"صـــعود دولة الشـــيعة النــفطية" !!...

من أصدق التعابير التي وردت عن أهمية النفط لدى الدول المُستَعْمِرَة، هو ما جاء على لسان "اللورد كيرزون"، وزير الخارجية البريطاني، على إثر توقيع اتفاقية "سان ريمو" (20 أبريل/نيسان 1920) التي وُزِعَتْ بموجبها التركة العثمانية بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، برعاية بريطانيا وفرنسا... حينها قال "إن الحلفاء طفوا إلى النصر على بحر من النفط"... بينما جاء على لسان القائد الألماني المشهور "لودندوف" بعد هزيمة ألمانيا في نفس الحرب تعبير آخر بنفس الدلالة، حين قال "إن افتقارنا إلى البترول كان في مقدمة العوامل التي أدت دورها في هزيمتنا"...
حينذاك مارست الولايات المتحدة الأمريكية شتى أنواع الضغوط على بريطانيا وفرنسا، ما بين التحذير والتهديد، لضمان مشاركتها لهما في نفط الشرق العربي الذي أصبح ضمن مستعمراتهما بموجب اتفاقية "سان ريمو"، لتتحول تلك المشاركة بعد أفول شمس الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة إلى "هيمنة" أمريكية على النفط والدول النفطية، وفرض نموذج جديد من سياسات السيطرة والتبعية على تلك الدول، رغم كل الشعارات والادعاءات باستقلالها... فكانت بدايات عهد استعماري جديد، بنمط ومفاهيم وسياسات جديدة بالنسبة للشعوب والحكومات، التزمت خلالها الولايات المتحدة بتوازنات القوة النووية لوجود القطب الشيوعي حينذاك كعامل ردع وضبط، تمكّنَ من تجنيب تلك الدول (المستقلة) حديثاً بطش القوة الأمريكية المتوحشة، والحفاظ على عدم المساس بسيادتها وبكرامة وإرادة شعوبها...


ولكن مع سقوط ذلك التوازن في المعادلة الدولية، وبانتهاء الحرب الباردة، كان على الولايات المتحدة أن تعمل بأقصى طاقاتها وسرعتها لاستلام الدور السيادي وزمام السيطرة على العالم، ومنع أي قطب آخر من الصعود لملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط القطب السوفييتي، مما قد يُفقِدُها، لربما على مدى قرن آخر، تلك الفرصة التاريخية التي سنحت لها لبناء إمبراطوريتها الاستعمارية بعد أن تأجلت لسنوات طويلة بسبب وجود ذلك القطب العملاق الذي كان مترصداً لها في الجانب الآخر من المحيط.
الإمبراطورية الاستعمارية ونفوذ النفط
هذا هو النفط الذي كان ولا يزال يتمتع بأهمية ودور رئيسي في بناء وحياة الدول العظمى بشكل خاص، والدول الصناعية والمتقدمة بشكل عام، وبدوره الحيوي في بناء اقتصاديات تلك الدول التي تَمَكّنت من فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على مجمل العالم الثالث ضمن نظام استعماري متميّز بلامحدودية الأطماع والآليات... فهذا المورد الحيوي يعد عماد الحياة في تلك الدول، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية المتميّزة بنمط حياتي واستهلاكي فريد من نوعه، حيث يبلغ متوسط استهلاكها اليومي للنفط 19.7 مليون برميل، وهو أعلى معدّل عالمي، يتم استيراد 60% منه من الشرق الأوسط، بينما احتياطيها النفطي لا يتجاوز 21 مليار برميل، بمعنى أن كل ذلك المخزون من النفط يمكن أن ينفد خلال ثلاثة أعوام ونصف فقط لو اعتمدت هذه الدولة على نفطها كلياً... وهذا ما عبّر عنه ديك تشيني سنة 1999، وكان حينها رئيس مجلس إدارة شركة هاليبرتون، أكبر شركة خدمات بترولية في العالم، بقوله "سيزيد متوسط النمو العالمي على الطلب من البترول بمعدل 2% سنويا، وفي نفس الوقت سيقل الإنتاج بمعدل 3% سنويا، وهذا يعنى أننا سنة 2010 سنحتاج إلى 50 مليون برميل إضافية وهي ما يعادل إنتاج ستة دول بقدرة إنتاج السعودية للبترول" (ويليام انداهل، Globalresearch، أغسطس 2004).
وقد تفسر لنا هذه المعلومات التي يملكها ديك تشيني، وما صدر من بحوث عن عدد من المؤسسات الدولية مثل (معهد البترول الفرنسي)، وجامعة (كولورادو) للتعدين، وجامعة (أبسالا) بجنيف، حجم الصدمة البترولية الأشد التي ستواجه العالم من الآن حتى سنة 2010 بحدوث نقص عالمي مخيف في إمدادات البترول نتيجة وصول حجم استهلاك آبار النفط إلى نقطة الذروة (وهذا بحث آخر بحاجة لسرد منفصل)، قد يفسر لنا كل ذلك أسباب الاندفاع الأمريكي لترتيب أوضاعه النفطية، بعد الحرب الباردة، بالوصول ووضع اليد على مختلف منابع النفط وإمداداته ومنافذه وما يتبعه من نفوذ اقتصادي من شأنه أن يفتح لها آفاق السيطرة والهيمنة الكاملة على كل دول العالم ... وخصوصاً إذا استدركنا إن هذا الاقتصاد الأمريكي يعيش حالياً طور الإمبريالية المتوحشة كأعلى مراحل الرأسمالية.
الإمبريالية المتوحشة وآلياتها
لم تُذْكَر الإمبريالية في كتابات ماركس، لأن كلا المُنَظّرَين، ماركس وانجلز، لم يعيشا مرحلة تطور الرأسمالية إلى الإمبريالية، لذلك لم تتضح لهما معالمها كنظام اقتصادي يتطور في مراحل متقدمة، وإنما كان لينين هو من وضع أسس الإمبريالية في مجلده الشهير "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"... لذا يمكن تعريف الإمبريالية على أنها مرحلة متقدمة من الرأسمالية ظهرت مع تَدَرّج تطور الاقتصاد الرأسمالي، بدءاً من مراحلها الدنيا وهي مرحلة التنافس التجاري والاقتصادي ومبدأ السعر والربح، أي السلعة - المال – السلعة، إلى المرحلة المتوسطة وهي مرحلة الاحتكار كأعلى درجات المنافسة، انتقالاً إلى المرحلة العليا وهي الإمبريالية التي اتسمت بتجمع الشركات الوطنية العملاقة في كارتلات، وتَجَمُعْ الشركات والمؤسسات الوطنية المتوسطة في اتحادات، ليتحول الاقتصاد إلى مبدأ المال – السلعة – المال، وبدايات اقتصاد تصدير المال (رأس المال المالي)... ووصولاً إلى أعلى مراحل الإمبريالية والمتمثلة في ظهور الاحتكارات العالمية، وخروج الشركات العملاقة وكارتلاتها من النطاق الوطني إلى العالمي لتتكوّن الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات... وعندها بدأت الآليات الاقتصادية لهذه المرحلة الإمبريالية بالوضوح والانتشار، فظهرت السياسات المالية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي)، والاتفاقيات التجارية (الجات، اتفاقيات التجارة الحرة...)، والمعاهدات الدولية (معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، معاهدات الدفاع المشترك، معاهدات الأمم المتحدة ...).
ولكن هذه المرحلة الإمبريالية انتهت عند الحرب على العراق لتضع حداً فاصلاً لكل ما سبق من تلك النظم الاقتصادية وتبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة الإمبريالية المتوحشة التي اتخذت من أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 ذريعة لتعلن الولايات المتحدة عنها تحت شعارها الجديد (من ليس معنا فهو ضدنا)، وتبني عليه آليات جديدة لم يعهدها العالم من قبل... وأهم تلك الآليات التي نعيشها اليوم هي الحرب الإستباقية، والحرب الوقائية، وتغيير العقيدة النووية من دفاعية إلى هجومية، ومبادئ الحرب الاستثنائية التي لا يحق لغير الولايات المتحدة اعتمادها.
هنا نتساءل... هل الولايات المتحدة بحاجة لأن تسيطر على منابع النفط، أم إن بإمكانها تأمين حاجاتها النفطية دون الخوض في حروب مدمّرة ضمن هذا النظام الإمبريالي المتوحش؟.
أما الإجابة فيمكن أن تتلخص في إن هناك فرق بين أن تُؤَمّن أمريكا نفطها ووصوله وعدم التلاعب بأسعاره وعدم استخدامه كسلاح ضدها، وبين أن تمتلك النفط وتتحكم في إنتاجه وتصديره وتسعيره واستخدامه كسلاح ضد أي بلد تريد تركيعه... بمعنى امتلاكها للنفوذ أو الكارتل النفطي كاملاً... حيث ستنتفي الحاجة حتى إلى منظمة الأوبك للدول المصدّرة للنفط وغيرها من المنظمات النفطية... وهذا ما تثبته مختلف التقارير والدراسات الاستراتيجية التي صدرت وتصدر عن الإدارة الأمريكية بشكل منتظم وموثق.
فقد جاء في التقرير السنوي لمجلس الأمن القومي الأمريكي الذي نشر في الربع الأول من عام 1990 "إن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط، المتمثلة أساساً في مصادر الطاقة والعلاقات الأمريكية القوية مع بعض دول المنطقة، تستحق وجوداً أمريكياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة"، وجاء فيه أيضاً "إن الولايات المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج وفي المحيط الهندي وستسعى إلى دعم أفضل للأسطول في الدول المحيطة، وإلى خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة"... بالتالي، ليس هناك مجال للشك في إن ما ذكر في هذا النص من التقرير، كان في مجال استعدادات الولايات المتحدة لخوض شتى الحروب للوصول إلى مصادر الطاقة النفطية التي تعد من احتياجاتها الملحة على جميع المستويات، وإن النفط كان وسيكون الدافع الرئيسي وراء كل الحروب التي قامت وستقوم بها الولايات المتحدة ضمن استراتيجيتها لفرض سيادتها الكاملة على العالم بالسيطرة على منابع النفط وخطوط إمداداته، واستخدامه، عند اللزوم، كسلاح دمار شامل واستراتيجي ضد كل الدول التي تعتمد على نفط الشرق الأوسط، وهي أساساً أوروبا الموحدة والهند والصين واليابان... وبهذا لم تكن حربها عام 1991 ضد العراق، واحتلالها للعراق عام 2003 إلا ضمن تلك الاستراتيجية الإمبريالية التي وضعت بواسطة مجموعة اليمين المحافظ في الإدارة الأمريكية، فيما سميت بـ "مشروع القرن الأمريكي الجديد" ذو التأثير والتدخل المباشر في منطقتنا العربية عموماً والخليجية خصوصاً.
نظام عالمي جديد...
إعادة رسم المنطقة، ومشروع الشرق الأوسط الكبير
"النظام العالمي الجديد" مصطلح أطلقه الرئيس بوش (الأب) عام 1991 للتدليل على تَفَرّد الولايات المتحدة في حكم العالم ومسئوليتها عن إعادة تنظيمه وفق المبادئ (الديمقراطية - الليبرالية)... وجاء مصطلح "الشرق الأوسط الكبير" على لسان الرئيس بوش (الابن) عام 2004 لإكمال الصورة، ووضع تلك المسؤوليات الأمريكية قيد التنفيذ بإعلان التغييرات المتوقعة ضمن إعادة ترتيب المنطقة بما يتناسب مع المصالح الأمريكية في هذا "النظام العالمي الجديد"، حيث يتوقع تكريس عضوية أعضائه الجغرافيين الجدد (إيران وأفغانستان وباكستان وإسرائيل)، وهو تكريس يحتاج إلى مخاض سياسي عسير، ذو أبعاد إستراتيجية وتحالفات شرق أوسطية قائمة ومحتملة، في بنود معلنة وغير معلنة، مما يؤكد لنا إن النظرة إلى الشرق الأوسط ما هي إلا أنه منطقة مصالح وليس مجرد منطقة جغرافية.
ولكن محمد حسنين هيكل، الصحفي العربي الكبير، يرفض أن يكون النظام الدولي الذي يعيشه العالم اليوم هو "نظام عالمي جديد"، وإنه قد بدأ منذ ورثت الولايات المتحدة تركة الاستعمار البريطاني والفرنسي منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى إن "فكرة وجود نظام عالمي جديد تفترض وجود قوة اقتصادية وعسكرية غالبة تملكها دولة واحدة أو تحالف دول، في عصر بعينه، تستطيع أن تجعل إرادتها فاعلة أو مؤثرة، أو على الأقل غير قابلة للتجاهل، في كل قضية ولكل بقعة من بقع العالم الداخلة في تفاعلاته" (هيكل "حرب الخليج، أوهام القوة والنصر" – 1992) ... ومن هذا المنظور يرى هيكل إن ما ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة بالنسبة إلى دور الولايات المتحد "لم يكن نظاماً عالمياً جديداً، وإنما كان أقرب إلى ترتيبات جديدة يستحدثها نظام عالمي قديم يعيد بها تأكيد دوره في ظروف متغيرة" .
ولكن التطورات اللاحقة لتلك الرؤية التي وضعها هيكل في كتابه عام 1992، جعلت العالم، من أقصاه إلى أقصاه، ينتقل إلى واقع جديد لم يكن يوماً ضمن تنبؤات علماء المستقبليات حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي. حيث جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 كذريعة لإشهار دعاوى محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي الأمريكي التي أخذتها إدارة اليمين المحافظ الأمريكي ذريعة كبرى للانتشار العسكري الأخطبوطي في كل العالم حسب المخططات المعتمدة مسبقاً في "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، الخاص ببناء أسس وأعمدة الإمبراطورية الأمريكية الاستعمارية، بدءاً من مرتكزاتها الأساسية في أهم المناطق النفطية في العالم... وضمن هذا المشروع جاء الإعلان الأمريكي، حول أهمية إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط سياسياً وجغرافياً، على لسان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في مجلس الأمن في فبراير 2003. وضمن هذا المشروع أيضاً تم التخطيط للسيطرة على منابع النفط في الشرق الأوسط وفي الجمهوريات الإسلامية المطلة على بحر قزوين، بعد تَمَكّنَها من مختلف المنابع النفطية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها... وضمن هذا المشروع بدأت الحرب الأمريكية المستمرة على العرب والإسلام والمسلمين تحت دعوى محاربة الإرهاب، وتخليص المجتمعات المقهورة من الظلم والفساد والنظم الدكتاتورية التي أَجهَضَت، كما تدعي، كل أمل في توفير الأمن والأمان والحياة الكريمـة للإنسان فيها، في حين أن الهدف الأمريكي الرئيسي هو الهيمنة على هذه المجتمعات والسيطرة على ثرواتها وبخاصة البترولية منها، وجعلها أداة طيعة في يدها لا تعصي لها أمراً ولا تخالفها رأياً.
فالثروات البترولية هي الهدف وهي الغاية التي وضعت في استراتيجيات "مشروع القرن الأمريكي الجديد"... وبامتلاك كل هذه الثروات تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد حققت امتلاكها للسلاح الفريد الذي يجعلها تنفرد في سيادتها على العالم ضمن "نظام عالمي جديد"؟!... فهو سلاح فريد لكونه جامعاً بين قوة النفوذ الاقتصادي والصناعي والعسكري والسياسي في آن واحد، ويمكن أن يكون سلاح دمار شامل عندما يجتمع بمجمل منابعه ومصادره وخطوط إمداداته في حوزة وإرادة طرف واحد في العالم، ليتحكم به دون أي اعتبارات غير فرض السيطرة والسيادة وإشباع سطوة مصالحه القومية البحتة... فهو السلاح الذي وصفه محمد حسنين هيكل من النوع الذي "لا نار فيه ولا لهب"... وبالتالي تعد السيطرة التامة وتأمين استمرارية هذه السيطرة (المدعومة عسكرياً) على النفط العربي الخليجي ونفط بحر قزوين أحد أهم مستلزمات المشروع الأمريكي والنظام الدولي الجديد.
وماذا بعد أفغانستان والعراق ونفط بحر قزوين...
بعد الحرب الأمريكية على أفغانستان لتأمين خطوط إمدادات نفط جمهوريات آسيا الوسطى، وبعد الحرب الأمريكية على العراق واحتلاله للوصول إلى منابع النفط العراقي والسيطرة عليها، وبعد كل الفوضى التي خلّفتها هاتين الحربين غير المنتهيتين بعد، يا ترى هل سوف تتوقف الأطماع والمخططات الأمريكية، أم لا يزال هناك ما هو غير معلن في مخطط إعادة تنظيم العالم ومشروع الشرق الأوسط الكبير؟ ...
الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها إن هذه المنطقة، ومنذ عام 1990 وحتى الوقت الحاضر، تعيش حالة متصاعدة من القلق والترقب، ترافقها بعض الأزمات بين الحين والآخر، تتصاعد في حدتها حيناً وتخفت أحياناً أخرى... أما ما يحدث منذ احتلال العراق، فهو تحوّل نوعي في حالة القلق المتصاعد والأزمات المرافقة لها، ذلك التحول الذي يكشف عن نفسه في بعض المظاهر الخفيفة، وغير المعلنة، من الشد والجذب في علاقات أنظمة المنطقة مع الإدارة الأمريكية... مما يشير بكل وضوح إلى إن القادم من الأيام وربما السنين سيكون محملاً بالكثير من المفاجآت التي قد تكون جزءاً من المخططات الأمريكية غير المنتهية بعد، أو العكس تماماً...
إذن ماذا بعد أفغانستان والعراق؟... بكل تأكيد إن المراحل القادمة في تلك المخططات الأمريكية تهدف إلى الامتداد والسيطرة على ما تبقى من النفط العربي، وخاصة ما يقع منه داخل الخليج العربي وعلى ضفتيه شرقاً وغرباً، حيث لا يزال النفط السعودي والإيراني، وما بين ضفتيهما من نفط الإمارات الخليجية الصغيرة، دون السيطرة الأمريكية المباشرة، أي لا يزال ذلك النفط خارج ممتلكات الإمبراطورية الأمريكية...
وليس هناك شك أن أمريكا التي اعتادت أن تكيل بمكيالين وتعلن دون أي خوف أو خجل معاييرها المزدوجة في سياساتها الخارجية، بما يخدم مصالحها في تناولها للقضايا التي تواجه العالم، تحت عباءة الشعارات البراقة التي ترفعها حول حقوق الإنسان والديمقراطية وتحرير المرأة ومحاربة الإرهاب، تعلم جيداً أن الاحتياطي العالمي الأول والثاني للنفط موجود في هذه الدول العربية والإسلامية، وبالذات في العراق والكويت والسعودية وإيران وإمارات الخليج الأخرى...
وتعلم أيضاً أنه إذا ما استقر لها الأمر في هذه البلدان وتحققت لها السيطرة المباشرة على منابع النفط فيها، فسوف تكون قادرة على التحكم في الاقتصاد العالمي وتوجيهه بما يتفق ومصالحها في الهيمنة على العالم، الأمر الذي عناه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب بوضوح حين قال "إن القرن الحادي والعشرين هو قرن أمريكا الذي سوف يشهد سيادتها على العالم دون منازع".
فكيف تتحقق السيطرة على هذا النفط؟!!... فيا ترى هل تتحمّل هذه المنطقة حروباً أخرى تحرق الأخضر واليابس وما في داخلها من نفط؟!!... وهل تتحمّل المنطقة أن تعيش ضمن الوضع أو النظام الذي رسمه الاستعمار البريطاني مع بدايات القرن العشرين لتسهيل إدارتها حينذاك من 10 داوننع ستريت، في لندن؟!!، أم إنه حان وقت إعادة ترتيب هذه المنطقة سياسياً بما يناسب مصالح الاستعمار الجديد وتسهيل إدارة شئونها من البيت الأبيض في واشنطن؟!...
"صعود دولة الشيعة النفطية"
حسب المعلن أو المسموح بإعلانه، في التكتيك الإعلامي الأمريكي، في ما له علاقة بالاستراتيجيات والسياسات الخارجية الأمريكية، هو إن مناطق النفط في الخليج وشبه الجزيرة العربية، بحاجة ماسة إلى ترتيبات جديدة على المستوى السياسي والجغرافي، لتغيير خريطتها الجغرافية والسياسية التي وضعها الاستعمار الإنجليزي مع بدايات القرن الماضي، لتتحول إدارياً إلى خريطتها الجديدة المرسومة في دوائر البنتاجون والبيت الأبيض الأمريكي، إلى إدارات تملك الحد المطلوب من السياسات المتجانسة والسهلة الانقياد، لتسهيل مهمة السيطرة الأمريكية المباشرة عليها. ولأن هذه المناطق النفطية بالذات تقطنها "غالبية شيعية" من أبناء المنطقة، فإن ما يقال عن ترتيبات أمريكية لقيام دولة طائفية تحقق مصالحها في هذه المنطقة أصبح له مرجعية ترجحه، وخصوصاً إذا تابعنا أحداث المنطقة وما يحاك لمجتمعاتها من أزمات طائفية متتالية ومتصاعدة تم خلالها إخراج الشيعة من حالة السكون والاعتراض السلمي إلى حالة التجييش والعسكرة والعنف السياسي، ضمن برنامج زمني محكم ومدروس، خلال الفترة منذ 1980 وحتى وقتنا الحاضر.
في مقال جدير بالانتباه والتمعن بعنوان "صعود دولة الشيعة النفطية" (أغسطس 2004)، بقلم السعودية "مي يماني"، الباحثة في المعهد الملكي للشئون الدولية، تشير الكاتبة إلى أنه "لم ينتبه الغرب إلى الشيعة قبل عام 1979، حين بدوا للعيان على رأس ثورة عنيفة أعملت القتل في الآلاف وحولت شاه إيران إلى تاريخ منسي. وفي نظر الغرب، أصبح الشيعة يمثلون الوجه المحارب العدائي للإسلام، والفئة العازمة على تصدير العنف إلى العالم... ولقد بدت النسخة السنية من أولئك الشيعة، وحتى الوهابيين المتشددين في المملكة العربية السعودية، في غاية الوداعة مقارنة بهم، ولكن الهجمات الإرهابية على أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر 2001 غيّرت تلك الفكرة إلى الأبد"... وتضيف إلى ما سبق، في مجال تفسيرها لتغيير نظرة الغرب بالنسبة للشيعة إن "ما يسمى بالمثلث السني في وسط العراق يعد معقلاً لأشد المعادين للاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة والمتعاونين معه"، مما يزيد من تصاعد تشديد الأمريكان ضد السنة، وتوجههم أكثر للطائفة الشيعية لاستعمالها في تنفيذ مخططاتها المرحلية في المنطقة.
وتسترسل الكاتبة، بما تملكه من ثقافة غربية واطلاع على مجريات الأحدث العربية والسياسات الغربية عن قرب "إن التفجيرات الشنيعة التي وقعت في المزارات المقدسة للشيعة بكربلاء لن تغيّر ولن تحجب حقيقة جديدة جلية من حقائق الحياة في الشرق الأوسط، فالآن وبعد أن انقشعت سحابة الحرب في العراق، أضحى من الجلي أن نجم الشيعة قد بزغ، فخرجوا بعد طول سبات باعتبارهم الفئة الرابحة غير المنتظرة"... وتوضح الكاتبة أيضاً إن الشيعة في الجانب العربي أدركوا أن المسلمين الشيعة على الجانب الآخر من الخليج (إيران) قد اكتسبوا نفوذاً سياسياً هائلاً، مما دفعهم لأن ينتبهوا إلى قدرتهم على تنظيم أنفسهم، وإلى المنحة الكامنة تحت أقدامهم: ألا وهي النفط... وتقول "... كما انتبه الشيعة إلى الصدفة الجغرافية التي وضعت أكبر احتياطي نفطي على مستوى العالم تحت أرض تشكّل تجمعاتهم فوقها أغلبية سكانية، في إيران، والمنطقة الشرقية في السعودية، والكويت، وجنوب العراق، والبحرين... فمرحباً بكم في كومنولث (دولة النفط) الجديد".
ويمكننا تعزيز ما جاء في تحليل الباحثة القديرة، بالرجوع إلى قراءة بسيطة لأحداث منطقتنا الخليجية العائمة فوق أكبر مخزون نفطي في العالم، خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، وما تم خلال تلك الأحداث من خلق وتكريس حالة طائفية خطيرة وغير مسبوقة في البحرين والكويت والمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية. بدأت تلك الأحداث في البحرين تحديداً من خلال ما دعي بثورة الجياع التي انطلقت في النصف الأول من عام 1994، وبقيت محصورة بالطائفة الشيعية بقيادة عدد من الشباب البحريني العائد من الحوزات الدينية والمراكز السياسية الإيرانية حيث تم تدريبهم وغسل أدمغتهم بالطائفية والمذهبية السياسية، بعد أن تم استقطابهم بواسطة منظمات إيران الثورة خلال عقد الثمانينات ضمن مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى المنطقة.
وبقليل من التَمَعّن في الدور الإيراني المساند للقوات الأمريكية في حربها على أفغانستان، ونفس الدور في الغزو الأمريكي على العراق واحتلاله، وما أعطي للشيعة ذوي الأصول الإيرانية في العراق من دور أساسي في تلك الحرب والاحتلال والأحداث التي تلتها وحتى الآن، لتيَقَنّا إن ما حصدناه في مجتمعاتنا الخليجية خلال المرحلة الماضية لم يكن نبتاً شيطانياً ظهر دون رعاية وحماية ومراقبة، وانما هو نتاج مشاريع وخطط وضعت للمنطقة وتم تنفيذها ولايزال العمل جاري بها للوصول إلى أهداف استراتيجية بعيدة المدى... فما حدث ويحدث في العراق ما هو إلا الفصل الرئيسي الذي سوف تتبعه فصول لا تزال تتفاعل أحداثها بين ظهرانينا سواء في البحرين، أو في المنطقة الشرقية في السعودية، أو ما يمكن أن يدعى بالخطر الديمغرافي الذي يشكل تهديداً محتملاً للمجتمعات الخليجية الأخرى... تفاعلات نعيشها كل يوم تشير إلى ما هو مرسوم لهذه المنطقة من مستقبل مظلم في الأجندة الأمريكية... ولكن وللأسف الشديد، دون أن نلاحظ أية مؤشرات لاستنفار همم حكومات المنطقة ونخبها المثقفة وأبناءها الشرفاء...
صعود وسقوط الإمبراطوريات
كان نشوء الإمبراطوريات العظمى يعد امتداداً طبيعياً لحضارات تاريخية لها مقوماتها الإنسانية العريقة الممتدة أفقياً بين أكبر مساحة بشرية متآلفة في قيمها ومفاهيمها الثقافية والإبداعية، وعمودياً في الجذور الفكرية والقيمية والمعيشية لمجتمعاتها... فكانت تلك الإمبراطوريات ترتكز على ما تملكه من بعد حضاري وتاريخي وإنساني، وما تقدّم من إبداعات إنسانية ومعرفية إلى مسيرة تطور التاريخ البشري... فيا ترى هل تملك الإمبراطورية الأمريكية المزعومة المقومات الحضارية المطلوبة لقيامها واستمرارها؟.
بداية لم تأت هذه الإمبراطورية، رغم ما تملكه من معالم وآليات وأهداف، من عمق حضاري يملك من القيم الإنسانية الإيجابية ما يضيف إلى موروث القيم الإنسانية الممتدة على طول التاريخ البشري، بل ما تملكه هذه الإمبراطورية من قيم وثقافات تضاف إلى موروث قيم العدائية واللاإنسانية بعيداً عن قيم الخير والعدالة، مما خلق لها رفضاً وعداءً مبكراُ على امتداد الأرض قاطبة... كما لم تأتي هذه الإمبراطورية من عمق زمني طويل يؤهلها أن تقوم على أسس تحفظ لها استمراريتها بالتفاعل مع قيم الشعوب الأخرى الممتدة بعمرها وقيمها العريقة في أعماق التاريخ، مما يجعلها إمبراطورية لا تمتلك قاعدة تستند إليها لكونها مرفوضة من الشعوب العريقة التي تنظر إليها بازدراء لما تملكه (هذه الإمبراطورية) من ثقافة وحشية وعدائية ومادية بحتة دون أية اعتبارات إنسانية... إذن عدم نضوج هذه الأمة تاريخياً وزمنياً نسبة بالأمم العريقة من ناحية، وتلك القيم المادية واللاإنسانية واللاأخلاقية في ممارساتها مع كل الأمم الأخرى من ناحية أخرى، لا يؤهلان هذه الإمبراطورية أن تقوم، وإن قامت، بعوامل القوة والبطش، فإنها لا تملك مقومات استمرارها.
لكل ذلك، تُقابَل السياسات الأمريكية بالرفض، بمختلف أشكاله، في كل موقع تمتلك فيه موطئ قدم بعد كل عدوان عسكري أو تدخل سافر، حيث تكتشف الشعوب تلك السياسات القائمة على العدوان والعنف والقتل والتدمير والنهب والكذب والاغتصاب والتحايل اللامحدود، دون أي اعتبار لإرادة الشعوب وكرامتها... ولذلك أيضاً تلتزم الإدارات الأمريكية بالسرية والغموض والتعتيم وعدم الإفصاح عن أهدافها وخططها وبرامجها، كما تلتزم بسياسة إعلامية على قدر كبير من التكتيك في ممارسة الكذب لخلق الذرائع لتنفيذ خططها أو الإعلان عن بعض من تلك الخطط، لما تحويه هذه الأهداف والخطط من مخاطر ونوايا شيطانية... إلا إن، ولاعتمادها الكلي على القوة في الانتشار والسيطرة، فإنها ستستمر بالمضي في تنفيذ مشروعها الاستعماري والتوسعي نحو منابع النفط، ما استطاعت لذلك سبيلا...
ولكن، وبينما تتفاعل شعوب العالم قاطبة على تأسيس كل أنواع المقاومات لمواجهة هذه القوة المفرطة القائمة على أسس قيمية وتشريعية عدائية، والتي لن تهدأ قبل أن تهزمها وتعيد أسس العدالة والإنسانية إلى نصابها التاريخي والحضاري، فإنه في الجانب الآخر هناك بدايات واضحة لانهيارات في الداخل الأمريكي... مما يؤكد بأن انهيار تلك القوة الأمريكية، القائمة على قاعدة من تراب، لن يكون بعيداً...