هل الشقاق طبع في العرب؟

في العدد 819 من مجلة "الرسالة"، لشهر مارس/آذار 1949، نشر المفكر أحمد حسن الزيات، رسالة في مقال، يوجه فيها سـؤالاً هاماً جداً إلى المفكر القومي العربي سـاطع الحصري، يقول فيه "هل الشقاق طبع في العرب؟" فجاء المقال متناولاً "حوادث الشقاق والتنافس والتخاصم التي توالت في تاريخ العرب" كما استعرض دور "الأحزاب السياسية والفرق الدينية التي ظهرت بينهم ورأي إبن خلدون في هذا المضمار"، وفي نهاية المقال وضع التسـاؤل المحيّر الذي هو اليوم، كما كان بالأمس، شاغل العرب وموضوع جدالهم ونقاشهم وفكاهتهم وهزلهم وهو "هل كتب الله على العرب أن يعيشوا أبداً بطبيعة البادية ونفسية الغابة وعقلية القبيلة ؟"


في العدد 820 من نفس المجلة، جاء رد ساطع الحصري على هذا التساؤل، فكان رداً طويلاً وشافياً بدأه بدوره أيضاً بسؤال جاء فيه "هل تظنون أن الاختلافات التي ذكرتموها كانت من خصائص الأمة العربية وحدها؟" وحاول من خلال رده على هذا السؤال وضع البراهين المدعومة بالحقائق ما تثبت بأن تواريخ الأمم الأخرى لم تخل من أمثال تلك الإختلافات، وأن الاختلافات السياسية والدينية التي حدثت في تاريخ العرب لم تكن أكثر وأشد وأعنف من تلك التي تجلّت في تواريخ الأمم الأخرى؟
وقال الحصري في معرض رده على الزيات "إننا ننفعل ونتألم من هذه الأخبار والحوادث التاريخية، لأننا نقيس أحوال القرون الماضية بمقاييس الأزمنة الحاضرة... ولا نكلف أنفسنا عناء البحث في التاريخ العام بحثاً شاملاً، لكي نعرف ما إذا كانت تلك الأحوال من الأمور التي تشذ فيها الأمة العربية عن سائر الأمم، أو كانت من الأمور الطبيعية التي تتساوى فيها جميع الأمم في بعض الأطوار من التاريخ".
لذلك حاول الحصري بنظرة علمية بحتة استقراء التاريخ في تلك القضايا بما يمكن أن يوصل للقارئ إيمانه بأن الأمة العربية ليست شاذة في خلافاتها ولا اختلافاتها بل هي أمة تتفاعل في أعماقها كما تتفاعل الأمم الأخرى. وبدأ الحصري بمقارنة وقائع التاريخ العربي بالتاريخ الأوروبي على سبيل المثال، فجاء بقضية الإختلافات الدينية التي عاشتها الأمة العربية مقارنة بتلك الإختلافات الدينية التي حدثت في أوروبا خلال القرون الوسطى بين الدول والكنائس من جهة ، وبين الكنائس المختلفة من جهة أخرى، بجانب تلك الحروب الأهلية التي خاضها الإقليم الأوروبي بسبب تلك الإختلافات، مما أوصله لإثبات أن الإختلافات والصراعات هناك كانت أغزر عمقاً وأكثر تنوعاً وأشد عنفاً مما عاشته أمتنا على مدار التاريخ.
إذن هذه الأمة العربية التي تعيش اليوم أسوأ عصورها هي أمة لا تشذ عن غيرها من الأمم في شقاقها وأزماتها، فهي أمة تفاعلت بداخلها أولى الحضارات الإنسانية وأقدمها وحملت تراث تلك الحضارات التي شرّعت القانون وأبدعت الكتابة وجاءت بالفن الأصيل وتميزت بإمتلاكها لأحلى لغات العالم تعبيراً ونغماً، وهي الأمة التي بعثت بها جميع الرسائل السماوية. إن هذه الأمة لا يمكن إلا أن تكون أمة قائمة على إرادة الحياة وما لتلك الإنتكاسات التي تمر بها خلال منعطفات حياتها الزاخرة بالعطاء والإشعاع إلا أن تتحول إلى روافد لتجديد الحياة فيها.