نظام دولي ثنائي القطبية وحرب باردة جديدة

مع بداية العقد الثالث في الألفية الجديدة (2021) اكتملت أركان النظام الدولي الجديد الذي سيعيش العالم تفاصيله على مدار زمن طويل قادم... وتجلت ملامحه في الشرق الأوسط عند توقيع الصين وإيران على اتفاقية برنامج التعاون الشامل بينهما، والتي تعد حلقة في سلسلة المشروع الصيني لبناء تكتل شرقي-عالمي بمعايير جديدة في العلاقات والسياسات الدولية.


بدأت الصين مشروعها منذ تسعينيات القرن العشرين، وكان تأسيس "منظمة شنغهاي للتعاون" (الاقتصادي والأمني في منطقة أوراسيا) عام 2001 من البدايات الناجحة لهذا المشروع، لتليها منظمة بريكس "BRICS" التي تضم الدول صاحبة النمو الاقتصادي الأسرع في العالم، والتي تشكل مساحتها ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان العالم، وقد أعلن عند تأسيسها عام 2009 عن بدء نظام عالمي ثنائي القطبية.
أما القطبين في هذا النظام الثنائي القطبية فهما الكتلتين الأكبر عالمياً، الأولى: هي كتلة مجموعة بريكس، وتعد الأقوى بموجب المعايير المتعارف عليها دولياً في عدد السكان والمساحة والتنمية والاقتصاد والجيوش، والثانية: هي كتلة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمثل القوة الاستعمارية القديمة والجديدة.
وبهذا يكون المجتمع الدولي قد دخل عصر التكتلات بامتياز، وإن الدول المنفردة مستقبلاً ستكون أضعف من أن تحقق مصالحها خارج هذا الإطار.
القطبين- الكتلتين
يمكن التمييز بين القطبين-الكتلتين مبدئياً من خلال أدواتهما وسياساتهما وعلاقاتهما الدولية. إذ بينما العالم يتعرف بعمق على أدوات وسياسات القطب الشرقي المعلنة حتى الآن في نماذج حية من التعاون على التنمية والبناء والاستقرار والسلم المجتمعي، فإن أدوات القطب الغربي المعروفة للعالم هي الحروب والصراعات والدمار والهيمنة والابتزاز والبلطجة. وأهم أنواع الحروب والصراعات الجديدة التي يحافظ بها الغرب على إمبراطوريته ومصالحه الاستعمارية، والتي تُصنّف اليوم في خانة الحرب الأكثر سخونة، وتعقيداً، من الحرب الباردة، هي حروب الفوضى (الثورات البرتقالية)، وحروب بالوكالة ولا متماثلة (الإرهاب)، والحروب السيبرانية والمعلوماتية (القوى الذكية والناعمة).
وبهذه الأدوات المدمرة، تصول وتجول الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في المنطقة وفي العالم، منذ انتهاء الحرب الباردة. ومن المتوقع أن تستمر هذه الحروب لزمن أطول قادم في ظل النظام الدولي الجديد، لأن القطب الأمريكي أولاً: خسر حلم التربع على عرش قيادة العالم بنظام أحادي القطبية كان يخطط له؛ وثانياً: خسر (حتى الآن) فرصة الاتفاق مع القطب الصيني على الشراكة (الثنائية) في قيادة العالم من خلال المنظور الاستعماري الغربي الذي تسيّد وتغوّل على البشرية منذ عدة قرون؛ ثالثاً: لأن الولايات المتحدة لم تعد الأقوى، وإن الأقطاب المنافسة لها (وخصوصاً الصين) تفوقت في مفاصل القوة التي لا يمكن تهديدها... وأخيراً وليس آخراً: لأن الأقطاب الجديدة المنافسة هي من الجنوب بالمنظور الفوقي الغربي، وهي شرقية من منظور ما يتميز به هذا الشرق من حضارات عريقة بدأت تستعيد مجدها، بعد أن جعلها الاستعمار لفترة من الزمن مجرد دولٍ مستعمَرة (بفتح الميم) تدور في فلك السيادة الغربية... وها هي دول مجموعة السبع (اجتماع كارديف يونيو 2021)، بقيادة إدارة الرئيس جو بايدن، تعلن بوضوح موقفاً سلبياً خطيرا لحد العداء ضد الصين وروسيا، سيكون وقود الحرب الباردة الجديدة على مدى زمني طويل قادم.
