العولمة والهوية القومية - 3

تعد التكوينات القومية خارج إطار النظام الرأسمالي المركزي حاجزاً وعائقاً لهيمنة رأس المال المعولم على السوق العالمية، لذلك تنزع العولمة إلى تفتيت الأمم والتكتلات القومية في الأطراف على أسس إثنية وطائفية ضيقة، إذ من الأسهل عليها إدماج الكيانات الإثنية والطائفية الهشة في النظام العولمي من دمج الأمم والتكتلات القومية الكبيرة فيه.
وعلى هذا الأساس كان لتلك القوى الرأسمالية المعولمة دوراً أساسيا في تفتيت الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، كما تسعى إلى تفكيك الهند وأندونيسيا والسعودية والعراق والسودان ومصر والجزائر وغيرها من الدول العربية والإفريقية والآسيوية. وفي الوطن العربي وإفريقيا المفتتين أصلاً، فهذه القوى تسعى إلى المزيد من التفتيت والبلقنة داخل القطر الواحد والإقليم الواحد، يساعدها في ذلك تقاطع أهدافها ومصالحها مع أهداف ومصالح المشروع الصهيوني . لكن نزعة التفتيت القومي في الأطراف لدى تلك الدول القومية المركزية ليست بجديدة إذ إنها مستمرة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ضمن نزعات النظام الاستعماري القديم ، وهي تسعى اليوم إلى تفتيت أمم الأطراف وخلق الآليات للحيلولة دون تحقيق وحدتها على أسس تنموية جديدة تنسجم وروح العصر.


لقد عملت الإمبريالية العالمية على تفتيت الوطن العربي وكل تلك التكتلات التي كانت في طريقها لتكوين أمم خارج المنظومة الرأسمالية العولمية. وجاءت ردة الفعل لهذه العمليات في صورة ثورات اشتراكية وحركات تحرر قومي في كل تلك المواقع في مختلف أنحاء العالم ، ووضعت هذه الثورات والحركات نصب عينيها تعطيل آليات التفتيت الإمبريالية وتوحيد أمم الأطراف وخلق تكتلات قومية على أسس تاريخية وثقافية وتنموية معتمدة على العنصر البشري الواعي المؤمن بأهدافه القومية. إذ أدركت أن لا جدوى للتنمية المتمحورة حول الذات القطرية والمعطلة لآليات التخلف الرأسمالية ولا معنى للتقدم الذي يوفر أرضية الحرية والعدالة إلا ضمن إطار قومي واسع يأخذ وحدة التاريخ والثقافة بعين الاعتبار.
إن مفهوم الوحدة القومية الثقافية هو مفهوم تنموي حداثي بكل معنى الحداثة. وقد حققت حركات التحرر الوطني نجاحات مهمة على هذا الصعيد، إلا أن شراسة الهجمة الرأسمالية المعولمة والمستخدمة لجميع آلياتها العسكرية والإستخباراتية والاقتصادية غير الإنسانية حالت دون إكمال ترسيخ مسيرة ودور هذه الحركات في الوطن العربي وفي مواقع متعددة في العالم. حيث عملت هذه الآليات الرأسمالية على إغراق تلك المناطق الأطراف في بحر من التناقضات والثغرات والأزمات التي فجرتها في تلك البلدان والأمم وأدت إلى إنحسار دورها التنموي الداعم لقيام تكتلاتها القومية القوية والتي من الممكن أن يكون لها دور تنافسي لدور القوميات المركزية. فجاء أهم منجزات العولمة في تفكيك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وتعرّض الوطن العربي إلى الحصار ومزيد من التفكك والاحتراب الداخلي وإحتلال العراق ، كما أدى إلى ما حصل في أفغانستان والدول الإفريقية التي تمثل أحداث ليبيريا أحدث نماذجها.
إن ما هو مؤكد اليوم إن الرأسمال المعولم يسعى إلى تدمير مكاسب الشعوب وسحق التكتلات القومية التنموية في الأطراف ، وبالتالي إلى تزايد فجوة الفقر والمجاعة وتزايد حدة الصراع في كل مناطق العالم بصورة مريعة.
وخلاصة القول هنا أن النظام الرأسمالي المعولم الذي نعيشه اليوم هو نظام عدواني استغلالي مدمر ويزداد وحشية وعدوانية وهدراً للموارد، وهو أبعد ما يكون عن تلبية الحاجات الأساسية المادية والمعنوية للغالبية العظمى من البشرية. ومن هنا تنبع ضرورة الحديث عن البديل الذي هو بالتأكيد ليس في التخلي عن وحدة الأمم بل البديل الذي يجب أن يعمل على تحقيق تكتلات قومية حقيقية قادرة على الصراع ومواجهة شراهة هذا النظام الذي وصل إلى مرحلة الإطباق على ما تبقى من متنفس تحرري حقيقي في العالم.