الديمقراطية من الداخل...

من المفارقات الأليمة في مجتمعاتنا الأبوية أننا جميعاً نعتقد بأننا ديمقراطيون لمجرد اعتناقنا لبعض الأفكار والمبادئ الوطنية والسياسية، كما يعتقد كل فرد نفسه ديمقراطياً لمجرد كونه يحمل مؤهلاً أكاديمياً عالياً، أو يرعى مؤسسة مدنية أو دينية، أو ذو منصب إداري عالي، أو ذو تاريخ في العمل الوطني أو العمل التطوعي يمتد إلى عصور غابرة، أو يجيد الكلام والتحدث في بعض الشعارات الوطنية والمصطلحات السياسية... إنها حالة الإنفصام والتناقض بين الفكر والممارسة التي يعيشها مجتمعنا ونرى تجلياتها واضحة في مواقع مختلفة من العمل السياسي والإداري والأهلي والوطني.
إن هذا اللبس أو الخلط في المفاهيم عادة ما ينتج في مجتمعات مثل مجتمعاتنا التي تشكو من قصور شديد في الوعي الديمقراطي وماهية الديمقراطية، والذي يعد من أهم أسبابه فقر المجتمع بشكل عام في الثقافة السياسية، إذ إن مجرد الإيمان بالديمقراطية لا يعني وعياً ومعرفةً بها أو ممارسة لها، فلكي لا تكون الديمقراطية مجرد شعارات ترفع ولا تمارس، ولكي نتعلمها بعمق تراكمي، يجب أن تطبق في حياتنا اليومية... وهذا ما لا يمكن أن يتحقق دون بناء أسس ودعامات قوية لها ضمن البناء التربوي في المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة من خلال المناهج النظرية، وما لا يمكن أن يتحقق بدون الممارسة العملية الحرة في حق الاختيار والترشيح والانتخاب في العمل الطلابي، وفي كافة مجالات العمل الأخرى، بجانب تعلم الحوار والتفاوض وقبول رأي الأغلبية والقبول بالتعددية والاختلاف.


ولتحقيق التحول إلى مجتمع ديمقراطي، لا يمكن الاكتفاء بالإيمان بالديمقراطية وبرفعها كشعار، وإنما هناك حاجة حقيقية لفهم وتبني وممارسة الديمقراطية بمضمونها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي... ولتخطو مجتمعاتنا خطواتها الأولى نحو الديمقراطية، هناك حاجة ملحة لوضع نظريتنا الخاصة بمضموننا الأخلاقي والاجتماعي للديمقراطية ونشر الوعي الخاص بها وخلق آليات تحقيقها من خلال مؤسسات تقوم بدور التغيير.
ولتحقيق ذلك، أيضاً، علينا الاقتناع بضرورة الإيمان بالديمقراطية كحالة ذهنية تنبع من داخل ذواتنا النفسية وبقناعة تامة بأنها تصب في النهاية في الصالح العام... ذهنية ديمقراطية تبني بداخلنا حالة من الرضا تحثنا دائماً لتقبل الآخر بكل اختلافاته، وتجعلنا نتبنى صوت الأغلبية حتى لو كان ضد مصالحنا الشخصية في مرحلة مؤقتة مؤمنين بأنه يحقق أهداف المجتمع بشكل عام.
فمن يستطيع تبني الذهنية الديمقراطية يتمكن من بناء أسرته على أسس ديمقراطية حقيقية، ويستطيع أن يخلق بداخل أفراد هذه الأسرة، وهي اللبنة الأولى في المجتمع، الذهنية الديمقراطية والأولويات الوطنية التي تتقدم على الأولويات الفردية والذاتية والطائفية. ومن يتبنى هذه الذهنية يستطيع أن يتعامل مع المجتمع، سواء في المدرسة أو في المؤسسات الرسمية أو مؤسسات المجتمع المدني أو في الشارع، ببعد وعمق وطني يجعله حريصاً كل الحرص على مكتسبات المجتمع حتى لو كان معارضاً ومختلفاً معه... وبهذه الذهنية الديمقراطية نتعلم ما معنى الانتماء والولاء الحقيقيين للوطن وكيف نظهر ونعلن عن هذا الانتماء في المعارضة كما في التوافق والقبول... وبالذهنية الديمقراطية نتعلم كيف نترفع على الخلافات الهدامة، وكيف ننتقد للبناء... وكيف نتواصل ونتحاور مهما كانت أدياننا أو طوائفنا أو معتقداتنا، إذ لا يمكن أن يكون الهدم والدمار من وسائل التعبير عن الرأي لتحقيق الديمقراطية، ولا يمكن أن يكون الهدم والدمار، بشتى أنواعه، من دلائل حب الوطن والولاء له.
لذا يجب التأكيد إنه، بهدف إرساء البنى التحتية الأساسية للمجتمع الديمقراطي، على مؤسسات المجتمع والدولة تبنّي الديمقراطية، فكراً وممارسة، كخيار مجتمعي، وأن تبقى هذه المؤسسات غير مقيّدة في أي ظرف من الظروف في ممارستها للديمقراطية، وأن تعتبر الديمقراطية خيارها الأساسي للعمل وبالتالي لنشر السلوك الديمقراطي في المجتمع... وعليها تكريس الممارسة الديمقراطية بجميع آلياتها... الشفافية، والمواطنة الملتزمة، وحرية التعبير عن الرأي، والتعددية وقبول الاختلاف ونبذ الإقصاء... إذ إن هذا البناء الديمقراطي هو السند والقاعدة الأساسية لممارسة دور الرقابة والمساءلة والمحاسبة ومحاربة الفساد بشتى أنواعه وفي مواقعه المختلفة.


كلمات دالة: