ما بعد النظام الرسمي العربي...

كان انشاء النظام الرسمي العربي (الجامعة العربية) من مخرجات نتائج الحرب العالمية الثانية، ومن متطلبات نجاح مشروع سايكس بيكو، الذي صنع أكثر من 20 دولة عربية داخل حدود موسومة باضطرابات في الرؤية السياسية لمفاهيم أنظمة الحكم وإدارة الدولة، وفي الرؤية الفكرية لمفاهيم سيادة الدولة وعلاقاتها القومية والإقليمية والدولية، في واقع إقليمي كان ولايزال الأكثر اضطراباً على مستوى العالم، وواقع دولي بدأ يتشكل حينه بضوابط وقوانين حرب باردة متعددة الأقطاب، كل قطب يهدف الاستحواذ على المزيد من النفوذ والهيمنة الدولية.


لذلك لم يكن خافياً بأن صانعي سايكس بيكو هم من صنع هذا النظام الرسمي العربي، وهم مَن جمع العرب على مقاعد الجامعة العربية، تلبية لمتطلبات الواقع الدولي في حينه؛ وهو من أسس لبنيان ميثاقه، على قاعدة "الاتفاق على عدم الاتفاق" لتعزيز مبدأ سايكس بيكو في تفتيت الإرادة العربية، وتفادي إمكانية تشكيل كتلة عربية قوية على مستوى المجتمع الدولي. لذلك لم يكن هذا النظام، في أي فترة منذ تأسيسه، بمنأى عن التدخل الأجنبي غير المباشر.
بدأ النظام الرسمي العربي، ومنظومته، مع مشروع سايكس بيكو (الأنجلو-فرنسي)، وسقط مع بداية مشروع الشرق الأوسط الكبير (الأنجلو-أمريكي)، من حيث أنهما مشروعان مختلفان في منظومتهما الاستعمارية، وفي مصالحهما التي تحدد الصيَغ الجغرافية والسياسية في خريطة المنطقة.
وبدأ تاريخ ذلك النظام باحتلال فلسطين، وزرع كيان إسرائيل في قلب الوطن العربي، وانتهى باحتلال العراق وإهدائه لإيران، وإسقاط معادلة توازن الأمن الاستراتيجي القومي العربي، ليدخل العرب عهداً جديداً من التهديد الأمني المدمر، والصراع الوجودي المباشر، لصالح مشروع دوليٍ جديد، ونظام إقليمي جديد، سيكون لدول الجوار الإقليمي، بما فيها إسرائيل، الدور المحوري الأقوى.
تؤكد مؤشرات أحداث المنطقة خلال العقدين الأخيرين، على بداية صناعة نظام رسمي شرق أوسطي جديد على أنقاض النظام الرسمي العربي القديم، والذي بدأت تتضح معالمه تزامناً مع اكتمال تأسيس النظام الدولي الجديد، المتعدد الأقطاب، من جهة، واكتمال أهم مراحل مشروع الشرق الأوسط الأمريكي من جهة أخرى. نظام لن يكون عربياً، بل سيضم في عضويته بجانب دول الجوار الإقليمي (إسرائيل، تركيا، ولاحقاً إيران) دولاً عربية تفتقر لقوة القرار، والاقتصاد، والعلم... وسيكون تجمعاً إقليمياً يمثل خريطة الشرق الأوسط الجديد، يُراعى فيه عدم إعطاء "شرف" عضويته لبعض الأنظمة العربية التي لا تسير في الركب. أما الجامعة العربية (إن لم يتم حلها) فإنها ستحال إلى التقاعد، كي لا تشكل عائقاً أمام دور المنظومة الجديدة.
النظام الإقليمي القادم الذي سيُمَثَّلُ فيه العرب انتقائياً، سيُحَرر بعض الأنظمة العربية من الرابطة العربية، وسيخلق اصطفافات عربية-إقليمية لا تمثل الشأن العربي، بقدر ما ستحقق طموحات البعض خارج الإطار العربي، حتى لو كانت ستشكل تهديداً لمصالح العرب... ولقد بدأت بعض هذه الظواهر تتضح في المقاربات والتجاذبات الجديدة بين دول المنطقة.
لم ينجح النظام الرسمي العربي، لأكثر من سبعة عقود، في تحقيق مصالح العرب الأمنية والسياسية والتنموية وغيرها، التي هي من مستلزمات التقدم والحياة الكريمة للشعوب، بمقدار ما نجح في تحقيق مصالح الغرب الرأسمالي ضد الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة القديمة؛ ومن المؤسف إن المنطقة تدفع اليوم ثمن سياساتها القديمة التي نشأت منها التهديدات الإرهابية والأطماع الدولية والإقليمية الجديدة، كما ورثت منها المؤشرات الأكثر فشلاً في التنمية البشرية والإنسانية؛ وبهذا التقدير فإن النظام الشرق الأوسطي الإقليمي القادم، الذي لن يكون بيتاً للعرب، سيكون أكثر إجحافاً بالعرب ومصالحهم، وقد بدأ التشتت يتعمق فيما بينهم.
ومما لا شك فيه إن المصالح الإسرائيلية ستتصدر قائمة أولويات هذا النظام الإقليمي، لكونها مدعومة بالقوة الأكبر في هذا التجمع الإقليمي الجديد، بينما سيستمر ميزان القوة مختلاً لصالح دول الجوار الإقليمي، إيران وتركيا، كقوة مهددة لأمن واستقرار المنطقة العربية بموجب متطلبات الحرب الساخنة بين القطبين الأمريكي الصيني.
على المستوى الدولي سيكون المشروع الأوراسي، وهو حلم النفوذ الأمريكي، هو محور الرهانات والصراعات القادمة التي سيكون "إقليم الشرق-الأوسط" احدى أهم ساحاتها... لذلك سيعزز النظام الشرق الأوسطي القادم المزيد من الفوضى في المنطقة، مع رفع درجة التهديدات الإرهابية القادمة مع "جماعة خراسان" الوليدة من جهة، والتهديدات الأمنية المزعزعة لاستقرار الأنظمة والبلاد العربية من جهة أخرى.
انطلاقاً من هذه القراءة يمكن استيعاب أسباب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي فاجأ العالم بتوقيته وفوضويته المتعمدة؛ وأيضاً يمكن استيعاب ما ورائيات التحالفات الأنجلو أمريكية في أدنى الشرق الآسيوي الذي من شأنه إحكام الحصار حول الصين في منطقة جنوب وشرق آسيا.
وفي ظل الواقع العربي الممزق الضعيف، لن يحصل هذا النظام الإقليمي القادم على رفض عربي مؤثّر، وخصوصاً مع وجود دول عربية مهمة بدأت تتفرد بالعمل لمصلحتها، وتعتقد بأن هذا القادم سيحمي هذه المصلحة، بمنأى عن الشأن القومي العربي، ومشاكله المتصاعدة؛ ويظهر ذلك جلياً في بعض الحراك السياسي والدبلوماسي العربي الفوقي، الذي يقوم على إرضاء طموحات ورؤى آنية لن يكتب لها النجاح على أبعد من هذا المدى، في ظل تهميش التعامل مع الواقع العربي بكونه مجموعة من المصالح والتحديات العربية المترابطة مع بعضها في كينونة واحدة.
من أخطر معالم النظام الإقليمي الجديد، أن الدول العربية التي بدأت خطواتها العملية للاعتراف به دون إعلان ذلك، باتت ترى فيه نوعاً من القوة بعد أن يئست من الحصول على هذا الملاذ بين العرب، وبعد أن تراكمت أزمات المنطقة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة؛ أزمات كان السبب الرئيسي فيها هو سياسات العرب الأنانية والمخترقة، والتي ساهمت في نجاح المشروع الأمريكي المرسوم للمنطقة من جهة، وساهمت في تمكين دول الجوار من اختراق وتهديد المنطقة من جهة أخرى.
هناك توقعات إيجابية لربما تناقض ما جاء في هذا المقال تتحدث عن بداية ازدهار قادم في منطقتنا العربية، (لربما) مع بدء عملية إعادة إعمار ما تم تدميره خلال العقدين الأخيرين في سلسلة حروب "تصدير الديمقراطية" للمنطقة، ولكن مع الأسف حتى لو تحققت هذه التوقعات، إلا أن هذا لا ينفي الحقيقة الأخرى التي بدأت تتشكل غيومها في سماء العرب، والتي تشير إلى دخول العرب في مرحلة جديدة من صراع الأقطاب الدوليين، في حرب ساخنة تتطلب إعادة تموضع الولاءات، وإعادة نشر النفوذ الدولية، بشكل أو بآخر... وستكون منطقتنا الأكثر تأثراً وتأثيراً في هذه الصراعات القادمة، وفي ظل نظام إقليمي مختل الموازين.
وهنا نتساءل، كيف يمكن أن نتوقع بعض الخير من نظام إقليمي يضم أعدائنا التاريخيين، بينما لم نحقق هذا الخير في ظل نظام عربي هو "بيت العرب"، ويفترض إنه أقرب لمصالحنا وقضايانا؟.