نحو إقامة مجتمع المعرفة- تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 /1

لتخطي أزمة التنمية الإنسانية في المنطقة العربية توصل تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 إلى أهمية تجاوز المجتمعات العربية نواقصها الراهنة في إطار إعادة تأسيس ذاتها على بنى أساسية يمكنها من أسباب القوة واستدامة التنمية ، وقد أوجز التقرير هذه النواقص في، أولاً: إحترام الحقوق والحريات الإنسانية بإعتبارها أهم مقومات بناء الحكم الصالح المطلوب لتحقيق التنمية الإنسانية ، ثانياً : تمكين المرأة العربية من خلال توفير جميع الفرص الممكنة من بناء القدرات البشرية ، ثالثاً: تكريس اكتساب المعرفة وتوظيفها بفعالية في بناء القدرات البشرية للوصول إلى حالة الرفاه الإنساني في المنطقة.
وعلى هذا الأساس جاء تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني للعام 2003 ليركز على موضوع بناء مجتمع المعرفة ويختار هذا الموضوع محوراً له ، كما قالت الدكتورة ريما خلف (المدير الإقليمي – لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية)، لكونه "واحداً من ثلاثة عناصر تتضافر في استراتيجية التنمية الإنسانية في الوطن العربي ، وتُؤتي أُكُلُها مجتمعة لا فرادى، والتقدم في إنجاز أي منها يساهم، لا ريب، في الإسراع في تحقيق المتطلبات الأخرى. إذ يصعب نهوض المرأة، كما يتعذر استعادة الحرية وإقامة الحكم الصالح (وهو موضوع تقرير التنمية الإنسانية الثالث) في مجتمعات تُحبس فيها المعرفة".


يُعَرّف تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني المعرفة على أنه مجموعة من "البيانات والمعلومات والإرشادات والأفكار، أو مجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان أو يمتلكها المجتمع، في سياق دلالي وتاريخي محدد، وتوجه السلوك البشري ، فردياً أو مؤسسياً، في مجالات النشاط الإنساني كافة ، في إنتاج السلع والخدمات، وفي نشاط المجتمع المدني والسياسة وفي الحياة الخاصة". ولخص التقرير المصادر التي يستقي منها الأفراد تلك المعلومات والبيانات والإرشادات والأفكار في ما يتم اكتسابه عبر التعليم والخبرات الحياتية شاملاً كل تلك "الحقائق والقصص والصور وموجهات السلوك البشري" سواء المكتوب منها أو المتداول شفهياً أو المتعارف عليها ضمنياً . كما يذكر التقرير إن المعرفة المؤسسية تشتمل على "التاريخ والثقافة ، والتوجهات الاستراتيجية والأشكال التنظيمية".
هذا التعريف للمعرفة وهذا الوصف لمختلف منابعها ، يجعلنا نتساءل طويلاً، عن الأسباب التي حالت دون اكتساب العرب للمعرفة، ومنذ متى والعرب يعيشون بعيداً عن مختلف منابع المعرفة التي اكتسبتها غالبية شعوب العالم بشكل أو بآخر، رغم امتداد حضارات العرب في أعماق التاريخ ، مما كان يحتم ان يجعل التراكم المعرفي في هذه المنطقة أكثر ازدهاراً وتقدماً عما لدى باقي الأمم.
وحيث أن الإجابة على هذه التساؤلات بحاجة لبحث يطول ويتعمق على امتداد وعمق التاريخ العربي، إلا إننا وبشكل أولي بإمكاننا أن نؤكد إن خلال الستين سنة الأخيرة من تاريخ هذه المنطقة كان هناك عمل منظم، اشتركت فيه جهات خارجية وداخلية، على قطع كل ما تبقى من روابط بين العرب وبين منابع المعرفة ومصادرها. فمنذ الحرب العالمية الثانية التي نتج عنها ظهور قوة الغرب الاستعمارية، وبهدف فرض نفوذ هذه القوة وسيطرتها على كامل الأرض العربية ، لتحويل ما بها من خيرات وموارد وثروات لبناء وإعمار وتصنيع منظومتها الاستعمارية، عملت تلك الدول على القضاء على مجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان العربي واكتسبها المجتمع العربي في سياق تاريخي طويل، مما كان يستدعي الاستعمار بتوجيه السلوك البشري العربي نحو إهتمامات أخرى بعيدة جداً عن المعرفة، لما للمعرفة من قوة يمكن أن يعيق الاستغلال الاستعماري من تحقيق أهدافه. ولكن وبفضل الأنظمة العربية المتعاونة مع الاستعمار كانت نتيجة هذا الهدم المعرفي عميقاً وتأثيره أكيداً، مما أوصلنا إلى الواقع الاستعمار الجديد الذي يستهدف تجريد العرب من ما تبقى لهم من أصول معرفية في تاريخهم العربي والإسلامي وربطهم بواقع المعرفة الاستهلاكية والعلاقات السلعية الغربية.