أخطار أنصاف المثقفين

تهتم المجتمعات المتحضرة إهتماماً بالغاً بدورها في تصنيف شخصياتها الثقافية العامة تصنيفاً دقيقاً، بهدف وضع المعايير السليمة لمنع ظاهرة هرولة هذا النوع من الشخصيات نحو تحقيق مصالح الذات الفردية على حساب مصالح الوطن . لذلك تعلمت تلك المجتمعات، مع الزمن وبشكل جماعي، أن لا تبخس تلك الشخصيات حقها بأقل من قدراتها الحقيقية، وتعلمت كيف تحترم وتشجع الشخصيات المخلصة والمتزنة والمبدعة إبداعاً أصيلاً للإستفادة القصوى من مساهماتها وإبداعاتها في مجالاتها المتخصصة وخدماتها المجتمعية. وفي الجانب الآخر تعلمت تلك المجتمعات أيضاً أن لا تبالغ في إعطاء أنصاف المثقفين، أو مدعي الثقافة والإبداع، أكثر من قيمهم الحقيقية أو رفعهم إلى مواقع عامة دون أي إستحقاق حقيقي ومخلص، لما يمكن أن تشكل هذه الشخصيات من أخطار على المجتمع لعدم إمتلاكها القدرة على تقدير الأثر السلبي لأدوارها على المجتمع، ولإنحسار جل أدوارها في البحث عما يمكن أن يحقق مصالحها ، فقط ، على حساب مصالح المجتمع والوطن بشكل عام. وهكذا أصبحت تلك المجتمعات أكثر صراحة في مواجهة ومحاسبة شخصياتها العامة، كما هي أكثر دقة في تعريف وتقييم تلك الشخصيات ومعرفة مستوياتها الثقافية والتزاماتها تجاه المجتمع، كما أصبحت تعرف كيف ترفع كفة القديرين والمبدعين وكيف تنزل المزيفين من على المنابر العامة.


في مقال بعنوان (المثقف ودوره في المجتمع) للدكتور محمد عبد العزيز ربيع، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي - جامعة الأخوين – في المغرب، يرد سرداً لظاهرة المثقف الملتزم على إنها "ظاهرة مجتمعية حديثة تبلورت مع تبلور الدولة القومية أو الوطنية وترسخت كموقف أخلاقي بعد شيوع الفقر والاستغلال الذي صاحب بدايات الثورة الصناعية في دول أوروبا الغربية، لقد قام المثقفون حينئذ بالدفاع عن الفقراء، وتبني قضايا الضعفاء والمحرومين، والمطالبة بإنصاف المظلومين، والدعوة إلى عدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة بين الطبقات المختلفة. ولم تمض عقود على تبلور المجتمع الصناعي حتى سارت الأمور في الاتجاهات التي دعا إليها المثقفون، مما أدى إلى تبلور مجتمع اكثر حرية وإنصافا وعدلا، واكسب المثقفين مكانة اجتماعية مرموقة بقوة أخلاقية لم يكن بإمكان السياسة إهمالها أو التغاضي عنها فيما بعد". وبناء على هذه الظاهرة يضع الدكتور ربيع تعريفاً للمثقف الملتزم على أنه "هو ذلك الشخص الذي يملك قدرا من المعرفة تمكنه من قراءة أوضاع المجتمع وتحليلها وتحديد أبعادها في ضوء تطورات وأحداث الماضي واتجاهات وتوقعات المـستقبل، انه ذلك الشخص الذي يعي الواقع ويعمل على تغييره إلى الأحسن، من خلال الدعوة إلى إصلاح العيوب والدفع في اتجاه بناء مجتمع افضل يستجيب لنداء الفقير والضعيف وينصف المقهور والمظلوم"، أي إنه ذلك الإنسان القادر على أن يكون مع الحق والعدل بتجرد تام من النزعات الطائفية والذاتية مؤثرات الغضب والحقد والظلم بهدف الإقتراب من الموضوعية قدر المستطاع.
ولكن وللأسف الشديد، فإننا نادراً ما نجد هذه السمات في مجتمعاتنا العربية ونادراً ما تشغل هذه القضية إهتمام هذه المجتمعات التي ترفع مدّعِي الثقافة إلى مصاف الشخصيات العامة والمراجع الإبداعية والثقافية مسموعة الصوت والرأي، مهما تكن أصول تلك الثقافات ومنابتها ونواياها، مما كان دافعاً لبروز ظاهرة أنصاف المثقفين والمدعين الذين بدأنا نلمس أخطارهم لمساً حقيقياً ضمن ذلك الإهتمام الأمريكي الشديد في صرفها الملايين من الدولارات لإنشاء وسائل إعلام وأدوات إعلامية "شعبية" تعمل كأبواق للتأثير على الشباب، كجيل يشكل حلقة وصل مع المستقبل، وذلك الإهتمام الإمريكي الشديد بإتباع ذلك الإسلوب القديم المتمثل بشراء المثقفين عن طريق التمويل والندوات والمؤتمرات والبعثات ورحلات التعرف على "الديمقراطية" الأمريكية المبهرة.
دفعني لكتابة هذا الموضوع، في هذا الوقت بالذات، إحساسي العميق بالخطر الذي نعيشه مع تفشي ظاهرة الأبواق الإعلامية في مجتمعاتنا، إضافة إلى ما يردني من ردود أفعال متأثرة ومتذمرة مما يطرح في الندوات من حديث مجحف وغير واقعي في حق العراق الذي يعاني من بطش أحمق وأبشع إحتلال في التاريخ بينما يتشدق بعض كتابنا في تلك الندوات العامة بالدور الأمريكي الذي جاء بالخلاص لشعب العراق، معتمدين في بعضها على قيام أحدهم بزيارة للعراق، بعد الحرب مباشرة، لمدة لا تزيد على 48 ساعة ، تلك الزيارة التي أصبحت تعطيهم الحق في وصف الوضع العراقي المعقد وكأنهم يملكون الحقيقة كاملة. كما جاء إهتمامي بكتابة هذا الموضوع أيضاً بعد ما تلقيت من بعض الأخوة العرب، الذين يعيشون معنا منذ عشرات السنوات، ردود أفعالهم المتأثرة والمتذمرة مما يدور في الندوات العامة من أحاديث لا تصب في صالح الوضع العربي ولا الفلسطيني بشكل عام وكأن الأخوة مدفوعين دفعاً لهذه الأحاديث في هذه الأوقات العصيبة التي تعمل الإمبريالية-الصهيونية على ضرب وإنهاء الحق الفلسطيني في أرضه وعلى فرض الإستعمار الأمريكي-الصهيوني على المنطقة العربية بأكملها.
أليس من حقنا أن نشك ونفكر كيف يحدث هذا الأختراق بين ظهرانينا وكأنه برنامج مرسوم ومدفوع له من حيث لا نعلم؟ فإحذروا أنصاف المثقفين وأولئك الذين قبلوا أن يكونوا أدوات إعلامية لصالح المحتل والمستعمر الأجنبي، من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، فالخطيئة واحدة في كلتا الحالتين.


كلمات دالة: