الديمقراطية... من أفلاطون إلى الناتو

بالديمقراطية، هذا النظام اليوناني الذي يعني "حكم الشعب"، حُكِمَت أثينا والمدن اليونانية قبل الميلاد (578 ق.م. – 35 ق.م.)، حيث كان الرجال (المواطنين الذكور فقط) يجتمعون في الساحات العامة ويقترحون القوانين ويتفقون عليها، على أن تُنَفَذ بواسطة مجموعة منهم يتم إختيارهم بالقرعة، ولم يكن حينها يوجد مفهوم "حقوق" المواطن المتعارف عليه حالياً... وإستمرت تلك الديمقراطية زمناً قبل أن يُقضى عليها بهجوم من فلاسفة اليونان، ولم يَستعِد هذا المفهوم قوته الا بعد مضي قرون عديدة.
وعادت الديمقراطية بقوتها في العصر الحديث لتحكم بها دول الغرب، كنظام سياسي يعتريه غموض غير معلن المضمون والأبعاد... فالمعلن عنه هو إنه نظام دستوري برلماني انتخابي تعددي تداولي حر لامركزي وغير مؤدلج، وغير المعلن هو إنه يعتمد بكل استبداد على تحكيم إرادة (الديمقراطيين) دون سواهم... وغير المعلن أيضاً إن شعار الدمقرطة التي تبناه أولئك الديمقراطيون، ما هو إلا ذريعة لتبرير سياساتهم التوسعية (الاستعمارية)، فأصبح للناتو في هذه الديمقراطية دور أكبر من دور إفلاطون أو غيره من فلاسفة اليونان... وكان تدخل الناتو في كوسوفو أول مثال تاريخي حي على تحكيم إرادة الديمقراطيين وفرض الديمقراطية بالحرب، ليختزلوا مجمل تاريخ التطور الغربي والديمقراطي في ذلك العنوان ذو الدلالات الفلسفية العميقة "من أفلاطون الى الناتو" (From Plato to Nato).


كان هذا التطور متوقعا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث بدأت تتشكّل معتقدات دول الغرب المنتصرة حول أهمية فرض الديمقراطية في عموم أوروبا على أسنة الرماح، بمزاعم منع قيام حروب أخرى، ولكن الخوف من استعمال القنابل النووية في ذلك العصر أجّل ذلك الاتجاه لتعود إلى الواجهة مباشرة بعد إنتهاء المعسكر الشيوعي، ولتبدأ مرحلة فرض الديمقراطية بقوة السلاح، فاصبح نشر الديمقراطية مبررا معلنا لأي حرب أو غزو أو احتلال أو كشرط للمساعدة الاقتصادية، مهما تكن التكلفة في أرواح البشر.
وهكذا أصبحت "دمقرطة" العالم أيديولوجية الديمقراطيين، فهم يعتقدون بضرورة إقامة نظام عالمي ديمقراطي ومن يعاديه يعتبر شريرا يستوجب القتل، ومعظمهم يؤمنون بأن من حقهم فرض الديمقراطية بدون حدود في الوقت أو المكان وكلهم يدّعُون أن هذا "ليس فرضا بالإكراه ولا يمكن أن تكون إلا اختيارا، إذ يمكن فرض الديكتاتورية وليس الديمقراطية" (ستروب تالبوت نائب وزير الخارجية الامريكي-1999)... ولكن فرانسيس فوكوياما يؤكد تلك السياسات بقوله "أن توسع المجتمع العالمي الديمقراطي هدف مباشر للسياسة الامريكية الخارجية"... وحيث يعد ذلك نفياً لحرية البشر في اختيار نظامهم ومصيرهم، تمارسه أعرق الديمقراطيات كأي نظام استبدادي... فياترى أين تقع الفواصل بين الإستبداد والديمقراطية.
وهناك واجهة خلفية أخرى خلف الواجهة المعلنة عن تلك الديمقراطيات، حيث لا يمكن الفصل بين الدكتاتورية والديمقراطية... فهناك تحافظ النظم الديمقراطية على ثقافة الديمقراطية في الكتب والبرامج التعليمية في كافة المراحل الدراسية كأيديولوجية لا تختلف عن الأيديولوجيات الشمولية (المستبدة)، حيث تعالج الديمقراطية وكأنها حقيقة مسلم بها ولا يجوز مناقشتها، لذلك تناقش اللامساواة الاجتماعية، مثلا، على أنها نتيجة "عدم كفاية الاجراءات الديمقراطية" وليس تطبيق الديمقراطية نفسها... وتعتبر الإجراءات القضائية في الدفاع عن حق المتسولين في التسول، مثلاً، كنوع من أنواع حرية التعبير ونصرا للديمقراطية الليبرالية، فبدلا من العدالة في توزيع الثروة يسمح القانون للفقراء بأن يتسولوا من الاغنياء... وهكذا.
نعم... في تلك الديمقراطيات، مثلاً، يتم عزل خصوم (الأيديولوجية) الديمقراطية من الحياة المدنية ويحظر عليهم ممارسة حقوقهم السياسية مثل تشكيل الاحزاب وإصدار الصحف، بمعنى أن النظام الديمقراطي يخنق خصومه... وهنا تتطابق تماماً تلك الديمقراطية مع الديكتاتورية... فياترى هل هناك فواصل بين الإستبداد والديمقراطية...
قد يكون هذا المقال بمثابة قراءة بسيطة وسريعة في خفايا الديمقراطيات العريقة، إلا إنه يمكن أن يتحول إلى دراسة متكاملة... وخصوصاً بعد الإعلان والاعتراف بكل تلك الأكاذيب التي مارستها الديمقراطيات العريقة لإحتلال العراق، وبعد كشف بشاعة الديمقراطية في سجون ومعتقلات المحتل المتمدن والمتحضر.
فيا ترى في أي الخانات الديمقراطية نضع الأنظمة العربية... الديمقراطيات العريقة أم المبتدئة...