نظام عالمي جديد... أين موقع العرب فيه؟!!

خلالَ آخرِ عقدين من القرنِ العشرين، خططتْ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيَّةُ ليكونَ القرنُ الواحدُ والعشرون قرنًا أمريكيًّا بامتياز، هو قرنُ الإمبراطوريَّةِ الأمريكيَّةِ التي «لا تغيبُ عنها الشمسُ»، فكرَّستْ من أجلِ حلمِها كلَّ إمكانياتِها السياسيَّةِ والاستراتيجيَّةِ والتكنولوجيَّةِ والعلميَّةِ والعسكريَّةِ والاستخباراتيَّةِ، لتكونَ القطبَ الأقوى والأوحد، بلا منازعٍ ولا منافس، في نظامٍ دوليٍّ جديد، وأن تكونَ لها الكلمةُ الأولى والأخيرةُ في قيادةِ هذا العالمِ الذي نعيشُ فيه.


معَ بدايةِ القرنِ الجديدِ جاءتْ أحداثُ 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك إيذانًا بإطلاقِ سطوةِ اليدِ الأمريكيَّةِ في الداخلِ والخارج، في عمليةِ إعادةِ بناءِ خريطةِ الهيمنةِ والسيطرةِ الجديدةِ في العالم، فوقَ خرائطِ الاستعمارِ القديمةِ، بفوقيَّةٍ وعجرفةٍ تعكسُ قوةَ ردةِ الفعلِ الأمريكيَّةِ على الانهيارِ السوفييتي المروّعِ في نهايةِ ثمانينياتِ القرنِ الماضي، الذي أوحى للأمريكان بحتميةِ تحقيقِ حلمِهم.
وبدا واضحًا، خلال تلك الفترةِ القصيرةِ التي استفردت فيها الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية بقيادةِ العالم، أن الإداراتِ الأمريكيَّةَ بدأت تعيشُ حالةً من فقدانِ التوازنِ الفكري والاستراتيجي والأخلاقي، حتى لم تعد تبالي بصورتها الورديةِ التي كانت توحي بها هوليوود للعالم الخارجي زيفًا، فتلطخت تلك الصورةُ بالحروبِ والصراعات، وطائرات تُنزل آلافَ الأطنانِ من القذائفِ على الأبرياء، وصواريخ التوما هوك تدكُ المدنَ، ومشاهد ضحايا قذائف اليورانيوم المنضب وأبشع أسلحة الدمار الشامل، وأبشع أنواع التعذيب في سجونها الموزعة حول العالم وسجونها الطائرة، وتشريد وتهجير الشعوب... وبذلك فقدت الولاياتُ المتحدة أهمَّ مقوماتِ القادةِ والقيادة، وهي العدالةُ والإنصافُ، والتي من دونهما يصبحُ القائدُ مجردَ جلادٍ يفرضُ وجودَه بالترويعِ والتهديدِ والوعيد... حينها بدأت تتشكلُ ملامحُ فشلِ الحلمِ الإمبراطوري الأمريكي.
وإذا أضفنا إلى ما سبق تعدد وتفاقم الأزمات الأمريكية في الداخل والخارج، والتي باتت تشكِّلُّ أورامًا سرطانيةً في الجسدِ الأمريكي، نصل إلى نتيجةٍ حتميَّةٍ تؤكدُ تنازلَ الولاياتِ المتحدة، مرغمةً، عن حلمِها ومكانتها الأولى في قيادةِ العالم، وقبولها بالشركاءِ في هذا المنصبِ الذي مازال خاليًا.
لقد ترهَّلَ النظامُ الرأسمالي الأمريكي وهو في أعلى مراحله، بما يحققُ صحةَ توقعاتِ العديد من المفكرين منذ أن نَظَّرَ كارل ماركس بأن «الرأسمالية ستدمر نفسَها».
نما هذا الترهُّلُ على كمٍ من المفاهيمِ التي صنعت الفسيفسائيةَ الأمريكية اللا قيمية واللا إنسانية وصولا إلى المرحلةِ الإمبرياليَّةِ المتمثلة في النظامِ الأمريكي الحالي بكل أبعادِه الاقتصاديَّةِ والعسكريَّةِ والاجتماعيَّةِ والتكنولوجيَّةِ، والتي باتت في الوقتِ نفسِه تشكِّلُّ تهديدًا لقوة هذا النظام... إنها قيمُ الإفراطِ في الإنتاجِ والاستهلاك، وتجويعِ الشعوبِ والأسواق، وسلعنةِ البشرِ والقيم، والإيحاء بالحريات من خلال وفرةِ القنواتِ التلفزيونيَّةِ، والإفراطِ في العنصرية، والتوغل في القسوة وفي فوقية الرجل الأبيض، والتوغل في انتهاكات حقوق الإنسان التي لطالما استخدمتها الإدارة الأمريكية كسلاحٍ لابتزازِ الدولِ وتدميرها.
وبينما الإدارة الأمريكية كانت تترنح أمام انتشار الجيل الخامس من الإنترنت (5G)، الذي أعطى الصينَ قوةً عالميَّةَ مميزة ومتقدمة، جاءت جائحةُ «كوفيد 19» لتزلزل الأرضَ تحتَ قواعدِ هذه الإدارة، بمنظومتها الصحية المهلهلة، ومنظومتها الاقتصادية التي نجحت الجائحةُ في كشفِ هشاشتها خلال فترة قياسية، فلم تكن وحشيةُ الشرطي في قتل جورج فلويد إلا «القشة التي قصمت ظهر البعير»، ليبدأ التعبيرُ الفعلي عن حالةِ عدم الرضا الكامنة والعارمة في صفوف الشعبِ الأمريكي بجميع أعراقه وألوانه، وليس فئة محددة كما يحاول أن يوحي به الإعلامُ.
إن ما تمرُّ به اليوم الولاياتُ المتحدة من تحدياتٍ خطيرة تشكِّلُ تهديدًا أكيدًا للنظام الرأسمالي الليبرالي، الذي يعدُّ عصبَ القوةِ الأمريكيَّةِ وأداةَ سيطرتها على العالم، منذ إنزالِ القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين حتى يومنا هذا. وما سيأتي بعد انتهاءِ العواصفِ التي تواجهها الولاياتُ المتحدة هو نظامٌ عالميٌّ جديد، ببعديه السياسي والاقتصادي، دون أن يعني هذا نهاية الرأسمالية الليبرالية الأمريكية، التي ستكون جزءًا من نظامٍ متعددِ الأقطابِ السياسيَّةِ والاقتصادية.
المهم، وبعد هذه الكلماتِ المفرطة بالإيجاز في وصفِ الحالةِ الأمريكية الراهنة التي يترقبُ العالمُ نهاياتها القريبة، فإن اللحظةَ الأمريكية تتقدم سريعًا... وهي ربما لا تشبه اللحظةَ السوفيتية التي شهدت السقوطَ الخطير للمنظومةِ الاشتراكية وتفككها، إلا أنها ستكونُ لحظةَ الاستيقاظ من حلمِ الإمبراطورية الأمريكية... لحظة إعلان الموافقة على أن تكون أمريكا «تاج القوة الغربية» أحد الأقطاب الدولية، وليس الرقم الأول والأوحد والأقوى في قيادة العالم، بل جزءا من المنظومة الدولية، التي ولأول مرة سيتشاركُ فيها الغربُ مع الشرق في قمةِ السلطةِ العالمية، بما سيضيفه الشرقُ إلى هذه القيادةِ من قيمٍ جديدة نرجو ونتمنى أن تكون أكثرَ إنسانية، بعد سنوات من هيمنة قيم الاستعمار والهيمنة الغربية التي تتغذى باستمرار على الحروب والأزمات. إنها لحظةُ سقوطِ الغرب من موقع القيادةِ والقوة المركزية في قلب العالم، أمام صعود نظام دولي جديد ثنائي القطبية، ولربما شبه متعدد الأقطاب.
إن النظامَ الدولي الجديد بات قاب قوسين وأدنى، ومعالمه باتت واضحةً، فلا يتطلبُ الأمرُ المزيدَ من التنبؤ والاستشراف، حتى إن هناك من يتحدثُ عن مناطق النفوذ الموزعة والمتفق عليها بين القطبين الرئيسيين، الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتي هي تمثل حتى الآن تحصيلا حاصلا لمناطق الوجود الاقتصادي للقطبين، حتى بات مشروعُ الطريق-الحزام «طريق الحرير» الصيني، أحد أهم معايير هذا التوزيع، إضافة إلى معايير وقواعد واتفاقات أخرى.
وفي خضم كل هذا تتجه منطقتنا العربية نحو أحداثٍ أكثر حدةٍ وتفاصيل أكثر دقة، من أهمها تلك التي ستشهدها العلاقات القادمة بين واشنطن وطهران من جهة، وواشنطن وأنقرة من جهة أخرى.
وضمن هذه اللعبة الأمريكية الجديدة في المنطقة اليوم، يندرج ما يسمى بالحوار الاستراتيجي الأمريكي العراقي، الذي انعقد عبر الدائرة التلفزيونية في الأسبوع الثاني من شهر يونيو الجاري، والموجه إلى إيران بشكل عام، والوجود المليشياوي الإيراني في العراق والمنطقة بشكل خاص، بعد أن مس ولسع الوجود الأمريكي، وخصوصًا بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الماضية، في عمليات القرصنة والمواجهة في بحر الخليج، وقصف منشآت أرامكو، والأحداث التي شهدها الأمريكان في بغداد بعد مقتل سليماني والمهندس.
إذن هناك رسالةٌ موجهةٌ من واشنطن إلى إيران وأذرعها وعصاباتها المليشياوية بشكلٍ عام، ولابد من أن آجال تنفيذها لن تتجاوز موعد الانتخابات الأمريكية، في نوفمبر القادم، إن لم يتم تأجيلها.
وفي الجهة الأخرى هناك ما يتم طبخه في ليبيا منذ نهايات 2019. منذ توجه الرئيس السراج إلى تركيا طلبًا للمساعدة في مواجهة تقدم الجنرال حفتر... وبمنطق نظريات صراع الأمم فإن هذه الدعوةَ لا يمكن أن تكون بعيدة عن موافقة الإدارة الأمريكية... وها هي بدأت تنكشف خيوط اللعبة.
إذن كل ما يجري اليوم في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا، ومع إيران وتركيا، لهو ذات علاقة مباشرة بترتيب الأوراق الأمريكية في المشرق والمغرب العربي، في مواجهة الصين وروسيا، قبل الإعلان عن النظام الدولي القادم قريبًا.
فهل يا ترى سيبقى العرب مجردَ مشاهدين لكل هذه الأحداث، أم أننا موعودون بالمزيد من الحروبِ والتقاتل والخلافات؟!، أي المزيد من الإرهاقِ السياسي والابتزاز الاقتصادي قبل فرضِ الشروطِ والسيناريوهات الدوليَّةِ الجديدة، لتحديد المحاصصة الدوليَّةِ في المنطقةِ العربية؟؟!.


كلمات دالة: