لا حياد في الإعلام

كيف يمكن تحديد دور الإعلامي الجيد والموضوعي عند نقله وتحليله للأخبار والأحداث والمشاهدات، ما بين التزامه الحياد أو تحيزه لآراء أو توجهات مختلفة غالباً ما يكون الإنسان أسيراً لها في مجتمعاتنا. هذا السؤال يطرح نفسه اليوم على العاملين في المجال الإعلامي في البحرين، وخصوصاً في الصحافة، التي تزخر بكفاءات وخلفيات مختلفة، فمنهم من يملك الكفاءة العلمية لهذه المهنة ، ومنهم من شجعه قلمه وقدرته الإنشائية للإلتحاق بها، ومنهم من يعمل بها كمصدر رزق لا يملك لا الكفاءة ولا القلم الإنشائي الجيد بقدر ما يملك من العلاقات والأساليب الملتوية للبقاء في داخل جسم هذا العمل الخطير والحساس، ولكن تشكو الفئات الثلاث، في غالبيتها، من إفتقارها للحِرَفيّة المهنية والعمق الثقافي والبعد المعرفي.
رغم أن هذا الموضوع متعدد الجوانب مما لا يمكن تغطيته في هذا العمود ذو المسـاحة الكتابية البسيطة ، إلا أنني أرى إنه من المناسب أن أبدأ، في عمودي شبه اليومي الأول هذا، بالحديث حول أحد أهم المواصفات الحِرَفيّة للعاملين في المجال الإعلامي الحساس والخطير، من خلال رؤية وطنية ومعرفية ملتزمة.


هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن مواصفات الصحفي الحر والكفؤ، والذي يمكن أن تتفاوت ما بين المهنية والحِرَفيّة، وإجادة ومعرفة التقنيات العلمية للعملية الإعلامية بشكل أو بآخر، وبين البعد المعرفي المطلوب للصحفي، والحد الأدنى من الثقافة والمتابعة لمجريات الأحداث حول العالم، مع درجة من المهارة في تحليل الحدث بشكل أكثر إقناعاً وعمقاً ، ورؤية صحفية تختزل المشاهدات اليومية المتسارعة. إلا أن هناك جانب أساسي لا يمكن ولا يجب لأي إعلامي تجاوزه مهما بلغت كفاءته العلمية أو الثقافية ومهما تكن درجة حياديته في نقل الخبر أو في التحليل الصحفي أو المعلوماتي، ألا وهو الحس الوطني الملتزم بالمصلحة الوطنية والقومية، والذي يجب أن يكون الترمومتر الحراري في الأداء الإعلامي بشكل عام في جميع وسائله ودون هوادة.
لذلك لا يمكن أن يكون هناك حياد في العمل الإعلامي بشكل عام ، عندما يعمل في تماس تام مع القضايا الوطنية والقومية، علماً بأنه لا يوجد أي عمل إعلامي اليوم لا يتماس بشكل مباشر أو غير مباشر مع قضايانا الوطنية والقومية، بدءاً من نشر المفاهيم الثقافية والسلوكية المختلفة في المجتمع، وانتهاءاً بالإحتلال الصهيوني لفلسطين، والإحتلال الأمريكي للعراق، وكل ما يقع بينهما من قضايا.
إن الإعلام في عالم اليوم لم يعد ينحصر في عملية قراءة الأحداث ونشر المعلومات، بقدر ما هو آلية من آليات الحروب الجديدة في هذا المجال الكوني الواسع الذي أصبح محدود المساحة بسبب سرعة التواصل واستمرار التطور الغزير في وسائل الاتصالات. لذلك يمكن أن نقول إن الإعلام يعد أحد مؤشرات قوة الأمم الاستعمارية في فرض قوتها وهيمنتها على الأمم الأخرى.
لم يعد الإستعمار الجديد معتمداً فقط على الاحتلال العسكري ، لأنه خلال عقود طويلة حقق نجاحاً باهراً، بوسائل عملية عالية الإتقان، في فرض استعماره الثقافي على المجتمعات الضعيفة، من خلال عسكرة أدواته الإعلامية، سواء المقروءة منها أو المسموعة أو المرئية، التي أثبتت كفاءتها لدرجة متقدمة جداً في كسب العقول جنباً إلى جنب فرض السيطرة العسكرية والاقتصادية ، قبل أن تبدأ الشعوب بالإنتباه لهذا الخطر المستتر.
إن الإعلام الاستعماري الجديد يعمل في حرب مستمرة بلا هوادة، فهذا الإعلام لا يعرف فرقاً بين زمن الحرب وزمن السلم ، بل استراتيجياته متواصلة وعملياته مستمرة في التلاعب بالعقول ، وكسب المواقع تلو المواقع من داخل المجتمعات المستلبة الإرادة ، إن لم يكن بالإقناع فبالإرهاب، وإن لم يكن فبشراء النفوس الضعيفة، وهذا ليس صعباً على قوى تعمل على بناء إمبراطوريتها الاستعمارية في العصر الحديث.
ونؤكد مرة أخرى، لا يوجد حياد في العمل الإعلامي في كل ما يمس قضايانا الوطنية والقومية، ولا يمكن أن يتباها أي إنسان بالحياد ويستهين بالحس الوطني والقومي في أي عهد من العهود. ومهما تغيرت الولاءات والثقافات ، يبقى الإعلامي القدير، هو ذلك الإنسان الموضوعي والقادر على أن يتحسس حرارة الحدث بترمومتره الوطني والقومي، وهذه مواصفات مطبقة في الشرق والغرب، وكل ما يقال عن الحياد في العمل الإعلامي هو تضليل وتلاعب بالعقول في حرب طويلة بدأت مبكراً ولم يسـتدركها العرب ألا مؤخراً.


كلمات دالة: