قراءة في الديمقراطية و(طبائع الإستبداد)

في عالم اليوم هناك حوالي 20% من دول العالم التي توصف انظمتها بالديمقرطية، وحسب المعلن والمنظور، تعد هذه الدول هي الأكثر استقراراً، والأكثر ازدهاراً من بقية الدول التي توصف أنظمتها باللاديمقراطية أو بالإستبدادية.
ولكن مما لا يمكن إنكاره أيضاً أن هناك وضع مزمن ومتفاقم من اللامساواة في الدخل والثروة والأوضاع الاجتماعية في تلك الدول الديمقراطية، ومثال ذلك: الولايات المتحدة الامريكية، حيث تذهب فوائد النمو الاقتصادي الى الأغنياء ويحرم منها الفقراء، وحسب إحصاء عام 2000 لإحدى الهيئات الرسمية الأمريكية فإن 1% من دافعي الضرائب الاغنياء إرتفع معدل دخلهم بنسبة 31% للفترة 1995-1997، في حين أن معدل دخول 90% من دافعي الضرائب الفقراء ازداد 3% فقط... إضافة إلى إن هناك قطاعات كبيرة جداً من الشعب معزولة ومهشمة سياسيا في تلك الدول الديمقراطية والليبرالية... نعم رغم ذلك ندعوها بالديمقراطية والليبرالية... وغيرها بالإستبداد.


أما المثال الآخر، فهو التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية في وسط وشرق أوروبا منذ ما بعد سقوط المعسكر الإشتراكي، أي ما بعد 1989، كما يلخصها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في التالي: إنخفاض معدلات الحياة، إرتفاع معدلات الوفيات خاصة بين الشباب ومتوسطي العمر بسبب انتشار أمراض كانت قد انقرضت مثل السل، الارتفاع غير العادي للفقر واتساع الفجوة بين الفقراء والاغنياء في الدخل والثروة، إزدياد التمييز في الجنس حيث فقدت المرأة في النظام الديمقراطي مساواتها مع الرجل في الوظيفة والاجور وازدادت أعباؤها في المنزل والعمل، التدهور المستمر في التعليم، إرتفاع معدل البطالة، تدني الأجور... هذا جزء من تكلفة الانضمام إلى المنظومة الديمقراطية.
في الجانب الآخر، وخلال العقود الأخيرة، صارت كلمة "دولة ديمقراطية" مرادفة لكلمة "دولة غنية"، مما يخلق إنطباعاً بإن الدخول في منظومة الدول الديمقراطية يعني الدخول في عالم الثراء... متجاهلين ذلك التاريخ الشاهد على إن نهضة وغنى تلك الديمقراطيات قاما على تخلف وإفقار الآخرين، أي قاما على اعتماد مبدأ إستعمار الشعوب وامتصاص مواردها... بمعنى إن تلك الدول الديمقراطية تغتني بإفقار الاخرين... فكما أن اللامساواة بين طبقات الشعب داخل الدولة الديمقراطية تتعمق وينمو داخلها الاستبداد (غير المباشر أو غير المرئي)، كذلك تتسع وتتعمق الفجوة بين الديمقراطيات الغنية (المستَعْمَرَة) والدول الاخرى (المسْتَعمِرَة)، ويزداد وينمو استبداد تلك الديمقراطيات في سياساتها الاستعمارية... ولأن هذه الديمقراطيات (الغنية) لا تؤمن بالمساواة بين البشر، فلا نرى لها جهوداً لانقاذ العالم من الفقر والمجاعات.
وأيضاً... تعمل الديمقراطيات الغنية على الحد من قبول المهاجرين إليها بكافة السبل، حيث تصرف أغلب هذه الدول ميزانيات ضخمة على المراقبة الكترونية لحدودها لمنع تسلل المهاجرين، وفي حال قبولها لبعض المهاجرين تشترط أن يكونوا من دول غنية أو أصحاب أرصدة كبيرة في مصارفها، أو ذوي مهارات ومؤهلات علمية عالية... في حين أن الدول غير الديمقراطية (المستبدة) كدول الخليج تعد أكثر قبولا للمهاجرين الفقراء من البلاد الفقيرة، ضمن سياسات السوق وحركة العمالة الأجنبية التي تفرضها اتفاقيات وضعتها الدول الديمقراطية الغنية.
ولأن الديمقراطية لا تتواجد منفصلة عن السوق الحرة!! ولأن أغلب الحقوق التي تتطلبها السوق الحرة مثل حرية التملك وحرية إقامة المنشاّت والشركات تكفلها الديمقراطية!! نرى أن الديمقراطية أصبحت وسيلة للتوسع الاستعماري من خلال فرض السوق الحرة وما يصاحبها من سياسات الخصخصة وسياسات السوق وما ينتج عنها من لامساواة... لذلك يعد من أهم شروط قبول أية دولة لدى الغرب كنظام ديمقراطي هو تحرير تجارتها... لذلك ترى هذه الديمقراطيات العريقة بضرورة استعمال القوة العسكرية في فرض الديمقراطية والسوق الحرة على أية دولة متمنعة أمام سياساتها، كما حدث في البوسنة وكوسوفو ويحدث في العراق... دون أي اعتبار لحجم الضحايا والدمار والكوارث التي تنتج من هذه الحروب الديمقراطية.
وهكذا، فلم يعد مستغرباً أن يصبح مؤشر بورصة داو جونز او أي بورصة محلية بديلة أهم مقياس لنجاح الامة أو فشلها، فاذا هبط مؤشر البورصة كان ذلك نذيرا بفشل المجتمع وفشل الديمقراطية فيها، والعكس صحيح، كنتيجة من نتائح إرتباط الديمقراطية بنظام السوق (وإستبداده)... هذه هي الديمقراطية.