الـــعــــــرب وإيـــــــران... إلـــــــــى أيــــــــــن؟

يذكر المؤرخون العرب أن إيران «اتخذت في زحفها وتقدمها نحو الحدود الشرقية للوطن العربي ثلاثة مسارات:

الأول- التقدم إلى وسط العراق وإحداث حالة من امتداد في الأراضي العراقية وضم أجزاء منها بحيث يكون ذلك الامتداد قريبًا من بغداد فيسهل الانقضاض عليها وضربها، ويمنح الفرس قدرة في توجيه قواهم شمالاً أو جنوبًا وممارسة الضغط المستمر على العراق والتدخل في شؤونه.
ثانيًا-التقدم نحو عربستان وشط العرب.
ثالثًا- اختراق الخليج العربي (البحرين ثم الجزر الثلاث)». («الحدود الشرقية للوطن العربي، دراسة تاريخية» - مجموعة من المؤرخين، دار الحرية للطباعة- بغداد، 1981)
واليوم بعد أن انكشفت هذه الحقيقة الصارخة، في استراتيجيات وأهداف إيران التاريخية ضد العرب كأمة وتاريخ وحضارة وهوية، بل بات الأمر معلنا، بعد احتلال العراق، وباتت الأنظمة العربية، مكشوفة مباشرة أمام تهديدات إيران وأذرعها الداخلية، المتحفزة للانقضاض على السلطة حيثما تواجدت، وبعد أن انكشف النفوذ العقائدي والميداني الإيراني الذي يصول ويجول في المنطقة لزرع الأحقاد، وسلب الولاء، وتدريب الموالين على سبل الدفاع عن هذا الولاء العقائدي القومي الإيراني، بعد كل هذا، هل يا ترى تملك بلادنا العربية وسائل وأدوات المواجهة؟... هل تملك أدوات الصد النارية والعقائدية التي لطالما تمتلكها وتستخدمها إيران الباطنية، منذ ظهور الشعوبية (العصر الأموي)، حتى يومنا هذا؟. 
إيران لا تنخرط في حروب (منفردة)، لأنها لم ولا ولن تنتصر فيها، وهذه حقيقة يعرفها الإيرانيون أفضل من غيرهم... وللتأكد من هذه الحقيقة يجب الرجوع إلى دراسة تاريخ إيران منذ الحروب الصفوية (1502-1726)، حتى حرب الثماني سنوات الإيرانية العراقية (1980-1988)... والإيرانيون يعرفون هذه الحقيقة ويؤمنون بها، رغم أنهم، شعبًا وحكومة، يتظاهرون بعكس ذلك، وبغرور وعنجهية لا ولم تمارسها أية أمة في التاريخ البشري، ولا حتى أكبر قوة في العالم. 
لذلك إيران دائما تنتهج طريق التحريض والتحالف مع قوى عظمى، في كل حروبها وصراعاتها.
كانت للحروب الصفوية، التي امتدت على مدار مائتي عام ضد العثمانيين على أرض العراق، ظروفها الإقليمية والدولية، ولولا هذه الظروف لما بدأ الصفويون بإشعال هذه الحروب... ورغم ذلك لم يحقق الفرس انتصارًا فيها، بقدر ما حققت هذه الحروب نصرًا للأوروبيين في إضعاف تركيا العثمانية ووقف زحفها على أوروبا. 
وكذلك حرب الثماني سنوات التي اندلعت بين إيران والعراق، مباشرة بعد وصول الملالي للسلطة، كان لها أسبابها الدولية... ورغم ذلك انتهت بهزيمة إيران، ولكن انتصر الغرب بسقوط المعسكر الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة... وهذه الهزيمة الإيرانية الأخيرة جديرة بالدراسة للتأكد بأن الفرس لطالما نالوا الهزيمة في حروبهم ضد العراق، وهم لازالوا مرعوبين من هذه الحقيقة.
ولكن يجب الاعتراف بأن قوة إيران تتمحور حول عقيدتها الباطنية، التي تخزن فيها كل أحقاد الفرس ضد العرب... هذه العقيدة الإيرانية التي تتسلح بكل القيم الشيطانية من أجل تحقيق غاية رئيسية، وهي تحطيم العرب، وإذلالهم وإهانتهم وتحقيرهم... هذه هي العقيدة التي يتم زرعها وتكريسها في الوجدان الفارسي جيلاً بعد جيل، في كل فئات شعبهم، من اليسار إلى اليمين، من العلمانيين إلى الحوزويين، من الأغنياء إلى الفقراء، في مثقفي المدن إلى أميي القرى، وكل ما يقال عكس ذلك ما هو إلا كذب ورياء باطني يحترفه الفرس، وهدفه الحفاظ على قوة العقيدة التي نجحت في اختراق العرب على مدار أربعة عشر قرنًا، ولازال العمل بها مستمرًا.
هناك سرد طويل في هذا المجال يمكن تناوله، بالوثائق والأدلة المادية، لإثبات صحة كل كلمة قيلت وتقال حول التعالي والغرور والعنجهية والأحقاد الفارسية ضد العرب، ليس هنا مجال توثيقه، إلا أن ما عاشه العرب حديثًا، منذ السلوك الإيراني في نظام الشاهنشاهي المتغطرس سابقًا، ثم نظام الملالي لاحقًا، وكَمْ الدماء العربية التي أُريقت منذ ذلك اليوم في جبهات القتال، وفي ساحات المدن العربية، وفي تحريض الأعراق والطوائف، وفي حروب وكوارث الإرهاب ومعارك المليشيات والأحزاب الإيرانية، التي تعمل جميعها باسم الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الكرام، عرب قريش الأقحاح، لهي حالة مستمرة منذ بدايات القرن العشرين حتى يومنا هذا، ولازالت الأحقاد الفارسية تصب على رؤوسنا حمم النيران إلى أجل غير مسمى. 
عبر التاريخ، كانت إيران تخرج من حروبها ضد العرب مهزومة، ولكنها كانت تنتصر عليهم في المفاوضات. وعبر التاريخ، الذي ذكرناه على أقل تقدير، كانت تلك المفاوضات تُدار تحت رعاية القوى العظمى... فسلب الصفويون أراضي العرب على طول الساحل الشرقي للوطن العربي بالمفاوضات، بعد حروب لم تنتصر فيها، حيث كانت روسيا القيصرية وبريطانيا هما الحكمان الفيصلان في تلك المفاوضات، وكانا يحكمان فيها بما يخدم مصالح أوروبا، بإضعاف العثمانيين واستمرار الحروب في العراق، ولم يكن للحق والعدالة والإنصاف ذكر فيها. 
وهكذا، وعلى مدار خمسة قرون، استولى الصفويون على أراضي الساحل الشرقي للخليج العربي، من سواحل خليج عمان جنوبًا حتى آخر نقطة من الحدود العراقية التركية الإيرانية شمالاً، التي كانت كلها عربية بكل مقومات الجغرافيا والتاريخ. استولى الفرس على تلك المساحات الشاسعة من أراضي العرب، الثرية بالزراعة والمياه والنفط، بسهولة ويسر لأن العثمانيين دأبوا على التنازل، بهدف حماية أراضيهم في الأناضول، فكان «مَن لا يملك يتنازل لمَن لا يستحق»... واستفاد الفرس من تقادم الزمن في تغيير المعالم الحضارية لهذه المناطق ثم تغيير هويتها، عبر سياسة التشويه والإفساد والقهر واضطهاد وإبادة شعوبها.
وتتالت العصور، وتتالت القوى العظمى على المنطقة، فكان للفرس مع كل منها موقف يتمثل في التحالف معًا ضد العرب... وها نحن نعيش الزمن الإيراني- الأمريكي بامتياز، وبكل تفاصيله التي تثبت أن «التاريخ يعيد نفسه»... حيث «وافق شن طبقه» في استخدام الكذب والإفساد والاحتيال والإرهاب والمذابح والإبادة والوحشية لتمرير سياسات هي الأخطر في تاريخ العرب منذ الأزل... سياسات تعتبرها إيران فرصتها التاريخية التي لا يجب أن تمر دون تحقيق غاياتها. 
في ظل نظام مملكة بهلوي المتحالفة استراتيجيًا مع بريطانيا وإسرائيل، خلال القرن العشرين، انهت إيران ما تبقى من اتفاقيات وترسيم المناطق العربية المحتلة على الساحل الشرقي للخليج العربي... وجاء بعد ذلك نظام جمهورية الملالي لإكمال المسيرة بموجب استراتيجيات ما بعد الحرب الباردة، والمرحلة الانتقالية لقيام نظام دولي جديد، والسير في استراتيجيات غربية جديدة تعمل على اختراق شعوب المنطقة وتحريضهم... ومع احتلال العراق، واسقاط نظامه الوطني، بدأت مرحلة متقدمة من أحلام إيران التاريخية باختراق الساحل الغربي للخليج وفق نظرية المراحل، بعد أن تقاطعت طموحاتها مع المشروع الأمريكي في شرق أوسط جديد.
ومنذ ذلك اليوم أصبح التحدي والتهديد والتصعيد المكشوف والمعلن ضد العرب أداة قوة تتباهى بها إيران في ظل صمت عربي مذل... وزادت العنجهية والغرور وادعاء الشجاعة والقوة... فلم يعد الحصن العربي في العراق موجودًا... الحصن الذي لطالما أرعب الفرس وحطم احلامهم واطماعهم ضد العرب، منذ قادسية سعد بن أبي وقاص، حتى تجرُع الخميني سم الهزيمة في قادسية صدام حسين.
هذه هي الحقيقة التي يجب مواجهتها بكل واقعية إن كان العرب، شعوبًا وأنظمة، يطلبون النجاة.
وعلى هذا الأساس نضع تفسيرًا موجزًا للأحداث الجارية بين أمريكا وإيران في العراق اليوم، وبواقعية سياسية شديدة، بموجب مبدأي القوة والمصالح المعمول بهما، فإن تلك الأحداث تسير في طريق ترتيب أوراق المنطقة لصالح الولايات المتحدة (وإيران) في ظل التصعيد المتزايد بين الأقطاب الكبرى خلال المرحلة الأكثر حساسية التي يمر بها العالم قبل ظهور نظام دولي، جديد لم تتضح معالمه حتى الآن... والنتائج لن تكون لصالح العرب.
وتتركز خطورة ما يحدث اليوم في الوصول إلى طاولة التفاوض التي سيجلس حولها الطرفان الأمريكي والإيراني، وهو أمر قادم لا محالة (إن لم يكن قد بدأ فعلاً)، وخصوصًا بعد أن تم إزالة العسكري الميداني المتصلب قاسم سليماني، من طريق المفاوض الشرس الوزير جواد ظريف، المقرب من البيت الأبيض... والسيناريو المتوقع من هذه المفاوضات هو دخول إيران في مرحلة جيدة من العلاقات مع القوة العظمى الأمريكية، مما سينعكس وبالاً على المنطقة العربية... وستتغير اللعبة تمامًا، ولن تكون لصالح العرب عمومًا، والخليج العربي خصوصًا.
كلمات دالة: