نواصل قراءة الولايات المتحدة

في الجزء الثاني من ورقته البحثية حول "المشهد الاقتصادي في الولايات المتحدة وتداعياته على سياساتها الخارجية"، يحلل الدكتور زياد حافظ الإطار الثقافي والفكري للنظام الأمريكي كأحد مكونات وآليات النظام والسياسات المتبعة في الولايات المتحدة... ويبدأ بمراجعة أسس النظرية الإقتصادية، كما يتم تدريسها في الجامعات الأمريكية، لتفسير السياسات الإقتصادية الأمريكية التي تنبثق من إطار فكري يفرض "رفع القيود والمراقبة على النشاطات الإقتصادية إلى مرتبة نهاية التاريخ"...


ويحلل الباحث كيف ساهمت أفكار اليمين المحافظ من خلال مؤسسات الأبحاث (خزانات الفكر)، على تفكيك السياسات الإقتصادية القائمة على دولة الرعاية وسلطة النقابات، وتبني السياسات الجديدة القائمة على أولوية الأسواق وتقليص دور القطاع العام... وإحدى الوسائل في تلك الهيكلية الفكرية المتبعة، هي إزالة البعد السياسي من الآلية الفكرية في الإقتصاد، والذي يتطلب تعليم الاقتصاد الصرف، والمهتم أساساً بنظريات التوازن الاقتصادي، علماً بإن الاقتصاد الصرف يعد نوعاً من الوهم والضلال... ويسترسل الباحث في هذا المجال ليثبت إن الفكر الاقتصادي الحديث أصبح منظومة فكرية مجرّدة وبعيدة عن الحقائق الاقتصادية، وفي هذه الحالة تكون إما خاطئة أو غير واقعية في كثير من الأحيان، مما جعل الكثير من طلاب الاقتصاد في الغرب مستاءون من طريقة ومضمون تعليم الاقتصاد في جامعاتهم، حيث يتساءلون عن جدوى مايدرسونه في هذه الجامعات ومدى نفع ذلك لمجتمعاتهم، حيث مختلف الأبحاث المنشورة لا تفيد ولا تزيد في فهم المعضلات التي تواجهها المجتمعات ولا تؤدي إلى حلول واقعية.
ومن هنا ظهر بعض الاقتصاديين الأكثر صراحة وجرأة لينتقدوا بشدة هذا الفكر "النيوكلاسيكي" الجديد في الاقتصاد، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك ويقولون أنها خاطئة... ويعطي الباحث مثالاً على ذلك في نظرية التجارة الحرة التي تعد ركناً من أركان الفكر النيوكلاسيكي، وفي نفس الوقت تظهر بوضوح تداعيات أبعاده السياسية. تفرض هذه النظرية إن التجارة الحرة "جيدة" لكل أطرافها، وتذهب بعيداً في تفسير وتبرير هذه التجارة التي أصبحت العنصر الأساسي للسياسة الخارجية للإمبراطورية الأمريكية الصاعدة، كما كانت بالنسبة للإمبراطورية البريطانية سابقاً... ولذلك تفرض الإدارة اليمينية في الولايات المتحدة إتفاقيات التجارة الحرة على الدول التي تتماشى مع سياساتها مدعية إنها تحقق مكاسب لتلك الدول، علماً بإن الإقتصاديات الناشئة لتلك الدول لا تمتلك الهيكليات الإقتصادية المتجانسة مع الإقتصاديات المتفوقة للولايات المتحدة، إضافة إلى ذلك البون الشاسع والتفاوت في وظائف الإنتاج بين الإقتصادين، مما يجعل تلك الإقتصاديات الناشئة تفتقر للشروط النظرية لتحقيق أية مكاسب من تلك الاتفاقيات التجارية والأسواق التجارية الحرة... يضاف إلى ذلك إن عدم التوازن في القدرة التفاوضية بين الدول الناشئة والدول المتقدمة يعكس موازين القوى بين الفرقاء، والتي في تلك الإتفاقيات سوف تميل لصالح الدول المتقدمة بكل تأكيد.
ويختم الباحث هذا الجزء من البحث بنقده الشديد لهذا الفكر الاقتصادي بتعريفاته الضيقة للعقلنة من خلال رؤيته في "إن الإنسان العقلاني يسعى لتحقيق أكبر نصيب من الأرباح"، رغم إن هذه النظرية تختلف مع الواقع، لتعريفه لمضمون العقلانية بعيداً عن عوامل إنسانية عديدة يصعب قياسها محاسبياً رغم أهميتها، مثل الثقافة والإنفعالات الإنسانية والعواطف والعادات المكتسبة من تاريخ الشعوب وتجاربها...
ويعترف الباحث بإن هذا الفكر الإقتصادي الغربي يعمل بكفاءة وبدون رحمة أو عدالة، ولكن صياغته بعبارات ومفاهيم تستهوي الجماهير وتساهم في شعبيته هو ما يبرر إستمراره "حتى الآن على الأقل"... ويصفه الكثير من المفكرين الغربيين بإنه نظام اقتصادي يبرر القوة والتسلط، وإن اليد الخفية للمصالح الخاصة التي تنشأ في هذا النظام الاقتصادي قد تؤدي إلى زيادة في ثروة الأمم لكن بالمقابل ستفسد الأخلاق لأنه نظام غير ناجح وغير عادل وغير نبيل، وما لم يتم إدخال عناصر المنفعة العامة في آليات السوق فسوف تتحول نزعات التنافس والاستيلاء بداخله إلى حروب شاملة... وهذا ما يبرر سياسة الإدارة الأمريكية التي بدأت من خلال تطبيق نظام الإقتصاد الليبرالي الجديد في القضاء على الحرية الاقتصادية والديمقراطية تحت شعار حمايتهما... وهذا ما يمارسه المحافظون الجدد من خلال "اللجوء إلى الكذب والخديعة للوصول إلى أعلى مراتب السلطة للنخبة القليلة التي هي مؤهلة لحكم العالم" في رأيهم.