انهيار منظومة النظام الدولي المتعدد الأقطاب في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وها هي منطقتنا العربية تعيش تلك الحرب الفاقدة لجميع القيم الأخلاقية والإنصاف والعدالة الإنسانية... حرب حضارية بين الشمال والجنوب يسودها منطق هيمنة القوة، ويغيب عنها، بسبق الإصرار والتعمد، منطق الحوار... حرب تتفرق في أسبابها ومآربها، وتتوحد في بشاعتها بالتدمير والتجويع والمذابح، والانتهاك الجماعي للحقوق الإنسانية لشعوب ومجتمعات بأكملها، في ظل تعتيم إعلامي قادر على إخفاء صورة هذه البشاعة التي تعيشها شعوب ودول كبرى في المنطقة العربية.

كانت تسعينيات القرن العشرين عقدًا أمريكيًّا بامتياز.

ولكن في غمرة نشوة الانتصار على الاتحاد السوفيتي، ونشر حروب البلقان المأساوية التي نجحت في تفتيت الإرث السوفيتي، أخطأت الولايات المتحدة في تقدير مستقبل المجتمع الدولي وقوة الأقطاب الجديدة الصاعدة... وتصاعدَ حلم القرن الأمريكي الجديد، بنظام دولي تتربع الولايات المتحدة على قمة قطبه الأوحد.

بدأت «الحرب الحضارية الثانية» مع تفجير البرجين في نيويورك، فيما سمي لاحقًا أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، وقيل إن بن لادن ورفاقه (العرب المسلمون) خططوا لها وأداروا عملياتها من كهوفهم السحيقة في أفغانستان، وكان إعلان الحرب على الإرهاب حينها بداية انطلاق الحرب ضد المبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية في عالمنا العربي، لرسم خريطة جديدة للعالم الثالث تتناسب مع الطموح والحلم الأمريكي، بدءًا بغزو واحتلال أفغانستان، وصولاً إلى العراق، لتمتد حروب الإرهاب بكل مسمياتها في كل المنطقة العربية التي تعيش أسوأ فتراتها تاريخيا.

إنها حرب لا أخلاقية ليس لها نهاية، حرب تدور بموجب عقيدة المحارب الأمريكي، التي قال عنها روبرت فيسك إنها عقيدة «تسمح بعدم إنهاء أي صراع إلا بتدمير العدو تدميرًا شاملاً. فهي لا تسمح بالهزيمة ولا تسمح لأي شخص أبدًا أن يوقف القتال» (الاندبندنت، 16/9/2006) ... حرب كسرت كل قواعد الحروب، التي كانت تفخر بقيم الشرف العسكري على أن «في الهزيمة تحد... وفي النصر الشهامة» (ونستون تشرشل).

إذن، بموجب عقيدة المحارب الأمريكي التي صنعها جورج بوش الابن، فإن الحرب على العراق لم تبدأ لتنتهي قبل استكمال تدمير البلاد والعباد تدميرًا شاملا... لذلك بدأ مبكرًا تنفيذ مخطط الاستعانة بإيران ومخزون حقدها الأسود ضد العراق، لتكون حربًا إيرانية بأحزابها العقائدية الإرهابية، وجيوشها المليشياوية الجرارة والمدججة بكل أنواع الأسلحة، ضد الشعب العراقي الأعزل... حربًا بالوكالة للحفاظ على الهيبة والصورة الهوليوودية الخارقة للجيش الأمريكي، التي هزتها المقاومة العراقية الشرسة في الفترة الأولى من الاحتلال... حربًا تشغل الجميع عن سرقة ثروات وموارد وخيرات العراق النفطية والمعدنية والتاريخية... وحربًا تهدد كل العرب بعقيدتها الطائفية الباطنية الدموية، وتمهد الطريق لتحقيق الحلم الأمريكي.

استعان الأمريكي بالحقد والسم الفارسي لاستكمال تدمير العراق الذي بدأ منذ أبريل/نيسان 2003، فتم تسليم العراق إلى إيران، لتصنع خلال ست عشرة سنة تحت المظلة الأمريكية قوتها التي تتحدى بها العالم اليوم، ونسيت أن في العراق شعبا يحمل جينات الثورة والغضب العارم، عمرها يزيد على سبعين قرنا، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، جينات حققت انتصارات عراقية في أربعين حربًا وغزوا عبر التاريخ، وكان آخرها في عام 1988، فلن يصعب على هذا الشعب مواجهة إيران اليوم.

ولأن للحياة سننا أقوى من كل جيوش العالم مجتمعة، فكان لا بد للشعب العراقي أن يثور ضد الظلم، وضد هذا الحقد الفارسي الدموي الخالي من أدنى أنواع الرحمة وقيم العدالة والإنسانية... وبدأت هذه الثورة في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بواسطة أصغر أجيال العراق سنًّا، ليعلن الشعب رفضه لكل السلطة التي صنعها الاحتلال، ورفضه للفساد الذي أفقر العراق رغم ثرائه، ورفضه للظلم والإذلال الذي يعيشه العراقيون في ظل نظام حكم طائفي فاشل وفاسد ولا أخلاقي ولا إنساني... ثورة عراقية عارمة، مهما كانت نتائجها إلا أنها تبني وتؤسس قاعدة من الغضب والغليان لثورات متتالية قادمة، حتى يتجرع القائد الإيراني سم الهزيمة، كما تجرعه من سبقه.

إن ما يحدث في العراق ولبنان من ثورة كبرى ضد الوجود الإيراني لهو مؤشر واقعي على قوة المتغيرات الإقليمية، التي باتت في صميم اللعبة الدولية منذ أحداث 2011 في بلادنا العربية.. متغيرات بدأت مع وصول القوات الروسية إلى شواطئ المتوسط السورية، التي أعادت روسيا إلى الساحة الدولية كقوة عظمى، والتي كانت بمثابة الإعلان عن نهاية حلم القرن الأمريكي الجديد، ومشروع القطب الأمريكي الأوحد.. وبداية انطلاق الصراع الجديد في تشكيل نظام دولي لم يتحدد معالمه حتى الآن.. ولكن من المؤكد لن يكون أمريكيًا بأي شكل من الأشكال.

ومع صعود العملاق الصيني سقط المشروع الأمريكي للأبد، وبات الصراع أكثر احتدامًا على شكل النظام الدولي القادم.

فيا ترى هل سينهي العراقيون هذه «الحرب الحضارية» الشرسة في العراق، كما بدأت هناك، أم أن عقيدة المحارب الأمريكي اللا إنسانية واللا أخلاقية، ستبقي هذه الحرب مستمرة ما دامت تلبي طموحاتها؟ ... هذا ما سيحدده أبطال ثورات الغضب الذين عاشوا وعانوا من سطوة الحروب الأمريكية والأحقاد الإيرانية... وسيبقى العراق عبر التاريخ البوابة والحصن الذي يحمي المنطقة أمام جحافل كل الغزاة، وأولهم إيران.