سذاجة أم تخاذل أم تواطؤ . . .

في مجال كشفه لدور الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها بمسار ما يدعى بالمنظمات الإرهابية والإرهابيين، يذكر محمد حسنين هيكل في كتابه "حرب الخليج، أوهام القوة والنصر"، (منشورات دار الأهرام، عام ۱۹۹۲) حقائق ذات دلائل بليغة . . . يقول: "لقد كانت الطامة الكبرى في قصة (الإرهاب)، أو العمليات الفدائية، وما كان يمكن أن تؤديه في ساعات المعركة، هي قصة الدكتور (ماركيوس وولف)، مدير المخابرات في ألمانيا الشرقية مدة خمسة وعشرين عاماً متصلة. كانت كل جماعات العمل العربي المسلح مغرمة بألمانيا الشرقية، واثقة أن برلين تعطيها كل ما عندها وزيادة من تدريب ومعدات تكنولوجية ومعلومات، وهكذا كانت كل الأسرار مفتوحة، وكل الأوراق مكشوفة أمام الدكتور وولف، وفي الساعة الحرجة تبين أن الدكتور وولف متصل من قديم بإسرائيل، وكانت إسرائيل هي التي توسطت له بعد انهيار ألمانيا الشرقية حتى لا يلاحق ولا يطارد ولا يحاكم".


مع التأكيد على مدلولات حسنين هيكل، فإن هذه الرواية لها مدلولات أخرى أكثر عمقاً وخطورة، وأهمها هو انها دليل على مأزق التبسيط الساذج في العقلية العربية ونمط التفكير العربي عند تعامله مع قضايا هذه الأمة المصيرية، سذاجة وبساطة تجنّب صاحبها بذل أدنى درجات العناء والبحث والتقصي عن أسباب ومسببات وحيثيات الأحداث والمجريات اليومية التي تتلاحق علينا بسرعة تفوق سرعة توقعاتنا وقدراتنا على مسك خيوطها وربطها . . .
بهذه البساطة نتعامل، نحن العرب، فكرياً مع أمور حياتنا اليومية كما نتعامل مع قضايانا الكبرى، ولكننا نملك كل الشجاعة في التنظير لتبرير ممارساتنا الخاطئة، فنخسر بذلك حتى القدرة على نقد الذات ومراجعة الماضي بتجاربه، لتفادي مصائب وخسائر جديدة، نتكبدها، فنتقبلها ونبررها، وسرعان ما ننساها . . . وهكذا إلى ما لا نهاية.
هذا التفكير العربي البسيط والساذج، يؤخذ في الاعتبار دائماً في استراتيجيات أعداء الأمة في كل منازلة . . . ونحن نعيش اليوم إحدى هذه المنازلات المصيرية التي نساهم في تنفيذها للعدو . . . وهكذا نتحول، أنظمة ومجتمعات وأفراد، قيادات ونخب سياسية، إلى أدوات لتنفيذ استراتيجيات العدو، أدوات تؤدي أدوارا متواطئة تحت شعارات وطنية وبطولية . . . فيا ترى هل يدعي ذلك بساطة في التفكير . . . أم تخاذل . . . أم تواطؤ . . . ؟
إن هذه الأمة تعاني من شتى أنواع الأزمات والمصائب الكبرى، مما لم ترد على الأمم الأخرى في التاريخ، فإن تمكنا من مواجهة أنفسنا، والاعتراف بأننا كشعوب وأفراد لنا مساهماتنا الكبرى في خلق هذه الأزمات بأسلوبنا الفكري الساذج والانفعالي والتقليدي والذاتي وغير الممنهج في البحث والاستقصاء، لكنا أكثر قدرة وقوة في مواجهة تلك الأزمات، وبوسائل أكثر فاعلية ونجاحا.


كلمات دالة: