الثقافة السياسية والتطور الديمقراطي (2)

توضح الدراسات الميدانية أن القيم الديمقراطية لا تمثل مكوناً رئيسياً في بنية الثقافة السياسية العربية، بل على العكس، إذ تشيع في صفوف الأغلبية العربية قيم السلبية والعزوف عن المشاركة، والشعور بعدم القدرة على التأثير في مجرى الأحداث والتطورات، وضعف روح المبادرة. إضافة إلى ذلك هناك منظومة من القيم السلبية السائدة في هذه المجتمعات تتمثل بعبادة السلطة والشك فيها والتحايل على قراراتها والاستهانة بالمال العام والإستهانة بقيمة الفرد ذاته في نمو الوطن إضافة إلى السلطوية والولاءات الضيقة والمحسوبية. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن القيم الديمقراطية (المتمثلة في الثقافة السياسية الديمقراطية) ليست محدداً لصياغة أنماط العلاقات والتفاعلات داخل مؤسسات المجتمعات العربية (الأسرة، المدرسة، الجامعة، الجمعية، الاتحاد، النقابة)، بل إن هذه المؤسسات ساهمت - وتساهم - بأوجه مختلفة في إعادة إنتاج القيم التسلطية في شكل من أشكال الثقافة السياسية الخاصة بهذه المجتمعات.

كما أن القيم الديمقراطية لا تمثل أساساً لصياغة العلاقات داخل الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية الموجودة على الساحة السياسية من ناحية ولا العلاقات فيما بين تلك الأحزاب والتيارات من ناحية أخرى، حيث تنتشر فيما بينها نزعات التخندق السياسي والفكري، وتجاهل أسس وأخلاقيات الحوار السياسي، وهو الأمر الذي ساهم ضمن عوامل أخرى في خلق محاور استقطاب مختلفة داخل المجتمع من فترة زمنية إلى أخرى. وقد دار - ويدور - هذا الاستقطاب حول ثنائيات عديدة منها: القومية والأممية، العروبة والإسلام، الدين والدولة، الدينية والعلمانية، الطائفية والوطنية، الاشتراكية والرأسمالية... الخ.
وللبحث في العوامل التي عملت لفترات زمنية طويلة على عدم بروز قيم الديمقراطية في الثقافة السياسية العربية وإضفاء الطابع التسلطي على تلك الثقافة يجب دراسة:
أولاُ: الظروف التاريخية، المتمثلة في التراكم التاريخي لتقاليد مركزية السلطة والاستبداد السياسي (بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة) من قبل الحكام الذين تعاقبوا على الحكم في المنطقة العربية حتى الوقت الراهن، وذلك باستثناء فترات محدودة تعرضت تلك السلطة فيها للضعف والتدهور في بعض المراحل التاريخية. إن استمرارية هذه التقاليد جعلت من الدولة المركزية ذات السلطة القوية أحد الثوابت الرئيسية في المجتمع العربي، ومن ثم أحد العناصر المحورية في الثقافة السياسية العربية التي تنتقل عبر الأجيال.
ثانياً: الظروف الاجتماعية – الثقافية، التي لا يمكن دراستها بمعزل عن الظروف التاريخية، وهي الظروف التي فرضت سيادة الطابع التسلطي الأبوي على عملية التنشئة السياسية والاجتماعية العربية. فعمليات التربية والتنشئة المتواصلة التي يتعرض الفرد لها خلال مختلف مراحل حياته، والتي يقوم بها العديد من المؤسسات الاجتماعية والسياسية كالأسرة والمدرسة والجامعة والحزب والنقابة وأجهزة الإعلام، تقوم على أسس تسلطية أبوية، تكرس لدى الفرد منذ سنواته الأولى قيم الطاعة والامتثال والخضوع وتلقي التوجيهات من أعلى والتسليم بها دون حوار أو مناقشة أو نقد.
إن العائلة العربية لا تتبنى بشكل عام أية أسس ديمقراطية في عملية التنشئة السياسية للأطفال، وتتبعها السياسة والعملية التعليمية في مراحلها الدراسية المختلفة الخالية من أي جهد لغرس القيم الديمقراطية لدى التلاميذ والطلاب وتدريبهم على المشاركة من خلال الحوار وإبداء الرأي في قاعات الدراسة، وتنتهي بدور أجهزة الإعلام في نشر وإشاعة الوعي السياسي والقيم التي تعكس الثقافة السياسية التسلطية على المواطنين. ونظراً إلى طول فترة التنشئة السياسية والاجتماعية غير الديمقراطية التي يتعرض لها الفرد (من الأسرة إلى المدرسة إلى الجامعة)، فإنه لا يُنتظر من الإنسان العربي أن يشارك في الحياة السياسية بفاعلية بعد كل ذلك، فهو لم يتعود المشاركة ولم يمارسها من قبل.
وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن إنجاز تحول ديمقراطي حقيقي على الصعيد السياسي العربي دون تعميق الديمقراطية على صعيد المجتمع بحيث تصبح نمطاً عاماً للحياة يشمل مختلف أشكال المؤسسات والعلاقات الاجتماعية في المجتمع. وتعد هذه العملية أحد المتطلبات الاجتماعية الرئيسية لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي، إلا أن إنجازها يرتبط بشروط واعتبارات عديدة.
ثالثاً: الظروف السياسية – المؤسسية، المتمثلة في حرص النظم الحاكمة، على تكريس مركزية السلطة ورفض المشاركة السياسية وتداول السلطة. ولذلك غابت قضية الديمقراطية، ولم يعد هناك مجال لظهور ثقافة سياسية ديمقراطية أو نظام ديمقراطي حقيقي. إن الممارسات السياسية الخاطئة والرافضة لتداول السلطة والمشاركة السياسية أدت إلى الانتهاكات المستمرة التي لحقت بالقيم والقواعد الدستورية والقانونية العربية، لذلك اتسمت الحكومات العربية المختلفة بالطابع السلطوي مع تفاوت في الدرجة. وقد تجلى ذلك على نحو واضح في تركيز السلطات، دستورياً وواقعياً، لمصلحة السلطة التنفيذية مما أدّى إلى تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، بشكل عام في جميع المجتمعات العربية. وقد ارتبط بذلك وترتب عليه ضعف وهشاشة المؤسسات السياسية من ناحية، وسيادة الهيمنة والطابع البيروقراطي في العملية السياسية من ناحية ثانية، وسيطرة الدولة على مؤسسات وتنظيمات المجتمع من ناحية ثالثة، مدعومة بسياسات وإجراءات قمعية، بجانب توظيف أجهزة الإعلام ومؤسسات التعليم والتنشئة من أجل تدعيم السلطة الحاكمة وتسويق خطابها السياسي، وتكريس قيم الطاعة والولاء والأبوية السياسية لدى المواطنين عوضاَ عن مواطنين مثقفين سياسياً يؤدون واجبهم الأساسي بمساءلة ومحاسبة هذه السلطات الحاكمة بموضوعية وعقلانية تضع حداً للفساد الإداري المتفشي في جميع المؤسسات العربية سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص او المجتمع المدني، لذلك تم خلق أجيال عربية تملك من الثقافة السياسية ما تسمح بها الأنظمة الحاكمة وسياساتها وقراراتها دون أن يكون لها أي دور يذكر في صنع تلك السياسات والقرارات. وتدريجياً أصبحت التعبئة السياسية بديلاً عن الثقافة السياسية على مستوى الأنظمة الحاكمة كما على مستوى التنظيمات والتيارات السياسية والفكرية.