إذن في ظل هذا النظام الدولي الجديد، الثنائي القطبية، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على إخفاء قلقها من الصعود الملفت والثابت والقوي للقطب الصيني وكتلته في كل مجالات المعرفة والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، والأخلاق، أمام الصورة والسمعة السيئة والقذرة التي صنعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لنفسها على مدار تاريخها، وما سياسات إدارة بايدن الجديدة-القديمة، المرتبكة، والمتسارعة في نشر قوات جديدة في أوروبا والاستخدام العشوائي للعقوبات ضد روسيا، والتلويح باستخدام أخرى، وتحريك الملف الأوكراني مؤخراً، إلا تعبير واضح عن مدى القلق والغضب الأمريكي المنفلت ضد هذا النظام العالمي الجديد الذي تشكّلَ رغماً عن الإرادة الغربية، وخارجاً عن سيطرتها.
وللمقارنة الأخلاقية بين القطبين (الكتلتين)، على سبيل المثال، نجد أنه بينما كانت الصين خلال العقود الماضية تعمل على بناء واستقرار الدول والمجتمعات الأفريقية التي دمرها الاستعمار الغربي، وبطشت بها حروب الإبادة الجماعية الأوروبية والأمريكية، وابتز صندوق النقد والبنك الدولي اقتصاداتها وثرواتها، كانت الولايات المتحدة في ذات الوقت تعمل على بناء سمعتها كقوة عظمى تقتات على الحروب والاحتلال وتدمير البلدان والمجتمعات، وبناء السجون المجهزة بأبشع نظم عمليات التعذيب الوحشية، والحرب على الإرهاب، التي أحرقت الأخضر واليابس من أوروبا الشرقية إلى جنوب آسيا مروراً بالوطن العربي.
وأيضاً بينما كانت الصين تتقدم في بناء مشروع الطريق-الحزام الذي صار يربط بين القارات بأحدث وسائل النقل والمواصلات، وكانت تبني الحجر والبشر في كل المحطات التي تقع على طريقه، كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية غارقة في حروب البلقان البشعة لتدمير الإرث السوفييتي السابق، وفي غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما وممارسة أبشع وسائل القتل والتدمير والتهجير والتعذيب في محاولة لإخضاع مناطق النفط والسيطرة على منابعه وطرق امداداته.
الولايات المتحدة وحروبها الباردة
الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تمثل دور التجاهل والتهميش وعدم الاعتراف بالنظام الدولي الجديد، كعادتها في القضايا التي تتعارض مع مصالحها البحتة... هذا الدور الذي تمارسه بإتقان من خلال دبلوماسية الخداع والتواطؤ، وحرب المعلومات والتضليل الإعلامي. وبموجب هذه القراءة يمكن تفسير سلوك إدارة الرئيس بايدن في "الحرب الباردة" الجديدة المفروضة على المجتمع الدولي.
وهنا نكرر سؤالنا القديم-الجديد... أين العرب من كل هذه الأحداث الدولية التي ترسم مستقبل العالم بمنظور جديد، ومختلف عن المنظور الغربي السائد منذ أكثر من قرنين؟
يا ترى، هل ستبقى منطقتنا حبيسة السياسات البريطانية الأوربية التي صاغتها قرارات "لجنة الاستعمار"، التي شكّلها عام 1907 رئيس الوزراء البريطاني، كامبل بانرمان (H.C Bannerman)، من نخبة مختاره من العلماء وخبراء الجامعات البريطانية والأوربية لدراسة سبل منع انهيار الاستعمار الأوروبي.
في تقريرها حذرت "لجنة الاستعمار" من خطورة وحدة العرب، وأكدت بأنهم يملكون مقومات التكتل والنهوض. وفي حال وحدتهم "ستحل الضربة القاضية بالإمبراطوريات الاستعمارية" وستنهار كما انهارت إمبراطوريات الرومان والإغريق. ولم يمر وقت طويل حتى بدأ تنفيذ توصيات اللجنة، فجاءت اتفاقيات سايكس بيكو (1916)، ثم وعد بلفور (1917)، ثم مؤتمر سان ريمو (1920).. وغيرها.
ودون الخوض في سرد دور تلك القرارات، السيئة الصيت، في بلادنا العربية طوال القرن العشرين، والتخبط العربي في مواجهتها؛ نذكّر فقط بأنه بسبب صعود القطب السوفييتي الذي عجزت القارة العجوز عن مواجهته بعد الحرب العالمية الثانية، تم ترحيل ملف "لجنة الاستعمار" والتركة الاستعمارية الأوروبية، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتبدأ لعبة الحرب الباردة التي أغلقت منطقتنا العربية لصالح الغرب طوال القرن العشرين، فكان عصر قمع الحريات، والحروب، وصعود الأصولية والتطرف وتيارات الإسلام السياسي بمختلف مذاهبه وطوائفه!
إيران وقرارات "لجنة الاستعمار"
مع بداية القرن العشرين صار لإيران حظوة في قرارات "لجنة الاستعمار"؛ وصارت عنصراً رئيسياً في تنفيذ مبدأ "فرق تسد" ونشر الطائفية والصراعات المذهبية بكل أشكالها. وهكذا دخل العرب في حيز تلك القرارات من بابها المظلم منذ ذلك اليوم، ولم نخرج منه حتى يومنا هذا.
وحينها بدأ التواطؤ البريطاني مع إيران بتمكينها من مد نفوذها على الساحل الشرقي للخليج العربي (1) باحتلال الأحواز سنة 1925 خوفاً من المد السوفييتي بعد اكتشاف النفط فيها، (2) احتلال القسم الغربي من إقليم بلوشستان سنة 1936، (3) احتلال إمارة بستك سنة 1967، و(4) احتلال الجزر العربية الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى وأبو موسى) سنة 1971، وبذلك تلاقت الاستراتيجية الاستعمارية الغربية مع طموحات إيران التاريخية في المنطقة.
ومن هذه الحقائق نتلمس الأسباب التاريخية لتَبَنّي الغرب عموماً، والحكومات البريطانية والأمريكية المتعاقبة خصوصاً، للملفات الطائفية والأثنية، التي كانت على مدار تاريخها تترعرع في الحاضنة الإيرانية، وتستقبل لندن وواشنطن مقراتها وأصحابها.
ومن هذا المنطلق يمكن تفسير سر ظاهرة انتشار الأذرع الإرهابية الإيرانية الموزعة في بلادنا العربية، بكل ما تملك من قوة وسلاح وعتاد. هذه الظاهرة الخطيرة التي ما كان يمكن استمرارها لولا التواطؤ الأنجلو-أمريكي في سبيل إبقاء المنطقة تحت هاجس التهديد الأمني وعدم الاستقرار.
وما مظاهر التصعيد الإيراني الجديد الذي وصل للذروة مع إعلان اتفاقية التعاون الصينية الإيرانية، إلا حلقة من حلقات الحرب الباردة الجديدة التي عجلت ببدء التفاوض الجديد على البرنامج النووي، والذي يعتبرها الإيرانيون فرصتهم للمزيد من الابتزاز الدولي، والذي سيهيئ المزيد من الفرص لانضمام إيران إلى النادي النووي... وحينها ستغير إيران قواعد لعبتها ضد العرب كما تفعل إسرائيل.
إنها الحرب الباردة الجديدة، والأذكى هو الذي يعرف كيف يقرأ السياسات الدولية بواقعية، ويضع مصالحه القومية في قمة أولوياته، وإلا سيقع على قارعة الطريق.


*محمد رجب قدورة جرادة: مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (نشوؤها تطورها 1947- 1967)، رسالة دكتوراه "فلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر"، جامعة صنعاء 2007.